معجزات الأنبياء كرامة إلهية بعيدة عن الشعوذة
كل ما لم تبلغه طاقة البشر، ولم يقع في دائرة قدرتهم، فهو معجزة، وقد تطلق المعجزة على ما خرج عن طاقة العامة من الخلق دون الخاصة، كبعض المسائل العلمية، واختراع بعض الآلات، والأجهزة الحديثة، وغيرها مما لا يقوى عليه إلا خواص الناس، وكالغوص، والسباحة، وحمل الأثقال، وهذا عجز نسبي يكون في مخلوق دون آخر. وأما المراد من المعجزة في علم التوحيد: فهي الأمر الخارق للعادة الخارج عن سنة الله في خلقه، الذي يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا له في دعواه، وتأييدا له في رسالته، مقرونا بالتحدي لأمته، ومطالبتهم أن يأتوا بمثله، فإذا عجزوا كان ذلك آية من الله - تعالى - على اختياره إياه، وإرساله إليهم بشريعته. حقيقة السحر أما السحر : فهو في اللغة كل ما دق، ولطف، وخفي سببه، فيشمل قوة البيان، وفصاحة اللسان، لما في ذلك من لطف العبارة، ودقة المسلك، ويشمل النميمة لما فيها من خفاء أمر النمام، وتلطفه في خداع من نم بينهما ليتم له ما يريد من الوقيعة، ويشمل العزائم والعقد التي يعقدها الساحر، وينفث فيها مستعينا بالأرواح الخبيثة من الجن، فيصل بذلك في زعمه إلى ما يريد من الأحداث والمكاسب. الفرق بين المعجزة والسحر 1- فالمعجزة ليست من عمل النبي وكسبه. إنما هي خلق محض من الله (تعالى) على خلاف سنته في الكائنات. وأما السحر: فمن عمل الساحر، وكسبه سواء أكان تعويذات، أم بيانا، أم نميمة، أم غير ذلك، وله أسبابه ووسائله التي قد تنتهي بمن عرفها ومهر فيها، واستعملها إلى مسبباتها، فليس خارقا للعادة، ولا مخالفا لنظام الكون في ربط الأسباب بمسبباتها، والوسائل بمقاصدها. 2- والمعجزة: تظهر على يد مدعي النبوة لتكون آية على صدقه في رسالته التي بها هداية الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والأخذ بأيديهم إلى ما ينفعهم في عقائدهم، وأخلاقهم، وأبدانهم، وأموالهم. أما السحر: فهو خلق ذميم، أو خرافة، أو صناعة يموه بها الساحر على الناس، ويضللهم، ويخدعهم بها عن أنفسهم، وما ملكت أيديهم، ويتخذها وسيلة لكسب العيش من غير حله، ويفرق بها بين المرء وزوجه، والصديق وصديقه، وبالجملة يفسد بها أحوال الأمة بخفاء، والناس عنه غافلون. 3- سيرة من ظهرت على يده المعجزة حميدة. وعاقبته مأمونة، فهو صريح في القول والفعل، صادق اللهجة، حسن العشرة، سخي، كريم، عفيف عما في أيدي الناس، يدعو إلى الحق، وينافح دونه بقوة وشجاعة. أما الساحر: فسيرته ذميمة، ومغبته وخيمة، خائن خداع، سيئ العشرة، يأخذ ولا يعطي، يدعو إلى الباطل، ويسعى جهده في ستره، خشية أن يفتضح أمره، وينكشف سره، فلا يتم له ما أراد من الشر والفساد. 4- من ظهرت على يده المعجزة يقود الأمم والشعوب إلى الوحدة والسعادة ويهديها طريق الخير، وعلى يده يسود الأمن والسلام، وتفتح البلاد، ويكون العمران. أما الساحر: فهو آفة الوحدة ونذير الفرقة، والتخريب والفوضى، والاضطراب. أنواع المعجزات إن آيات المعجزات التي أيد الله بها رسله قد اختلفت أنواعها، وتباينت مظاهرها وأشكالها، إلا أنها تجتمع في أن كلا منها قد عجز البشر أن يأتوا بمثله، منفردين أو مجتمعين، فكانت بذلك شاهد صدق على الرسالة، وحجة قاطعة تخرس الألسنة، وينقطع عندها الخصوم، ويجب لها التسليم والقبول. ويغلب أن تكون معجزة كل رسول مناسبة لما انتشر في عصره، وبرز فيه قومه، وعرفوا بالمهارة فيه، ليكون ذلك أدعى لفهمها، وأعظم لدلالتها على المطلوب، وأمكن في الالتزام بمقتضاها، ففي عهد موسى، عليه السلام، انتشر السحر، ومهر فيه قومه، حتى أثروا به على النفوس، وسحروا به أعين الناظرين، وأوجس في نفسه خيفة منه من شهده، وإن كان عالي الهمة، قوي العزيمة، فكان ما آتاه الله نبيه موسى فوق ما تبلغه القوى والقدر، وما لا يدرك بالأسباب والوسائل، وقد أوضح الله ذلك في كثير من الآيات، منها قوله (تعالى) وما تلك بيمينك يا موسى? قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى? قال ألقها يا موسى? فألقاها فإذا هي حية تسعى? قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى? واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى? لنريك من آياتنا الكبرى (سورة طه، الآيات: 17- 23) ولهذا بهت السحرة، وبطل ما جاءوا به من التمويه والتضليل، وامتاز الحق عن الباطل. معجزة عيسى عليه السلام وفي عهد المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، برع بنو إسرائيل في الطب فكان مما آتاه الله أن يصور من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وإحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، وإحياء الموتى بإذن الله، إلى غير ذلك من الآيات التي ثبتت بها رسالته، وقامت بها الحجة على قومه. وفي عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان العرب قد بلغوا الغاية في فصاحة اللسان، وقوة البيان، وجرت الحكمة على ألسنتهم حتى اتخذوا ذلك ميدانا للسباق والمباراة، فأنزل الله القرآن على رسوله محمد، صلى الله عليه وسلم، فكانت بلاغته، وبيانه، وما تضمنه من الحكم والأمثال جانبا من جوانب إعجازه، قال صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة (واه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه). وليست معجزات موسى، وعيسى، ومحمد عليهم السلام، مقصورة على ما ذكر، وإنما ذلك بيان لما تحدى به كل منهم قومه، وجعله قاعدة يبني عليها دعوته، وتثبت بها رسالته، وإلا فلهؤلاء وغيرهم من الأنبياء كثير من الآيات البينات، والعلامات الواضحات التي دلت على صدقه سوى ما تحدى به كل نبي قومه. بعض العلامات على صدق الأنبياء منها: ما يرجع إلى سيرتهم قبل الرسالة، فإن الله (تعالى) قد أعدهم لتحمل أعباء رسالته، ومنها ما يرجع إلى ثبات جأشهم، وقوة بأسهم في مقام الدعوة، والجهاد في سبيل نصرتها، ونشرها بنفسه، وبمن آمن معه، وما أقلهم عددا، وأضعفهم شوكة، مع غنى عدوهم، وكثرة عددهم، وعددهم، وقوة سلطانهم، إلى غير ذلك مما يدل على صدق الداعي في دعوته، وكمال يقينه بها. ومنها: ما يرجع إلى سلامة الشريعة التي يدعون إليها، وحكمتهم في حمل الناس عليها، وقوة حجاجهم في الدفاع عنها، وما شوهد من آثارها في صلاح من اهتدى بها من الأمم في الدولة، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد والحرب، والسلم، وغير ذلك من أحوال الشعوب، حتى إذا حرفوها عن مواضعها، فأولوها على غير وجهها، أو أعرضوا عنها، وتركوا العمل بها دالت دولتهم، وساءت حالتهم، فإن العاقبة للمتقين، والخيبة والخزي على المفسدين. ومنها: ما يرجع إلى تعليم الصناعات، وتيسير طرقها كإسالة عين القطر، وإلانة الحديد لداود، عليه السلام، على خلاف سنة الكون، ليكون ذلك آية له وكرامة، وليكون سعة للعباد ورحمة لهم، إلى غير ذلك مما لا يحصيه إلا الله. نقلا من كتاب مذكرة التوحيد للشيخ عبد الرزاق عفيفي (رحمه الله)