تدخين الأمهات .. هل يمنع الحضانة ويوجب العقوبة ؟!!

التدخين عادة ابتلي بها الكثير من الناس بالرغم من كثرة التحذيرات الطبية التي تبين خطورة هذا الأمر من جهة، وبالرغم من الفتاوى العديدة الصادرة من عدة هيئات والتي تبين حرمة التدخين وضرورة الإقلاع عنه. ومع مرور الزمن لم يقتصر أمر التدخين على الرجال فحسب، بل أخذ النساء في مزاحمة الرجال ومنافستهم في التدخين، مما دعا الأطباء إلى إجراء الأبحاث للنظر في مدى تأثير التدخين على الجنين وعلى الرضاعة وعلى الأولاد فيما بعد، لتأتي النتائج والفحوصات مظهرة خطورة تدخين الأمهات وعظم الضرر الذي يلحقنه بأولادهن من جراء التدخين. التدخين السلبي وأثبتت الدراسات أيضا خطورة ما يعرف بالتدخين السلبي، وهو استنشاق رجل لا يدخن هواء رجل مدخن، بل ظهر أنه أخطر وأعظم ضررا من التدخين المباشر، ويزداد الأمر خطورة عندما يكون أحد الأبوين مدخنا، خاصة الأم نظرا لالتصاق الأطفال بها أكثر من الأب ولقضائهم معظم أوقاتهم معها، مما يجعل أطفال الأم المدخنة يتعرضون بنسبة أكبر لمخاطر التدخين السلبي والذي يؤثر على صحتهم وحياتهم. ولسنا هنا بصدد عرض للأضرار الطبية وما يترتب عليها من مخاطر على الأطفال، فإن هذا أمر ثابت ومقرر ولا شك فيه. أسئلة عديدة تدور حول الموضوع لكننا نحب أن نتعرف على وجهة النظر الإسلامية تجاه الأم المدخنة، ليس من ناحية حرمة التدخين، وإنما من نواح أخرى ترتبط بالعلاقة التي بين الأم وأبنائها، فلو طلقت الأم المدخنة هل يبقى الأولاد معها في حضانتها فتنتقل أضرار التدخين إليهم، أم أن التدخين يعد سببا لمنع الحضانة؟ وهل من حق الأب غير المدخن أن يطلب من القضاء منع الأم المدخنة من حضانة أطفاله خوفا عليهم؟ وهل ينتقل الأطفال بذلك إلى حضانته؟ وماذا لو لحق ضرر بالغ بالأطفال أو بالجنين نتيجة لتدخين الأم؟ وهل تجرم المرأة بمثل هذا الأمر؟ التقينا بعدد من العلماء والقضاة في السعودية ومصر، وطرحنا عليهم هذه الأمور في حوار شامل معهم، لنأخذ فكرة واضحة عن موقف الإسلام من هذا الأمر، وهو دين الرحمة والمودة والعطف. أهداف الحضانة تذهبها الأم المدخنة وقبل الإجابة على هذه الأسئلة يقول الأستاذ الدكتور محمد نبيل غنايم (أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة): مما لا شك فيه أن التدخين حرام، وهو من الخبائث التي حرمها الله تعالى لقوله تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وذلك لما في التدخين من إتلاف للنفس -كما قال الأطباء- وإتلاف للمال، وتزداد حرمة التدخين بانتقال ضرره إلى الآخرين، وهو ما يعرف بالتدخين السلبي -كما ثبت ذلك بما لا يدع مجالا للشك- لأنه حينئذ يناقض منهج الإسلام في تحريمه الضرر وإلحاقه بالآخرين لقوله صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار وفيما يتعلق بقضية الحضانة يقول الدكتور نبيل غنايم: كما نعلم فإن المقصود من الحضانة أنها للرعاية والحماية من الضرر، ولذلك أناطها الشارع بالأمهات لأنهن الأكثر حنانا وصبرا ورعاية للأبناء وتربيتهم، ولذا قال ا لفقهاء: ولا يقر محضون بيد من لا يصونه ويصلحه لفوات المقصود والغرض من الحضانة، ويستفاد من ذلك أن الحاضن إذا كان يضر بالمحضون فإن الحضانة تنزع منه من باب أولى، ولما كان التدخين ضارا بالمدخن وبغير المدخن خلقا وسلوكا وصحة، فإنه يسقط الحضانة عن الأم المدخنة. ضوابط الحضانة والموقف من الأم المدخنة ويؤكد الدكتور أبو سريع عبد الهادي (أستاذ الفقه المقارن بجامعة الفيوم بمصر) على أن الحضانة هي القيام بحفظ الصبي الذي لا يستقل بأمر نفسه، ووقايته مما يؤذيه، وهي واجبة، والإهمال فيها يعرض الصبي للضياع، والأم لها حق الحضانة ما لم تتزوج ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم - : أنت أحق به ما لم تنكحي ويضيف الحضانة لها شروط لا بد من توافرها وهي الكفاءة، والقدرة على الحضانة، والعقل، والبلوغ، والحرية، والأمانة وحسن الخلق والقدرة على التربية، وألا تتزوج ا لأم، ولذا فلا حضانة لمهملة شئون بيتها، بحيث يخشى من إهمالها ضياع الطفل، أو إلحاق الضرر به، ولا حضانة لفاسقة لأن الفاسقة لا تؤمن على الصبي، وربما يتخلق بأخلاقها، أما التدخين فإنه مع حرمته لا يليق بالمرأة، وخاصة إذا كانت أما، وإذا ثبت تدخينها فإن الحضانة تسلب منها وتنتقل إلى من يليها، ومن حق والد الطفل أن يرفع دعوى ضدها إذا لم تقبل انتقال الحضانة منها. وبالرغم من أن كلا الأستاذين الفاضلين يؤكدان على أن التدخين سببا لحرمان الأم من الحضانة، فإن الدكتور محمد نبيل غنايم يجعل ذلك مشروطا بما إذا ثبت أن الأم أو الحاضن يدخن في حضور الأطفال، أما إذا كانت الأم أو الحاضن يدخن بعيدا عن الأطفال ويصونهم عن ذلك، فلا يعتبر التدخين حينئذ مسقطا للحضانة لعدم ثبوت الضرر، فالفيصل في الموضوع هو إلحاق الضرر بالصغير، فكلما وجد الضرر سقطت الحضانة وإذا انتفى الضرر بقيت الحضانة. رفع دعوى قضائية ضد الأم المدخنة ولكن ماذا عن قيام الأب أو غيره برفع دعوى قضائية على الأم المدخنة وهل له الحق في ذلك؟ في بيانه يقول الدكتور جمال شعبان حسين (عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر) إن رفع الدعوى لطلب حق قبل الغير أمر يتعلق بإرادة صاحب الحق أو وليه أو من يقوم مقامه، فإن شاء رفعها وإن شاء سكت عنها، مادام أن المدعي من ذوي الأهلية لإقامة الدعوى، وكذلك له صفة تربطه بالمدعى به، وله مصلحة شرعية اعتبرها الشارع وأباح المنافع المترتبة عليها. وهذا ينطبق على دعوى طلب رفع الحضانة عن المدخنة وذلك لثبوت ضرر التدخين، وحرمته عند أغلب الفقهاء. أما حكم القاضي في مسألة رفع الحضانة فهو يرجع إلى قناعة القاضي بحرمة التدخين أو عدم قناعته. فالبعض يرى أن التدخين لا يرقى إلى درجة التحريم فهو لا يخرج عن الكراهة التحريمية وبالتالي لا يجوز رفع حضانة الأم عن ولدها بسبب التدخين. وإن كنت أرى - والله أعلم- أنه رغم اختلاف آراء الفقهاء حول حرمة التدخين إلا أنه لا اختلاف حول ثبوت ضرره، ومن هنا نجد أن القاسم المشترك في هذه الدعاوى جميعها عند نظر أي منها هو حدوث الضرر وليس ثبوت الحرمة. فإن الضرر الذي يصيب الصغير من جراء تدخين أمه يقدره القاضي إما بنفسه وإما بواسطة الخبراء الفنيين في هذا المجال . القضاة يتفقون مع العلماء وإذا كان ما سبق هو نظرة الفقهاء تجاه حضانة الأم المدخنة، فما هي نظرة القضاة؟ وهل تتفق وجهات النظر أم تختلف؟ لمعرفة ذلك التقينا بالشيخ إبراهيم بن صالح الخضيري (القاضي بالمحكمة الكبرى بالرياض) والذي أفاد بأن من حق الأب أو أحد ا لأولياء الاعتراض على حضانة الأم المدخنة لأطفالها نظرا لإلحاق الضرر بالأطفال، سواء من الناحية الصحية أو النفسية أو الأخلاقية. وإذا ثبت للقاضي تدخين الأم فإن له أن يحكم بنقل الأطفال من حضانتها إلى حضانة غيرها استنادا للقاعدة الفقهية الضرر يزال، ولكن بشرط أن لا يكون من ستنتقل إليه الحضانة غير واقع في نفس المحظور وهو التدخين، إذ لا فائدة حينئذ من نقل الحضانة إليه، وقد يرى القاضي عدم نقل الحضانة من ا لأم المدخنة، وذلك كما لو كانت المفسدة المترتبة على نقله أعظم من المفسدة المترتبة على تركه مع الأم والخوف من ضياع الأطفال في حالة نقلهم. قد يحكم القاضي برفع الحضانة من الأبوين لتدخينهما بل يذهب الشيخ إبراهيم إلى أبعد من ذلك، وهو إذا كانت الأم والأب يدخنان وكان هناك من أولياء الأطفال من يمكنه القيام بحضانة الأطفال، ففي هذه الحالة فإن للقاضي الحكم برفع الحضانة من الأبوين وتسليم الأطفال إلى من يصونهم ويحفظهم. ويفصل الشيخ سليمان بن عبد الله الماجد (القاضي بمحكمة الأحساء ) بأن المقصود من الحضانة الحفظ والصون والتربية على الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة بالإضافة إلى العناية بصحته ومظهره وهيئته ونفسيته ودفع كل ما يؤدي إلى ضرر في أخلاقه وصحته، ولذا كانت الحضانة عند ا لأم لكونها أشفق وأرحم وأكثر عاطفة وصبرا على ما يحدث من الأولاد. وإذ نظرنا إلى الأم المدخنة وجدناها بفعلها هذا تنافي المقصود من الحضانة، إذ تدخينها يؤدي إلى إصابة الطفل بأمراض عديدة بالإضافة إلى تنشئته على صفات مرذولة وأخلاق مذمومة، وإذا انتفى الإصلاح والعناية في حضانة الأم وجب عند ذلك نقل حضانة الطفل إلى من له الحق في حضانته بعد الأم كأم ا لأم أو أم ا لأب وهكذا، بشرط أن يكون من تنتقل إليه الحضانة خاليا من هذه الصفة وتوفرت فيه شروط الحضانة وانتفعت عنه الموانع. ويضيف الشيخ سليمان الماجد أنه بعد بلوغ الطفل سن السابعة، فإن الأصل أن يكون عند والده إذا كان ذكرا باعتبار أن ذلك هو الأصلح له، لكن إذا ثبت أنه مدخن وجب نقله إلى الأم، فإذا كانت الأم مدخنة وجب نقله إلى غيرهما من أقاربه الذين يمكن لهم أن يرعوه ويهتموا بشؤونه . وهذا كله بضابط المصلحة. هل يوجب التدخين عقوبة معينة في الإسلام ونأتي الآن إلى قضية أخرى، وهي ماذا لو ترتب على تدخين الأم الحامل إسقاط الجنين أو موته، أو لحقت بأطفالها عاهة أو مرض دائم، هل يلحق الأم في هذه الحالة تجريم وبالتالي تطبق عليها عقوبة معينة، أو تطالب بتعويض مادي من دية وغير ذلك. يقول الأستاذ الدكتور نبيل غنايم إنه لم يرد التدخين ضمن الجرائم التي يعاقب مرتكبها بحد من الحدود الشرعية كالزنى والسرقة والسكر وغيرها، ولم تنص القوانين المدنية أيضا على عقوبة محددة للتدخين، إلا أنه لثبوت أضراره ينبغي أن يكون فيه عقوبة تعزيرية، وهي عقوبة غير مقدرة شرعا ومفوض إلى القاضي تقديرها، وقد تكون جلدا قليلا أو غرامة مالية أو حبسا أو توبيخا، لكنها في كل الأحوال لا تصل إلى الحدود المقررة على الجرائم. القضاء وعقوبة التدخين وتتفق الوجهة القضائية حول تقرير عقوبة تعزيرية على المدخنة، كما يؤكد ذلك كل من الشيخ سليمان الماجد حيث يقول إذا لحق بالطفل ضرر بالغ على صحته من جراء تدخين أمه فإن للقاضي في هذه الحالة إقامة التعزير على الأم بما يراه رادعا لها ولغيرها، سواء كان ذلك بالحبس أو الضرب أو التوبيخ أو غير ذلك، وقد يصل الأمر بأن يحكم القاضي على المرأة بتحمل نفقات علاجه كاملة نتيجة لما صدر منها من تصرف ضار مشين ويرى الدكتور بيومي محمد البيومي (القاضي بالمحاكم المصرية ونائب رئيس مجلس الدولة) أنه لا مانع قانونا من رفع دعوى بطلب تعويض أو توقيع عقوبة، وأما من جهة الحكم بالتعويض أو غيره فإنه يرجع للحالة التي أمام القاضي ومدى توافر الخطأ ثم الضرر، وكذلك توافر علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فإذا ما ثبت أن الخطأ وهو التدخين كان السبب المباشر لإحداث الضرر بالطفل، وأن هذا الضرر كان نتيجة مباشرة لهذا الخطأ، وكان بين هذا الخطأ وهذا الضرر المترتب عليه علاقة مباشرة ومؤكدة هنا يقرر القاضي التعويض حسب الحالة المعروضة أمامه. أما الشيخ إبراهيم الخضيري فيرى أنه إذا حدث موت للجنين أو الطفل بسبب تدخين الأم فإن للقاضي أن يحكم بإلزام الأم سهما من الدية للزوج والأولاد، إذا تأكد القاضي بأن التدخين من قبل الأم كان هو ا لسبب في الوفاة. ولعل ما سبق أظهر حرص الإسلام على رعاية الأطفال صحيا وخلقيا ومراعاة حقوقهم وما لهم، فأي دين وصل إلى ما وصل إليه الإسلام.