خواطر وأطياف في الطريق إلى جزر واق الواق

في الطريق إلى طوكيو، تنهمر في البال خواطر وذكريات وأطياف شتى، ولا سيما في أيام الربيع هذه، والناس هناك يتهيؤون لاستقبال موسم أزهار الكرز (ساكورا) كما يستقبلون أجمل الأعياد، رسميا وشعبيا على حد سواء. قطعت هذه المسافة المتعبة ثلاث مرات من قبل، وهذه هي الرابعة في الذهاب.. ومثلها في الإياب كذلك. كانت المرة الأولى في ربيع 1993، والأخيرة في ربيع 1996. خطر الزلازل ورهبتها أول ما يستيقظ في الذاكرة. لقد شهدت خمس هزات أرضية في تلك السنوات الثلاث. كانت الأولى مرعبة جدا، وإن لم تتجاوز شدتها أربع درجات بمقياس ريختر السباعي. كنت في مكتبي بالجامعة والساعة حوالي الرابعة، وكان معي طالب دراسات عليا يبحث في شعر ابن الرومي. لا أدري إلى أي حد كان تشاؤم الشاعر متسقا مع حدوث الزلزال. إن تلك اللحظات المروعة تعود بجزئياتها المذهلة وكأني أعيشها الآن: فجأة بدأ المكتب بيننا يرتج، خطر لي أن الحركة صادرة من الطالب، لكنه كان هادئا غارقا في الكتاب. تذكرت أن التهذيب الياباني لا يسمح للفتى بأي تصرف غير لائق في حضور من هو أكبر منه سنا. سألته ما هذا؟ أجاب على الفور: جيشين Jishin ثم استدرك موضحا: زلزال، هزة أرضية. ولم يكد ينهي كلماته حتى بدأت النافذة الواسعة تتراقص أمامي والكتب تتساقط من رفوف المكتبة التي تغطي نصف الجدار ورائي. وقد حفظت تلك الكلمة لأنها مقلوب Shijin وتعني: شاعر. كنت قد تلقيت من بلدية (موساشينو)، حيث أسكن، تعليمات مفصلة تحدد قواعد التصرف السليم في تلك الأحوال الطارئة. نهضت بسرعة وأنا أسأل الشاب: ألا ننزل؟ أجاب: لا فائدة. ثم هدأ فجأة كل شيء كما بدأ. تابع الحديث قائلا: نحن في الدور الرابع، والمصعد غير آمن في هذه الحال، كما أن استخدام سلالم الدرج بلا جدوى لأن وقت الزلزال لا يزيد على دقيقة وربما كان أقل من ذلك. كانت فعلا ثواني معدودات، لكنها من شدة الهول كالدهور. في الخامسة غادرت الجامعة وتوجهت بسرعة إلى محطة شنجيكو في مركز المدينة حيث ناطحات السحاب حوالي خمسين دورا أو أكثر. كنت أتصور أن الخطر يتناسب شدة مع ارتفاع العمارة، فإذا كانت أبنية الجامعة وهي لا تزيد على أربعة أدوار قد روعتني، فماذا حدث لبرجي البلدية التوأمين؟ وماذا جرى لمقهى (الشمس) في الدور الخمسين من مبنى (سوميتومو) المجاور حيث اعتدت أن أتناول القهوة مع الأصدقاء في نهاية الأسبوع؟ لكني فوجئت بالأبراج صامدة شامخة وكأنها لم تسمع بالزلزال. أمواج البشر في الشوارع والأسواق يتابعون حياتهم الرتيبة، والمحطة الواسعة التي تودع وتستقبل الألوف في كل دقيقة ما زالت على حالها كما عهدتها في الأيام السابقة. الناس في اليابان يستقبلون هول الزلزال بصبر هادئ واستسلام قدري عجيب، وكأنهم اعتادوا تلك الأرجوحة غير السارة بين حين وآخر، وبما لا يقل عن حفلتين كبيرتين في كل عام. أما الحفلات الصغيرة التي تحدث بعيدا في المحيط الهادئ فلا تشغل إلا أجهزة الرصد ومنابر الإعلام. لكنها تشكل خطرا كبيرا على مراكب الصيد وسكان الشواطئ، إذا أرسلت دفعة من أمواجها الشطية المدمرة التي قد يرتفع بعضها عشرة أمتار ويسمونها تسونامي Tsunami. لكن هذه الأرض البركانية النشطة منحت اليابان آلافا من الينابيع الحارة التي اعتادوا أن يستحموا فيها. ولهذه البرك الحارة اسم جميل، Onsen ولابد أن يشعر المستحم بانتعاش نفساني عجيب، ولاسيما في الشتاء ونتف الثلج تتساقط من حولك. هناك أخطار موسمية شتى في طبيعة اليابان. فإلى جانب الزلازل، تشكل الأعاصير الكاسحة أخطارها، وكذلك البراكين المتربصة بجيرانها، وإن كانت أقل احتمالا، ثم تأتي الانهيارات الثلجية، وفي آخر سلم الخطر يكمن احتمال وقوع عطب ما في أحد المفاعلات النووية (وكان عددها 46 مفاعلا) لتوليد الطاقة. وقبل سنوات أدت الانهيارات الثلجية في شمال اليابان إلى سقوط صخرة كبيرة، تزن عشرات الأطنان، على نفق فدمرت جانبا منه وأغلقته، وانهار سطح النفق على باص مدرسي عابر. كان الضحايا مجموعة من التلاميذ في رحلة. وقد شغلت تلك الحادثة الموجعة اليابان كلها وتركت المهندسين وحتى كبار المسؤولين حائرين لا يعرفون كيف يتصرفون. بعضهم اقترح تفجير الصخرة لزحزحتها عن النفق، لكن البعض الآخر خشي أن يسبب التفجير انهيارات صخرية جديدة أخطر من سابقتها. ومر أسبوع في البرد الشديد، وأهالي الأطفال وآلاف الناس يبيتون في العراء، ولم تستطع أحدث الآليات الخاصة بالطوارئ وعمليات الإنقاذ أن تفعل شيئا. وفي النهاية الفاجعة، لم يكن ثمة أي أمل بنجاة أحد. كنت أتابع تلك الحادثة في مختلف وسائل الإعلام وأنا أتأمل في عجز التكنولوجيا، رغم التقدم المذهل، تجاه ظاهرة بسيطة من ظواهر الطبيعة، فكيف يكون الأمر في الزلازل والأعاصير؟ الله لطيف بعباده، والعناية الإلهية وحدها قادرة على درء أذى تلك الكوارث. وحين أعود إلى أوراقي القديمة تطالعني هذه الأبيات التي كتبتها إثر تلك الهزة: حدثوني عرضا عن رهبة الزلزال عن هول الثواني ساعة الأرض تميد والسماوات تمور وترى الناس سكارى... (صدق الله العظيم) الغربان Karasu في طوكيو كثيرة، وكنت أصحو كل يوم في الخامسة صباحا على سيمفونية نعيبها. وقد خطر لي أن هناك علاقة ما بين أصوات الغربان وكلمة (واق واق) المنحوتة من سماع تلك الأصوات وإيحاءاتها. وفي أحد اللقاءات بيني وبين عدد من الأساتذة المستعربين اليابانيين تطرق الحديث فيه إلى جزر (واق الواق) الواردة في إحدى مغامرات السندباد، إن أسعفتني الذاكرة. والسؤال الذي كان يشغل بالي هو: هل اليابان، ملاذ الغربان، هي المقصودة بتلك الجزر؟ لذلك، طرحت عليهم السؤال. ولأن لهذا الطير عندهم دلالات وإيحاءات تختلف عن صورته التشاؤمية السوداء عندنا فقد تشعب الحوار بيننا، ثم التفت إلي أحدهم وقال: هل تعرف معنى Wakuu؟ ولم يلبث أن أراحني من الجواب متابعا: (واكو) في اللغة اليابانية القديمة تعني (قرصان أو قراصنة)، ويبدو أن التجار العرب الأوائل الذين اقتربوا من بعض الجزر اليابانية، وهم مسافرون في سفن شراعية صينية، كانوا يصرخون كلما تعرضوا لخطر القراصنة: واكو.. واكو... ومن هنا، على ما يبدو لي، جاءت إلى العربية كلمة (واق الواق). وفي المستقبل، إذا تيسر لأحد الباحثين في الدراسات اللغوية المقارنة أن يتأكد من حقيقة هذه الكلمة فأرجو أن يهديها إلى القرية الإلكترونية وراعي مشروع هذه القرية الأستاذ محمد أحمد خليفة السويدي الذي كان له الفضل في أن تخرج هذه الرحلة من فضاء الحلم إلى عالم النور لتتجسد أخيرا في كتاب. السؤال الآخر الذي كان يشغلني أحيانا في تلك البلاد ولم أجد له جوابا شافيا هو: كم نهرا في طوكيو؟ أعرف أرا ـ كاوا، إدو ـ غاوا في الشمال، سوميدا ـ غاوا في الوسط، تاما ـ غاوا في أقصى الجنوب. أما نكا ـ غاوا، وشنكاشي ـ غاوا، أياسيه ـ غاوا، فبعضهم يقول إنها خارج حدود طوكيو الإدارية، وبعضهم الآخر يقول إنها تسميات مزدوجة للأنهار الرئيسية السابقة. ولأني لم أصادف أستاذ جغرافيا ليعطيني الجواب الأكيد، فقد تبين أن الاختصاص في عصرنا غدا عبئا على الحياة: فأنت لا تعرف كل ما في داخل بيتك بالتفصيل، لأن ذلك يقع خارج اختصاصك. وهذا يعني أن الإنسان المعاصر في الدول المتقدمة لا يتمتع مثلنا بمعرفة كل شيء، ولكنه (مبرمج) بامتياز لمعرفة اختصاصه وحسب. طلبت من أحد الجيران يوما أن يساعدني في الحصول على موعد مع مختص بإعداد حفلات الشاي على الطريقة اليابانية التقليدية، فكان لي ذلك. ومن عتبة البوابة الخارجية بدأت انحناءات التحية المدروسة بدقة إلكترونية، ثم عبرنا الحديقة ودخلنا غرفة (الضيافة). وقبل أن يباشر (المعلم) بطقوس تقديم الشاي الأخضر (الياباني أو الصيني) راح يعتذر موضحا أنه لم يدرس إلا ثمانية أعوام وبقي عليه عامان آخران. وفي تلك الحفلة المديدة التي لا أتذكر إلا صورا غائمة من طقوسها، كانت زوجته تساعده: كانت تدخل زاحفة على ركبتيها من باب مربع لايزيد ضلعه عن متر، فتقدم له عدة الشاي أو الإبريق واللوازم الأخرى ثم تخرج زحفا كما دخلت، دون أن تدير لنا ظهرها. وهو يقوم بتقديم الشاي لنا زاحفا على ركبتيه كذلك. شارحا كل شيء دون أن يغفل عن الانحناءات المرافقة لكل فقرة من فقرات الحفلة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الشاي كالأرز (نعمة سماوية) يحيطونه بهالة من القداسة. وحين ندرس تاريخ دخوله إلى اليابان مع الكهنة البوذيين ندرك سبب التقديس، وخصوصا أنهم كانوا يصنفونه في عداد الأدوية، كما أنه ما زال يقدم في المقاهي المحيطة بالمعابد، وحتى في بعض المقاهي العصرية يقدم مجانا بعد أن تتناول القهوة أو الشاي العادي.