وسطية الإسلام هل هي حقيقة ؟!!
جاء في وصف الأمة الإسلامية بالأمة الوسط، في قول اللـه تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم (البقرة: الآية 143). وفي الحديث الشريف أن الرسول صلـى اللـه عليه وسلم قال: يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله:وكذلك جعلناكم أمة وسطا قال: والوسط العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم رواه البخاري. وفي تفسير ابن كثير عند تفسير الآية: أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام هو اختبار للأمة، وامتحان لها، ليعلم من يتبع عن يقين وإيمان، ومن ينقلب على عقبيه، لتكون خير الأمم شهيدة على الأمم كلها، ولما جعل الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج، فالوسط هو العدل. وضوح وسيطة الإسلام وجلائها تبدو وسطية الإسلام واضحة وظاهرة في منهاجه الأعدل والأقوم. فالمنهاج الإسلامي القائم على الإيمان بالله، ووحدانيته، وتنزيهه، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة هو وحده الذي يضمن للبشر أن يتخلصوا من عبادة غير اللـه عز وجل. هو المنهاج الوسط الذي لا إفراط فيه، ولا تفريط، ولا غلو، ولا تقصير، فلم تتخذ الأمة الإسلامية السائرة على صراط اللـه المستقيم، أندادا لله سبحانه، ولم يصفوا اللـه بأوصاف لا تليق به، كما فعلت اليهود، حين وصفوه بالفقر، وبأن يده مغلولة. ولم تضل كما ضلت النصارى، الذين شبهوا المخلوق بالخالق، وأضفوا على عيسى عليه السلام خصائص الألوهية، فغلوا فيه، وجعلوه شريكا لله. الوسطية في أنبياء الله ورسله إن منهاج الأمة الإسلامية، هو المنهاج الوسط المعتدل في أنبياء الله ورسله، إذ آمنوا بهم جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم، أو ينقصوه، أو يقتلوا أنبياء الله، كما فعلت اليهود: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (المائدة: الآية 70). ولم يغلوا في أحد منهم، كما فعلت النصارى مع عيسى ابن مريم -عليه السلام- وإنما قدروهم حق قدرهم. قال صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبداللـه ورسوله رواه البخاري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللـه تعالى: ( فالمسلمون وسط في أنبياء الله وعباده الصالحين، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللـه ... ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق. ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المنهاج، فلم يقولوا:هو اللـه، ولا ابن اللـه، ولا ثالث ثلاثة، كما تقول النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانا عظيما، حتى جعلوه ولد بغية، كما زعمت اليهود، بل قالوا:هو عبداللـه وكلمته ألقاها إلى مريم.. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع دين اللـه ). الوسطية في الأمور الدنيوية ووسطية أهل الإسلام المستقيمين على هدية تبدو في الاعتدال والتوازن بين مطالب الدنيا والنظرة إليها، ومطالب الآخرة والعمل لها، والأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك دون إفراط أو تفريط، ودون إسراف أو تقتير، قال تعالى: وابتغ فيما آتاك اللـه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن اللـه إليك ( القصص: الآية 77 ). يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( أي استعمل ما وهبك اللـه من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات .. ولا تنس نصيبك من الدنيا، أي مما أباح اللـه لك فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمناكح، فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا). فالإسلام وسط بين من غلا في أمر الدنيا ولم يهتم بالآخرة، وبين من غلا في أمر الآخرة، ونظر إلى الدنيا نظرة ازدراء وابتعاد. وهكذا التوازن بين مطالب البدن ومطالب القلب. فقد بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ثلاثة رهط، أراد أحدهم أن يصلي الليل أبدا، وأراد ثانيهم أن يصوم الدهر ولا يفطر، وعزم الثالث على أن يعتزل النساء، فقال: أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أنا أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني متفق عليه. ومن ذلك الاعتدال في تناول الطيبات: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (الأعراف : الآية 31). والاعتدال والتوازن في الإنفاق: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (الإسراء: الآية 29). والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (الفرقان : الآية67). التشريع الإسلام هو الوسط بين الشرائع ولا شك أن التشريع الإسلامي هو التشريع الوسط والأكمل بين الشرائع. ولذلك أهميته الكبرى، لأن الشريعة الملزمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي الأساس في وحدة الأمة الفكرية والنفسية والعملية. وينبغي التمييز الحاسم والواضح بين أحكام الشريعة، متمثلة في نصوص الكتاب والسنة، وبين الاجتهاد والنظر في هذه النصوص الشرعية ذاتها. والفقه الإسلامي في جملته، والاجتهاد في أحكام الشرع، يستلهم تلك الوسطية المثلى القائمة في النصوص. وقد كانت الوسطية الإسلامية بمعناها القرآني غائبة تماما عن كل القوانين الوضعية، ولا سيما في أصولها القديمة، وحتى إذا كانت هذه القوانين تنشد العدالة، فإن العدل بوصفه قيمة، تتغير صورته بحسب الزمان والمكان. وعلى سبيل المثال، فقد كان القانون الروماني، يحرم الأرقاء من كل مشاركة في الحياة العامة، وكان يجيز قتل كل الأرقاء الذين في خدمة النبيل إذا ثبت تآمر واحد منهم عليه، وكان من حق الدائن قتل المدين العاجز عن السداد، واسترقاقه إلى الأبد، وطبقا لأحكام ذلك القانون، كانت المرأة تدخل بيت زوجها عن طريق البيع أو وضع اليد، فيشتري الزوج زوجته بإجراءات البيع والشراء، وظل ذلك فترة طويلة. الوسطية في تنظيم المال والملكية أما الوسطية القرآنية فإنها تتجلى في منهاج التشريع الإسلامي كله، ويبدو ذلك واضحا في تنظيم المال والملكية، والاعتراف بملكية الفرد للمال، إلى جانب أنه يملكه استخلافا من اللـه عز وجل لكي يؤدي رسالة في الحياة: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه (الحديد الآية 7). كما يبـدو المنهاج الوسط، في الإقرار في المال، إلى جانب الاعتراف بأن للجماعة فيه حقا مقدرا ومحددا، يخصص لفقراء الجماعة، وهو الزكاة وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (الذاريات الآية 19). والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم (المعارج، الآيتان: 24، 25). وقد أضيف المال في القرآن الكريم إلى صاحبه، كما في الآيتين السابقتين، وأضيف المال كله وملك السماوات والأرض وما فيهن إلى اللـه عز وجل، قال تعالى: وآتوهم من مال اللـه الذي آتاكم (النور الآية 33). وهذا المنهاج في النظر إلى المال، والهدف منه، وكيفية اكتسابه، وكيفية إنفاقه، هو المنهاج الأكمل والأعدل، في تنظيم أمر مهم وجوهري في حياة الإنسان، وهو يتفق مع فطرة الإنسان وغريزته في حب التملك والاستئثار، ويوازن بينها وبين حق المجتمع في مال اللـه، وأن المال -حتى لو كان مملوكا للفرد- فيه حقوق لله أو للجماعة. ذلك هو المنهاج الأمثل الذي يحفظ مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويوازن بينهما، موازنة عزت على أصحاب المذاهب والنظريات البشرية قديما وحديثا. الموازنة بين حقوق الله وحقوق العباد إن الموازنة واضحة في التشريع الإسلامي بين حقوق الله وحقوق العباد، مع أن الله تعالى هو المالك لكل شيء وإليه يرجع الأمر كله. ورحمة من الله بالإنسان، قضى بأن يتمكن من التصرف في بعض الحقوق كما يريد، لأنه يحتاج إلى ذلك في حياته ومعاشه، بينما هناك حقوق لا تتعلق به وحده، حتى لو كان ظاهرها يومئ إلى ذلك. ففي حد السرقة مثلا، لا يصح للإنسان المسروق ماله أن يطلب إعفاء السارق من عقوبة الحد، إذا توافرت شروطه الشرعية، مع أن المال المسروق ملكه، وكان يستطيع أن يهبه للسارق قبل أن تقع الجريمة، وتستكمل أركانها، وشروط توقيع الحد، لأن التنازل عن حد، السرقة يدعو إلى شيوعها في المجتمع، وهو ما يقف دونه الشرع. وفي جريمة القتل العمد، وهي تقع على القتيل، ويقع ضررها على أقرب الناس للمقتول، وتضر بأمن المجتمع، نجد لأولياء القتيل حق العفو نظير دية، أو بغير مقابل، ونجد حق الولي أيضا في طلب القصاص، أخذا بالعدل وشفاء للنفوس. هذا المنهاج التشريعي الأكمل والأعدل، يوازن بين الحقوق، ولا يضيف حقا لأحد على حساب الآخر، ويتلافى عيوب مناهج أخرى عديدة، جعلت أولياء الدم لا سلطان لهم على الإطلاق، أو جعلت عقوبة القتل لازمة في كل حال أو ألغت عقوبة القتل كلية، دون سند من عدل أو مصلحة، تعود على الفرد أو على المجتمع. الموازنة بين التكليف والاستطاعة وفي التشريع الإسلامي، موازنة دقيقة بين التكليف والاستطاعة، فلا يكلف اللـه نفسا إلا وسعها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات. وفي مجال العبادات اعتبر الشرع أعذارا عديدة تعفي المكلف، وإن لم تكن المشقة متحققة، نظرا إلى أن العذر يؤدي إليها غالبا أو أن العذر مظنة للمشقة. ومن تلك الأعذار، السفر في قصر الصلاة وإباحة الفطر، وما خفف الشرع فيه عن المرأة، في إعفائها من الصلاة أياما، يرجح فيها مشقة القيام بالتكليف بالصلاة أثناء حيضها، الذي هو من فطرتها التي فطرها الله عليها. ولقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء الآية 107). وقال تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (التوبة الآية 129). اليسر والسهولة من السمات البارزة في الإسلام وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا رواه مسلم. فمنهاج الإسلام مبني على اليسر ورفع الحرج، قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة الآية 174). وقال سبحانه: ما جعل عليكم في الدين من حرج (الحج الآية 76) وكان صلى الـه عليه وسلم يترك بعض الأفعال خشية المشقة على أمته، وكان إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما. ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما. يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا متفق عليه. ومن أقواله المشهورة صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا.. الحديث رواه البخاري. وللإنسان أن يأخذ بالأشد من المشروع كأن يصلي صلاة طويلة، ولكن ليس له أن يلزم الناس بذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، ولكنه كان يخفف صلاته إذا صلـى بالناس، مراعاة لأحوالهم. ولما سمع صلى الله عليه وسلم بعزم نفر من أصحابه على الانقطاع للعبادة، قال: إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني متفق عليه. ذم المخالفين للوسطية ولقد ذم الله اليهود لشدة حرصهم على الدنيا ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. (البقرة الآية 96). وذم سبحانه النصارى الذين غلوا وابتدعوا رهبانية لم يشرعها اللـه، كما قال اللـه عنهم: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان اللـه فما رعوها حق رعايتها (الحديد الآية 27). لقد ذمهم الله لابتداعهم في دينه ما لم يأذن به، وفي عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله. إن تشريع الله في العبادة، تشريع متوسط معتدل، بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (الإسراء الآية 110). وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا رواه مسلم، أي كانت معتدلة بن الطول والقصر. وسطية الإسلام تعني أنه الأكمل والأعدل للإنسان ولا نستطيع في هذا المجال، أن نفصل وسطية التشريع الإسلامي وعدله، وأفضليته في الأحكام الشرعية كلها، في العبادات، وفي المعاملات، وفي قواعده العامة، وأصوله الكلية، فهذا يحتاج إلى دراسة مقارنة دقيقة بين منهاج التشريع الإسلامي، وبين ما هو موجود في قصور المناهج الوضعية كلها، قديما وحديثا. إن وسطية التشريع الإسلامي، تعني أنه الأكمل والأقوم و الأعدل لحياة الإنسان بالمعنى القرآني للوسطية. فتشريع العبادات في هيئاتها ومقاديرها وتكاليفها ومراتب وجوبها على المكلف، تتفق مع الأعدل والأقوم، وفطرة الإنسان في الجمع بين الدنيا والآخرة. وفي أحكام المعاملات، كما أشرنا، لا سيما في النظر إلى المال وملكيته وحق الفرد وحق الجماعة فيه، تحصيلا وكسبا وإنفاقا، نجد الوسطية ظاهرة. وذلك لكي يدوم هذا التشريع الإلهي صالحا للناس في كل زمان ومكان مما يجنب الأمة الغلو والشطط، الذي نراه في كثير من شرائع البشر التي تختلف، وتتعارض بحسب الزمان والمكان، والظروف والأهواء. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه