ابن النفيسطبيب مبدع وفيلسوف فقيه!!

لو لم أعلم أن تصانيفي تبقى بعدي عشرة آلاف سنة، لما وضعتها ابن النفيس هو الشيخ الطبيب علاء الدين علي بن أبي الحزم المعروف بابن النفيس. لإشراق العلم والمعرفة والفنون آنذاك عاصمتان، هما القاهرة ودمشق، وبينهما عاش ابن النفيس. ولد في دمشق ودرس الطب على يد مشاهير العلماء، خاصة مهذب الدين الدخوار رئيس أطباء مستشفى النوري، إلى أن استدعاه السلطان كامل إلى القاهرة لشهرته وذيوع صيته، فعمل مديرا لمدرسة الطب ورئيسا للمستشفى الناصري الملحق بها، ثم ترأس المستشفى المنصوري الذي أنشأه السلطان قلاوون، وعمل أيضا طبيبا للسلطان بيبرس . آثاره لم تقتصر شهرة ابن النفيس على الطب وحده، بل كان يعد من أكبر علماء عصره في اللغة والفلسفة وتدريس الفقه والحديث، وله كتب عديدة في هذه المجالات منها الرسالة الكاملية في السيرة النبوية (فاضل بن ناطق) التي جارى فيها كتاب حي بن يقظان لابن طفيل ولكن بطريقة لاهوتية، طريق الفصاحة في النحو، شرح الإشارات في الفلسفة والمنطق والتصوف، وغيرها من الكتب الهامة . أما في علم الطب فيعد ابن النفيس من مشاهيره، وله مؤلفات ثمينة تصبغها الجرأة وحرية الرأي، وأهم كتبه الشامل عبارة عن موسوعة طبية تتألف من 300 مجلد، رسالة في أوجاع الأطفال مقالة في النبض، شرح قانون ابن سينا، شرح فصول أبقراط، بغية الفطن من علم البدن، شرح مسائل حنين بن اسحق، كتاب المهذب في طب العيون، الموجز في الطب ملخص لكتاب القانون لابن سينا، رتبه بأربعة تصانيف: 1_في قواعد وأجزاء الطب العلمية والعملية بشكل عام. 2_ في الأدوية والأغذية المفردة والمركبة. 3_في الأمراض المختصة بعضو واحد. 4_في الأمراض التي تصيب أكثر من عضو، أسبابها، علاماتها ومعالجتها. اشتهر هذا الكتاب كثيرا وطبع عدة مرات وبعدة لغات. ويبقى الكتاب الأهم الذي أثار اهتماما خاصا في القرن العشرين، كتاب شرح تشريح القانون الذي اتصف بجرأة مميزة وذلك بنسفه لبعض الآراء والنظريات التي كان يؤمن بها كل الأطباء الذين سبقوه بمن فيهم أبقراط وجالينوس وابن سينا. اكتشافه الدورة الدموية أن كل مؤلفات ابن النفيس، لها قيمة عظيمة في تاريخ الطب العربي بشكل خاص، أو في الأدب الطبي العالمي بشكل عام، لكن يبقى كتاب تشريح القانون يمتاز بأهمية خاصة، حيث تتجلى عبقرية ابن النفيس بالتفكير والاستنباط وكشف معطيات هامة جدا في علم الطب، وتحديدا في فزيولوجيا الدوران الدموي، فنجده يفصل كيفية الدوران الدموي ما بين الرئتين والقلب (أي ما يعرف بالدورة الدموية الصغرى) وذلك قبل العالم الإنكليزي هارفي (الذي ينسب إليه اكتشافها) بعدة قرون، وكان أول من اكتشف هذه الحقيقة الطبيب المصري محي الدين التطاوي سنة 1924 أثناء تحضيره لأطروحته في جامعة فريبورغ من خلال مخطوطة لهذا الكتاب موجودة في برلين، فأجرى بحثه باللغة الألمانية عن هذا الموضوع وكانت مفاجأة كبرى للمشرفين على رسالته ولكل العاملين بتاريخ الأدب الطبي، فتتالت اعترافات المستشرقين والباحثين بأن لابن النفيس يعود الفضل باكتشاف الدورة الدموية وليس للعالم هارفي. بكتابه هذا ينسف ابن النفيس نظرية أبقراط التي تقول بأن الأوردة هي التي تحمل الدم وأن الشرايين تحتوي على الهواء، وبهذا الكتاب يرفض رفضا حازما نظرية جالينوس التي تقول بأن عملية امتزاج الدم بالهواء تتم في القلب، وتدعي أيضا نظرية جالينوس(والتي كان يتبناها كل الأطباء حتى عهد ابن النفيس) بأن القلب يحتوي على تجاويف وممرات بين البطين الأيمن والبطين الأيسر تتم ضمنها عملية مزج الدم بالهواء، لكن ابن النفيس رفض هذه المقولة بشدة وأكد عدم وجودها، وأثبت أن سماكة الحاجز بين البطينين أثخن، وأن عملية تنقية الدم تتم في الرئتين وليس بالقلب أبدا، وعندما يتقلص القلب ينتقل الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين بواسطة الشريان الرئوي وهناك يحصل التماس بين الهواء والدم وتتم عملية تنقية الدم لتعود بالأوردة الرئوية إلى البطين الأيسر الذي يوزعها إلى أنحاء الجسم لتؤمن له التغذية اللازمة. كذلك رفض ابن النفيس ما كان يعتقد به كل من أبقراط وجالينوس وابن سينا وغيرهم من الأطباء العرب، بأن عضلة القلب تتغذى من الدم الموجود في البطين الأيمن، بينما ابن النفيس أكد بأن القلب يتغذى من الأوعية التي تسير ضمن عضلة القلب في البطين الأيسر (ما يعرف بالأوعية التاجية). في هذه العجالة يؤكد الأدب الطبي ثلاثة اكتشافات تعود لابن النفيس: 1_اكتشافه فزيولوجيا الدوران الرئوي -القلبي (الدورة الدموية الصغرى). 2_الجزم بعدم وجود ممرات بين البطينين يتم فيها اختلاط الدم بالهواء. 3_التأكيد على وجود شرايين خاصة تغذي عضلة القلب (الأوعية التاجية). إضافة إلى ما ذكر هناك أمر هام يوازي اكتشافاته، وهو جرأته وثوريته بطرح أفكاره ونسف نظريات من سبقه حتى ولو كان يتبناها عباقرة الطب، فهنا تكمن عبقرية هذا العالم وشخصيته الواثقة بالعلم والتطور. يوجد 3 مخطوطات من كتابه شرح تشريح القانون: _1 نسخة بالمكتبة الظاهرية في دمشق (رقمها 59طب) 2_نسخة بآيا صوفيا في استنبول (4199) 3_نسخة برلين (62243) وهي التي اعتمد عليها د. التطاوي في أطروحته. وهنا يحق لنا التساؤل: هل أن كتابات علماء النهضة كانت صادرة لما سبق واكتشفه ابن النفيس أم انهم نقلوها عنه وادعوها لأنفسهم ؟ ومن هذا الكتاب وما يحتويه من معطيات تشريحية هامة، خاصة عن القلب والرئتين والحنجرة، وتشجيعه للأطباء بدراسة التشريح والتعمق به، ما يدحض أقوال بعض المستشرقين المتعصبين التي تدعي بأن العرب قاموا بنقل الطب عن اليونانيين فقط وبأنهم لم يعرفوا علم التشريح نهائيا. ولتأكيد شخصيته الفذة نرى هذا العالم بنهاية حياته قد وهب ماله الكثير وداره وأملاكه وكل ما يتعلق به إلى بيمارستان المنصوري في القاهرة خدمة للعلم. _ بقيت كثير من آثار هذا العالم المعطاء تحتاج لمن ينفض الغبار عنها، لأن معظم تراثه لم يزل أسيرا في مخطوطات قديمة في متاحف العالم ومكتباته، وتنتظر من يشمر عن ساعديه.