سوء الفهم آفة يأباها الإسلام
الحمد لله، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه ، أما بعد: فنسمع كثيرا أن فلانا قال كذا، وفلانا فيه كذا، سواء في الحكم على الأشخاص أو على الكتب، أو على الجماعات، أو على المجتمعات، أو على الأعمال والجهود. نسمع أحكاما متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول: إن فلانا يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته - و هو رجل مسلم، الأصل فيه العدالة والصدق-: إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له: كذبت بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك! إن هذا لسان حال الكثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، ونظراتهم وقناعاتهم هم.. إنه مظهر من مظاهر سوء الفهم ! متى يكون سوء الفهم آفة؟ ليس غريبا أن يسيء المرء الفهم، وهذا كثيرا ما يحصل في حياتنا؛ فقد تسمع كلاما من أحد الناس فتفهم منه خلاف ما كان يقصد. إن سوء الفهم أمر لا ينجو منه إنسان أيا كان؛ لأنه بشر؛ ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه ملبسا، أو مدعاة لسوء الفهم، فإما أن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو أن نحاكم الجميع عند سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100? فهذا مطلب غير معقول، فلا بد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟ في نظري أنه آفة حينما يكون قاعدة نحكم بها على الآخرين، من خلال فهمنا لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، فنحاكمهم إلى فهمنا، بل قد يتجاوز الأمر ذلك، فنقول: هو يريد كذا، ويظهر خلاف ما يريد، وغيرها من الكلمات التي تعبر عن أعمال قلبية، كأننا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم ونطلع على نوايا الآخرين. إنه من حقك أن تخطئ في الفهم، وهذا شيء طبعي وقد يكون بعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم- لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر. فحين أنقل عن الآخرين؛ يجب أن أكون دقيقا في النقل، فأقول: قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، وأنه يريد كذا. أسباب هذه الظاهرة: أولا: سوء النية: فقد يكون الرجل صاحب نية سيئة، فهو يسمع لفلان، ويقرأ لآخر ليس من أجل الفائدة، إنما يبحث عن مدخل، فهو إذا سيئ النية ابتداء . وسوء النية ليس بالضرورة إرادة حرب الإسلام والمسلمين؛ فالحسد والهوى والتنافس الحزبي صورة من صور سوء النية. وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة أهل السنة كم واجهوا من مضايقات ومن تحميل كلامهم ما لا يحتملون، فيقال: خالف الإجماع في هذه القضية، وفعل كذا وكذا، لماذا؟ لأن عنده من كان يقرأ ليبحث عن الزلل، ودافعهم لذلك الحسد والبغي. ثانيا: سوء الظن عندما يسيء الإنسان الظن بشخص أيا كان، فلا بد أن يسيء الفهم تلقائيا، فهو يقصد كذا أو يريد كذا وهذا لا يحتمل إلا هذا الشيء ... إلخ هذه القائمة. لماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ إن المنطق العقلي البحت ومنطق العدل المجرد مع الناس أيا كانوا يجعلني أنظر إلى الكلام مجردا عن كل الأوهام التي عندي، ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى إلى أعماله الأخرى فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعا. كم نجد أحيانا من الناس من يقول كلاما في كتاب، أو مجلس، أو في مناسبة، ونفهم من هذا الكلام أنه يريد أمرا ما، ثم في مجال آخر يصرح تصريحا قاطعا بخلاف هذا، ومع ذلك نرفض هذا الكلام الصريح، ونسلط الضوء على هذه العبارة المحتملة. ولسان حالنا: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد وما تقول. فعندما يكون عندي صورة متخيلة في الذهن عن شخص من الأشخاص، فقد أصل إلى خلاف الحقيقة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد. ثالثا:الخلفية السابقة حين يصلي الشخص خلف خطيب، أو يحضر عند أستاذ، أو يقرأ لكاتب، وقد أعطي خلفية معينة عن هذا الرجل فسوف يسمع ويقرأ منتظرا للشواهد التي تؤيد الخلفية الموجودة عنده . إنك لو أعطيت كتابا لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، وقلت للأول: خذ الكتاب لتقرأه، وقلت للثاني: اقرأ الكتاب لكن احذر؛ فهذا الكاتب عليه ملاحظات ما النتيجة؟ لابد أن الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لم يصل إليها الأول؛ لأن الأول قرأ بدون خلفية، بخلاف الثاني الذي يقرأ محاولا اكتشاف الملاحظات والأخطاء، وقد يكون لبعض هذه الأخطاء رصيد من الواقع، لكن كثيرا منها سيكون متوهما، قد حمله صاحبنا أكثر مما يحتمل. رابعا: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص إن الناس تختلف طبائعهم وسماتهم، فبعضهم حاد وسريع الغضب، وقد يقول كلاما لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، وحين يغضب ويغلظ عليك الكلام فكأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، بينما قلبه سليم تجاهك. ومن الناس من يكون على العكس من ذلك، فمنهم ما في نفسه أشد مما قد يبديه لك. ومن ذلك أيضا: ظروف الزمان والمكان، فقد يقول المرء كلاما في مكان معين، لملابسات ودوافع معينة - بغض النظر عن مدى عذره في ذلك- فلا يصبح هذا الكلام معبرا عن رأيه الحقيقي. ومن ذلك: حديث الشخص عن موضوع معين وحماسه له كالقراءة مثلا- فقد يفهم بعض الناس من ذلك أنه يقلل من حضور مجالس العلم، وحين يتحدث آخر عن الاعتناء بالبارزين والموهوبين فقد يفهم سامع أنه يهمل دعوة آحاد الناس، وهكذا حتى أصبح كل متحدث بحاجة لأن يختم حديثه بقيود عديدة، أنه لا يلزم من كلامه كذا وكذا، ولا يقصد كذا وكذا. القول باللازم خامسا: الحرص تنزيل الكلام على معين: حين يتحدث متحدث عن قضية من القضايا، ويأتي في ثنايا حديثه أن بعض الكتاب، أو بعض الدعاة يقول كذا، أو يقع في هذا الخطأ، فسوف يتساءل الناس من يقصد؟ أهو يقصد فلانا أم فلانا؟ وربما لم يكن في ذهن المتحدث شخص بعينه، إنما هو يتحدث عن ظاهرة من الظواهر. سادسا: القول باللازم : حين أقول: إن المعلمين في المدارس هم البوابة للمجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل... إلى غير ذلك. قد يأتي شخص ويقول: يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة، يلزم من كلامك أن الخطباء ليس لهم قيمة، أن القضاة ليس لهم قيمة... وهكذا. ومن المقرر عند أهل العلم في التعامل مع اللازم: أن لازم الكتاب والسنة حق، أما في كلام البشر فله ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يذكر له اللازم فليتزمه. وذلك بأن تقول لي: يلزم من كلامك كذا وكذا، فأقول: نعم وأنا أعتقد ذلك. الحالة الثانية: أن يذكر له اللازم فلا يلتزمه. وذلك بأن تقول: إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول: لا يلزم منه هذا. والأمر في الحالتين واضح لا إشكال فيه. الحالة الثالثة- وهي موضع النقاش- : ألا يثبته الشخص أو ينفيه، فحينها لاينسب له؛ لأن الإنسان بشر يغيب عنه اللازم ويعتريه الذهول والغفلة والنسيان. وليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية؛ إنما المقصود منها أن التوسع في إلزام الناس بما لم يقولوه غير صحيح. عدم إدراك أطراف الموضوع سابعا: عدم إدراك أطراف الموضوع: حين يقرأ أحد القراء جزءا مما قاله أحد الكتاب، فقد يفهم خلاف ماقصده، لكن لو عرف أطراف الموضوع فسيفهمه فهما آخر. ثامنا: الربط المتكلف: وذلك حين يعمد إلى كلام هنا وكلام هناك، فيربط بينهما برابط، ويخلص إلى نتيجة معينة، غير حقيقية،ومن ذلك: إلزام الشخص بآراء مدرسة فكرية أثنى عليها في موطن، أو استشهد ببعض عباراتها في آخر. إن هذا المسلك دفع بكثير من الناس إلى ترك الاستشهاد بأقوال بعض المعاصرين حذرا من أن يوصم بأنه على منهجهم أو خطهم، وهذا مظهر من مظاهر التخلف الفكري الذي نعاني منه. تاسعا : التصحيف وركاكة الفهم: والتصحيف أمر معروف لدى المحدثين، فقد يقرأ الراوي الكلمة قراءة خاطئة، أو يسمعها سماعا خاطئا ، فحديث احتجر النبي صلى الله عليه وسلم موضعا في المسجد رواه أحد الرواة احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد. ومن التصحيف ما يكون في الفهم، وأحيانا يكون السبب ركاكة الفهم، فبعض الناس كما يقال: أقول زيدا ويسمع عمرا ويكتب خالدا. من وسائل العلاج: إن ذكر الأسباب يختصر علينا خطوات كثيرة في علاج الظاهرة، لذا سنشير هنا إشارات عاجلة وموجزة لبعض خطوات العلاج: حسن الظن بالمسلمين: وهو منهج شرعي أخل به كثير من المسلمين اليوم، بل نرى بعضهم يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يتأول لهم ويجد لهم ألف عذر وحجة، أما إخوانه فلا يمكن أن يجد لهم تأويلا. إن الواجب على المسلم حين يرى ما قاله أخوه يحتمل أمرين أن يحمله على أحسن محمل، فيقول على سبيل المثال - فلان قال هذا لكن هذا القول لا يليق به فلا أتصور أنه يقصد كذا أو يريد كذا، فلعله يريد الأمر الآخر. وحين أحسن الظن بفلان، وأكتشف بعد أنه على خلاف ظني، فما النتيجة؟ إنها التزام الأدب الشرعي وسلامة القلب للمسلمين. ومما لا يقبل بحال أن يكون مصدر الحكم على إخواننا المسلمين ما نقرؤه في الصحف، أو نسمعه من وسائل الإعلام السيئة، أو ينقله عنهم النمامون والوشاة، وكم جربنا على هؤلاء الكذب والتضليل. عدم تتبع عورات المسلمين والأمانة في النقل الابتعاد عن تتبع عورات المسلمين: فـمن تتبع عورة إخوانه المسلمين؛ تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب. إن البشر لا بد أن يقعوا في الخطأ أيا كانوا، وحين لا نسأل إلا عن الزلات والأخطاء فلا بد أن نصل إلى مثل هذه النتائج. الأمانة والانضباط في النقل: وذلك بأن تسعى لأن تنقل الكلام بلفظه وحروفه قدر الإمكان، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك وليس هذا ما يقصده من نقلت عنه. ولابد أن يرتفع مستوى فهمنا، فنفرق بين ما يرويه الثقة من مواقف الناس، وبين فهمه لها وتفسيره؛ فالأصل في قول الثقة أن يقبل، أما فهمه واستنتاجه فليس بالضرورة كذلك. ضرورة الجمع بين ا لمتفرق الجمع بين المتفرق: إنه من العجب أن يلزم شخص بعبارة قالها وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، ومن الأمثلة على ذلك مانسب إلى سيد قطب رحمه الله، وهو رجل أديب والأديب يستطرد-وهنا أذكركم بما ذكرنا آنفا من أنه لابد أن تضع في ذهنك طبيعة الشخص الذي تريد أن تقيمه- فحين قال رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص عبارة توهم أنه يرى وحده الوجود، فجاء البعض وقال: إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو صرح في موطن آخر بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم، وانتقاد ما هم عليه. ألا يعطيك هذا الكلام قناعة أن الرجل لا يعتقد هذا وإلا لما صرح به؟ لهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان إذا أردنا أن نحكم عليه وعلى منطلقاته. هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل آمين .