الأمثال القرآنية .. حكم وأسرار
الحقائق السامية في معانيها وأهدافها تأخذ صورتها الرائعة إذا صيغت في قالب حسن يقربها إلى الأفهام بقياسها على المعلوم اليقيني، والتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، وذلك مثل تشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقيام النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، وهو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه، ومن العلماء من أفرد الأمثال في القرآن بالتأليف، ومنهم من عقد لها بابا في كتاب من كتبه، فأفردها بالتأليف أبو الحسن الماوردي، وعقد لها بابا السيوطي في الإتقان، وابن القيم في كتاب إعلام الموقعين حيث تتبع أمثال القرآن التي تضمنت تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم فبلغت بضعة وأربعين مثلا. الأمثال القرآنية عبر وتذكير للمتدبر وقد أخبرنا الله تعالى بضرب الأمثال في القرآن الكريم، فقال جل شأنه ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)الزمر:27? وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)الحشر:21? وأخرج البيهقي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إن القرآن نزل على خمسة أوجه(1)حلال، (2) وحرام، (3) ومحكم، (4) ومتشابه، (5) وأمثال، فأعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال. قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات، المثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام، وقد عد الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من (علوم القرآن) فقال: ثم معرفة ما ضرب فيه الأمثال الدوال على طاعته، المبينة لاجتناب معصيته، وترك الغفلة عن الحفظ والازدياد من نوافل الفضل. أقوال لبعض العلماء في الأمثال وقال الشيخ عز الدين: إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرا ووعظا، فما اشتمل منها على تفاوت ثواب أو على إحباط عمل أو على مدح أو ذم أو نحوه فإنه يدل على الأحكام، وقال غيره: ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالمشاهد، وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان بتفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله، قال تعالى: (وضربنا لكم الأمثال) إبراهيم:45? فامتن علينا بذلك لما تضمنه من الفوائد. قال الزركشي في البرهان: ومن حكمته تعليم البيان وهو من خصائص هذه الشريعة. وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من الشاهد، فإن كان الممثل له عظيما كان الممثل به مثله، وإن كان حقيرا كان الممثل به كذلك. وقال الأصبهاني: لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق، تريك المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه مشاهد، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وفيه أيضا من تقرير المقصود ما لا يخفى، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه (الأمثال) ومن سور الإنجيل سورة تسمى (الأمثال) وفشت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء.... تعريف الأمثال الأمثال جمع مثل، والمثل والمثل والمثيل: كالشبه والشبه والشبيه لفظا ومعنى، والمراد به هنا إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالا، والمثل بهذا المعنى لا يشترط إن يكون له مورد، كما لا يشترط أن يكون مجازا مركبا. الأمثال القرآنية لها صور عديدة وإذا نظرنا إلى أمثال القرآن التي يذكرها المؤلفون وجدنا أنهم يوردون الآيات المشتملة على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل بطريق الاستعارة، أم بطريق التشبيه الصريح، أو الآيات الدالة على معنى رائع بإيجاز، أو التي يصح استعمالها في ما يشبه ما وردت فيه، فإن الله تعالى ابتدأها دون أن يكون لها مورد من قبل. فأمثال القرآن لا يستقيم حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبه والنظير، ولا يجوز حملها على ما يذكر في كتب اللغة لدى من ألفوا في الأمثال، إذ ليست أمثال القرآن أقوالا استعملت على وجه تشبيه مضربها بموردها، كما لا يستقيم حملها على معنى الأمثال عند علماء البيان، فمن أمثال القرآن ما ليس باستعارة، وما لم يفش استعماله، فابن القيم يقول في أمثال القرآن: تشبيه شيء بشيء في حكمه وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر، ويسوق الأمثلة: فنجد أكثرها على طريقة التشبيه الصريح كقوله تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه ن السماء (يونس:24) وفي الحديث الصحيح (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، وذلك مثل ممن فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. من الأمثال ما لا يشتمل على تشبيه ولا استعارة ومنها ما يجيء على طريقة التشبيه الضمني، كقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه، الحجرات:12) إذ ليس فيه تشبيه صريح. ومنها ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة كقوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وأن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب المطلوب)الحج:73? فقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا) قد سماه الله مثلا وليس فيه استعارة ولا تشبيه، وأما المثل في الأدب، فهو قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكي فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده، مثل رب رمية من غير رامأي رب مصيبة حصلت من رام شأنه أن يخطئ، وأول من قال هذا الحكم بن يغوث النقري، يضرب للمخطئ يصيب أحيانا، وعلى هذا فلا بد له من مورد يشبه مضربه به. المثل قد يراد به القصة والحال ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات كقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن) محمد:15? أي قصتها وصفتها التي يتعجب منها، وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في (كشافه) فقال: (والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل) ثم قال: وقد استعير المثل للحال أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. وهناك معنى رابع ذهب إليه علماء البيان في تعريف المثل فهو عندهم المجاز المركب الذي تكون علاقته المشابهة متى فشا استعماله وأصله الاستعارة التمثيلية كقولك للمتردد في فعل أمر: (ما لي أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى). أنواع الأمثال في القرآن الأمثال في القرآن ثلاثة أنواع: 1- الأمثال المصرحة، 2 والأمثال الكامنة، 3 والأمثال المرسلة. النوع الأول:الأمثال المصرحة: وهي ما صرح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه وهي كثيرة في القرآن وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد منها ما يأتي: أ قوله تعالى في شأن المنافقين(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق- إلى قوله تعالى: إن الله على كل شيء قدير) (البقرة:17-20) ففي هذه الآيات ضرب الله للمنافقين مثلين: مثلا ناريا في قوله:(كمثل الذي استوقد نارا) لما في النار من مادة النور، ومثلا مائيا في قوله أو كصيب من السماء.. لما في الماء من مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء متضمنا لاستنارة القلوب وحياتها- وذكر الله حظ المنافقين في الحالتين- فهم بمنزلة من استوقد نارا للإضاءة والنفع حيث انتفعوا ماديا بالدخول في الإسلام ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم فذهب الله بما في النار من الإضاءة (ذهب الله بنورهم) وبقي ما فيها من الإحراق وهذا مثلهم الناري، وذكر مثلهم المائي فشبههم بحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فخارت قواه ووضع إصبعيه في أذنيه وأغمض عينيه خوفا من صاعقة تصيبه، لأن القرآن بزواجره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق. المثل المائي والناري ب وذكر الله المثلين: المائي والناري في سورة الرعد للحق والباطل فقال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسألت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل- فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) شبه الوحي الذي أنزله من السماء لحياة القلوب بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية والسيل إذا جرى في الأودية احتمل زبدا وغثاء فكذلك الهدى والعلم إذا سرى في القلوب أثار ما فيها من الشهوات ليذهب بها، وهذا هو المثل المائي في قوله: أنزل من السماء ماء وهكذا يضرب الله الحق والباطل. وذكر المثل الناري في قوله: (ومما يوقدون عليه في النار) فالمعادن من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد عند سبكها تخرج النار ما فيها من الخبث وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيذهب جفاء، فكذلك الشهوات يطرحها قلب المؤمن ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الذهب وهذا الخبث. النوع الثاني من الأمثال: الأمثال الكامنة وهي التي لم يصرح فيها بلفظ المثل: ولكنها تدل على معان رائعة في إيجاز، يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها، ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها: 1 ما في معنى قولهم (خير الأمور أوسطها). 2 قوله تعالى: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) البقرة 68. 3 قوله تعالى: في النفقة (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان 67. 4 قوله تعالى في الصلاة: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا) الإسراء:110. 5 قوله تعالى في الإنفاق: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) الإسراء 29. 6 قوله تعالى بلسان يعقوب(قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) يوسف64. وما أشبه ذلك. النوع الثالث الأمثال المرسلة في القرآن الكريم وهي جمل أرسلت إرسالا من غير تصريح بلفظ التشبيه. فهي آيات جارية مجرى الأمثال ومن أمثلة ذلك ما يأتي: 1 (الآن حصحص الحق) يوسف:51. 2 (ليس لها من دون الله كاشفة) النجم58. 3 (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) يوسف 41. 4 (أليس الصبح بقريب) هود 58. 5 (لكل نبأ مستقر) الأنعام 67. 6 ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله): فاطر: 43? واختلفوا في هذا النوع من الآيات الذي يسمونه إرسال المثل، ما حكم استعماله استعمال الأمثال؟ فرآه بعض أهل العلم خروجا عن أدب القرآن. قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون:6: جرت على عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند التاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه. ورأى آخرون أنه لا حرج في ما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد كأن يأسف أسفا شديدا لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: (ليس لها من دون الله كاشفة) أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطلة فيقول (لكم دينكم ولي دين) والإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح. فوائد الأمثال 1 الأمثال تبرز المعقول في صورة المحسوس الذي يلمسه الناس، فيقبله العقل لأن المعاني المعقولة لا تستقر في الذهن إلا إذا صيغت في صورة حسية قريبة الفهم، كما ضرب الله مثلا حال المنفق رياء حيث لا يحصل من إنفاقه على شيء من الثواب، فقال تعالى: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) البقرة:264. 2 وتكشف الأمثال عن الحقائق وتعرض الغائب في معرض الحاضر كقوله تعالى(الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)البقرة:275. 3 وتجمع الأمثال المعنى الرائع في عبارة موجزة كالأمثال الكامنة والأمثال المرسلة في الآيات السالفة الذكر. 4 ويضرب المثل للترغيب في الممثل حيث يكون الممثل به مما ترغب فيه النفوس كما ضرب الله مثلا لحال المنفق في سبيل الله حيث يعود عليه الإنفاق بخير كثير فقال تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) البقرة: 261. 5 ويضرب المثل للتنفير حيث يكون الممثل به مما تكرهه النفوس كقوله تعالى في النهي عن الغيبة (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) الحجرات: 12. 6 ويضرب المثل لمدح الممثل كقوله تعالى في الصحابة ( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) الفتح: 29?و كذلك حال الصحابة فإنهم كانوا في بدء الأمر قليلا، ثم اخذوا في النمو حتى استحكم أمرهم وامتلأت القلوب إعجابا بعظمتهم. 7 ويضرب المثل حيث يكون للممثل به صفة يستقبحها الناس، كما ضرب الله مثلا لحال من آتاه الله الكتاب، فتنكب الطريق عن العمل به، وانحدر في الدنيا منغمسا فقال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان كان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا الأعراف: 175-176. 8 والأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع، وقد أكثر الله تعالى الأمثال في القرآن للتذكرة والعظة وقد تقدم ما فيه الكفاية والغنى عما سواه.