التدريب ..غاية أم وسيلة؟!

يتبادر إلى الذهن عندما يناقش موضوع التدريب التساؤل التالي: هل هو غاية في حد ذاته، أم أنه وسيلة لتحقيق نهاية محبذة؟ وللإجابة عن ذلك، يجدر بنا تقصي ظاهرة تستشري منذ زمن في معظم دول الخليج العربي وهي التهافت على التدريب وكأنه العصا السحرية التي تحيل الموظف العادي إلى سوبر موظف! وهذا يقودنا إلى ضرورة مجادلة المنفعة الحقيقية المتأتية من التدريب، بالتحديد أثره المباشر على أرض الممارسة الإدارية. ومن أجل ذلك يحسن بنا أعزائي القراء أن نفرق بين أنواع التدريب، فهناك التدريب في الجوانب النظرية، والتدريب من أجل إكساب مهارات تطبيقية. ولإيراد مثال على النوع الأول نجد أن برامج تطوير المهارات السلوكية أو القيادية... إلخ، تركز على نظريات غربية من نوع قال فلان وفلان ولكن فلانا عارض وانتقد! أما النوع الثاني فيتمثل بوضوح في التدريب على الحاسب الآلي ومعالجة الكلمات. الأول يعطيك تعميمات ومشاهدات ورؤى شخصية تهدف إلى تغيير معتقداتك التحتية أملا في توجيه سلوكياتك الظاهرة الوجهة المحبذة، إلا أنه سرعان ما يتبخر معظمها بمجرد انتهاء الفترة التدريبية، أو في أحسن الأحوال يبقى منها في أديم الذاكرة النزر اليسير يحمله الإنسان معه ويسترجعه آليا، ومنها الإيمان بأفكار تجريدية وقيمية مثل ضرورة تغليب النواحي الإنسانية على الفنية في الإدارة، أو أهمية تفويض الصلاحيات، وكذلك الابتعاد عن المركزية الشديدة كأسلوب إداري.... إلخ. أما السكرتارية أو الطباعة على الآلة الكاتبة فالتحسن يكون فيهما مباشرا وملموسا يشعر به المتدرب فور انتهاء الدورة ويمارسه كما تعلمه حذو القدة بالقدة. ويسود في العالم النامي اليوم ما يسمى بمرض الدبلوم، أي اندفاع بعض الناس للحصول على شهادات أكاديمية كنهاية في حد ذاتها، لا كوسيلة لتحقيق هدف أسمى وهو زيادة فعالية الأداء الوظيفي وترقية الوعي. ويتضح هذا الهدف في محاولة الكثير من الناس الحصول على شهادات أكاديمية وتدريبية من دول متأخرة تنمويا ذات نظم تعليمية يعرف عنها السلق السريع للمعرفة، أو ما أسماه بعضهم الدراسة من الباطن وذلك على غرار ما يسري عند تنفيذ بعض عقود المقاولات!، أو أنها اشتهرت بمنح شهادات صيف يكون فيها الأستاذ المشرف على رسالة الماجستير أو الدكتوراه في الغالب موظفا (أجيرا) لدى طالبه!.. ولقد ألمح بعض النقاد إلى وجود جامعات تجارية للتعلم السريع، شبيهة بمطاعم الأكل السريع التي انتشرت في دول العالم المختلفة. وهذا النوع من التعلم قد يشبع حاجة الإنسان إلى الشهادة لغرض الوجاهة الاجتماعية فحسب، ولكنه لا يحدث التغيير المؤمل في سلوكيات الإنسان. ويعود ذلك إلى استحالة نقل المعرفة الحقة ومعايشتها والتكيف معها في فترة قصيرة من الزمن وبدون جهد وكد وعرق. وقد تكون سياسة حرق المراحل أو اختصارها وسيلة مناسبة في بعض شؤون الحياة، إلا أن العلم بطبيعته التراكمية لا يمكن أن يستفاد منه، ولا أن ينتج منه المزيد إلا عن طريق التسرب الكامل للدراسات التي تراكمت عبر العصور في مجال الاختصاص، ومنه إلى النقد فللإضافة الخلاقة للمعرفة. هذا في الجانب الأكاديمي البحت، أما الجانب التدريبي فله هو الآخر أوزاره. فنلحظ، على سبيل المثال، انتشار مكاتب التدريب السريع المتخصصة في ما هب ودب وانتشار الموضات والتقليعات التدريبية وآخرها ما يسمى بـإدارة الجودة الكلية، التي ما هي إلا معرفة قديمة بعبوات جديدة، أو بشكل أكثر تحديدا إعادة تغليف لمفاهيم الإدارة العلمية التايلورية التي قتلت بحثا ونقدت وتم تجاوزها، وهي قد تكون أكثر صلاحية لمجتمعات يأتي فيها الاعتقاد بالعمل في منزلة أعلى من الاعتقاد بالجوانب الاجتماعية. وفي الآونة الأخيرة نشطت بيوتات التدريب في دول عربية مجاورة. والمتأمل لممارساتها الدعائية لنشاطاتها التدريبية باهظة التكلفة يلحظ حرصها على ترفيه وتسلية المتدرب، وذلك من خلال جداول أعمالها المكتظة بزيارات متكررة لأماكن اللهو والآثار القديمة! وكان من الأدق أن توصف مثل هذه البرامج بالترفيهية أو السياحية، عوضا عن التدريبية أو التعليمية. وداعي كل ما ذكر سلفا هو أن أحدهم وهو في نشوة بالغة استعرض سيرته الوظيفية المشتملة على ما لذ وطاب من البرامج التدريبية التي اجتازها والتي تلقى معظمها خارج حدود البلاد. ومن المثير للانتباه أنه قد اجتاز دورات مكثفة في الإدارة العليا والإشراف والجودة الكلية وتقويم المشروعات الإنشائية وبتقديرات لا تقل عن الامتياز مع درجة الترف الأولى.. وبالرغم من هذا الإعداد المكثف الذي تلقاه إلا أنه لا يزال يعمل، منذ عقد ونيف، خارج دائرة الضوء في وظيفة هامشية!.. هذا هو الإتخام أو التخمة التدريبية التي نعتقد أن ضررها أكثر من نفعها. ونحن نتكلم هنا بمنطق العائد على الاستثمار، وحسابات الربح والخسارة.. فالمبالغ التي صرفت طائلة ولكن ما هو المردود الفعلي المتحصل منها؟! وهل ما تم تعلمه يمكن أن يمارس على أرض الواقع؟ وهل هناك حد أدنى أو أقصى من البرامج التدريبية المتاحة لكل موظف، وهل إيفاد الموظف لتلقي هذه البرامج التدريبية يأتي ضمن خطط وبرامج الترقي والتطوير الإداري المعتمدة في الجهة التي يعمل بها (هذا إن وجدت!)؟ هذا هو - أعزائي القراء - الجانب الظاهر للموضوع مدار البحث. أما الجانب المستتر فهو أن اتخاذ القرار التدريبي لا يخلو أحيانا من اللاموضوعية. فالتدريب الداخلي يوجه إليه الموظف المشاكس الذي يأمل رؤساؤه تغييبه عن وجوههم ولو لبضعة أسابيع. أما النوع الذي يسيل له اللعاب وتشرئب له الأفئدة، وهو التدريب الخارجي، فهو وسيلة لمكافأة الموظف المتعاون جدا من وجهة نظر الرؤساء! ولا نجافي الحقيقة إذ قلنا في عبارة موجزة إن بعض التدريب بأشكاله الممارسة حاليا في بعض الجهات والشركات العامة ما هو إلا وسيلة نفي للموظف المشاغب، أو تنفيع للموظف المقرب. وكجزء من المحاولات الجادة نحو ترشيد الإنفاق العام، ينبغي المبادرة فورا إلى تجميد النشاطات التدريبية التي تتم في الخارج (باستثناء البرامج الحيوية مثل الطبية والعلمية..) وذلك من أجل إجراء تقويم وطني شامل للجهود التدريبية التي تمت في المستويات كافة. وعلى ضوء نتائج هذا التقويم، يمكن تصحيح المسار بحيث لا يوفد مستقبلا أي موظف للتدريب إلا بعد تحديد دقيق لاحتياجاته الحالية والمستقبلية. ويجب ألا نغفل أيضا أهمية المتابعة والتقويم وذلك بعد أن يعود الموظف إلى عمله لمعرفة الثمار المتأتية من التدريب، ولتذليل العوائق التي تواجه الإفادة الكاملة منه. والله ولي التوفيق.