استغلال الفراغ في تفعيل الطاقات المعطلة
كأن أبا العتاهية كان يتحدث عن واقع معايش حين قال : إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة حقا لقد انتشرت في أيامنا هذه عادات غير سليمة وسرت بين شبابنا بذريعة تمضية وقت فراغهم. إن سد هذا الفراغ الكبير، بالوسائل الخاطئة يعد من أخطر الأمور على حاضر شبابنا ومستقبلهم. ومن البديهي أن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى انحراف السبل بهذه الفئة الغالية التي يقع على عاتقها الارتقاء بالمجتمع والرقي به نحو الحضارة والتقدم. وهنا يبدأ دور الأسرة والحي والمدرسة، وجميع مؤسسات الدولة، الحكومية منها والأهلية، في مساعدة الشباب على السير في الطريق السليم حتى لا يكونوا عالة على المجتمع، وأن يملأ هؤلاء الشباب وقت فراغهم بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع العام. تعالوا نتعرف من خلال هذا التحقيق على الجوانب المتعددة لهذه القضية ونحاول البحث عن وسائل معالجاتها. معاناة الشباب بداية التقينا مجموعة من الشباب وتحدثنا معهم عن مدى معاناتهم من وقت الفراغ فكانت آراء نسبة كبيرة منهم تجمع على أن وجود إهدار الوقت في غالبية الأحيان، وأنه يضيع منهم دون أن يستفيدوا منه مما جعل هذا الوقت يشكل إلى حد ما عبئا عليهم، وعندما تم سؤالهم عن سبب إهدار الوقت ذكروا أنه لا يوجد نشاط معين يستهويهم، فبعضهم ذكر أنه يقرأ ولكن لا يمكنه أن يفعل ذلك كل يوم، لأنه سيمل من القراءة. أما بعضهم الآخر فذكر أنه يتبادل الزيارات مع الأقارب والأصدقاء والجيران، ولكن هذا أيضا برأيهم ليس كافيا لشغل جميع الوقت، وباختصار فإنهم جميعا يواجهون تلك المشكلة ويقترحون إنشاء مؤسسة صغيرة تتولى تنسيق جميع من يتقدمون بطلبات لشغل وقت فراغ لديهم، فتقوم هذه المؤسسة بتوجيههم نحو حرف معينة أو ممارسة أنشطة أو أشغال تعود عليهم بالفائدة وتعود على المجتمع بالخير والتقدم. الأطفال :الوقت الفراغ! إذا نظر العاقل منا اليوم لحال كثير من البيوت فإنه ولاشك سيعجب من تغير مفاهيم الكثير من الناس، فالكثير من هذه البيوت رزقهم الله بالأبناء من البنين والبنات، ولكن لم يقدروا هذه النعمة حق قدرها، ولم يراعوا فيها حق الله، فيظن الأب أو تظن الأم أن عليهما من المسؤوليات تجاه أبنائهم ما فطرهم الله عليه من الإنفاق عليهم وتعليمهم أمور الحياة من مأكل ومشرب وملبس. وأما التعليم النافع فيتركانه على المدرسة، والمدرسة مشكورة لا تقصر!! هكذا يكون رد الآباء والأمهات غالبا. والحق أن المدرسة لا يمكن أن تؤدي دورها كاملا إلا بمشاركة البيت واستعداد الطفل لتقبل العلم، ولكن كيف يتقبل طفل لم يبذل أبواه أي جهد أصلا في تعليمه منذ طفولته، بل كان فقط يقضي أوقاته في اللهو واللعب والعراك مع إخوانه وأبناء الجيران. بل إن المشكلة تفاقمت فأصبح طفل اليوم يقضي معظم وقته تحت تأثير البرامج الإعلامية والأفكار الغربية التي تأتيه من كل جهة. فألعاب الأطفال مصممة في جانب كبير منها بحيث تحتوي على أفكار خبيثة مثل الدمى أو العرائس التي تحمل أسماء شخصيات يهودية أو نصرانية فيعشق الطفل هذه اللعبة، وهي تمثل شخصية حقيقية تنمو معه فلا ينكرها عندما يكبر بل يألفها!! والسوق اليوم مليء بمثل هذه الشخصيات التي صنعوا لها تماثيل في صورة ألعاب للأطفال؟! ولم نسمع يوما بلعبة من هذه تمثل صورة لعالم مسلم أو بطل من الأبطال الحقيقيين الذين ملؤوا الدنيا بالخير والبطولة عندما جاهدوا لإعلاء دينهم، هؤلاء لم يتعلم الطفل عنهم شيئا، فكيف بالله تطلب منه غدا عندما يصبح شابا أن يسلك سلوك هذا البطل، أكثر من ذلك فإن القرآن الكريم، الذي يجده الطفل موضوعا على الرف في مكتبة والده أو بجوار والدته ولا يراهما ينزلانه إلا عندما يقول لهم هذا أو ذاك أبشر غدا رمضان!! يرى الطفل هذا الكتاب ينزل، وما هي إلا أيام ويقول ذلك المنادي، غدا العيد، فيرجع الكتاب مكانه بسرعة شديدة، وكأنه واجب نقضيه فقط لأنه واجب، لم يسمع الطفل من أبويه وهما أقرب الناس له كيف يقرأ القرآن، ولا كيف يحب القرآن ولا كيف يفهمه ويحفظه، يحفظه لأنه يحبه ويحب أن يرضى الله عنه فيحفظ كتابه حتى يحفظه الله على الأرض من السوء والشرور. والغريب أننا نتهم أبناءنا عندما يكبرون بالاستهتار والبعد عن الدين والعصيان، وتأخذ الأم في الدعاء لهم بالصلاح ويأخذ الأب في الشكوى منهم والالتجاء لمن يعينه على تأديب هذا الابن. ونأخذ مشكلات عديدة مرجعها الأول لعدم دعاء الله تعالى لهم في الصغر وعدم تربيتهم على الدين ودفعهم في حلقات العلم وتحفيظ القرآن الكريم. فليبادر كل أب غيور على بيته وكل أم لها قلب تخاف على ولدها وتخاف من ولدها غدا عندما يصبح رجلا خاويا من كل علم وكل حكمة ليبادرا بتعليم أبنائهما العلم الديني ولا يحدثهما الشيطان أن في هذا تعقيد للطفل أو تحميله ما لا يستطيع لصغر سنه، فالسن الصغير هو أقوى سن للحفظ وأيسره وأنقاه، فلا يبخل الوالدان على ولدهما بالنفع له في الدنيا والآخرة. عوامل الانحراف هناك عوامل متعددة تعرف بـ الأوساط الاجتماعية وهي تعني : الأسرة المدرسة الحي السكني وجماعة الرفاق، هذه العوامل لها أثر واضخ على الشباب وتمثل المبادئ الأساسية التى تأخذ بهم نحو الاستقامة أو تدفعهم لا سمح الله نحو الانحراف والجريمة. ولقد اهتم علماء الاجتماع والباحثون في هذا المجال اهتماما كبيرا بهذه العوامل، وهناك دراسة مهمة حول هذا الموضوع أجراها الباحث عبدالله بن ناصر السدحان، والتي طبعت على هيئة كتاب بعنوان وقت الفراغ وأثره في انحراف الشباب، حيث يذكر الباحث أهمية الوسط الاجتماعي وأثره على سلوك الفرد في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة، فقال لا، فقتله، فأكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة. فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله عزوجل فاعبد الله تعالى معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء.. مختصر صحيح مسلم، تحقيق محمد ناصر الألباني. فمن الحديث السابق استنتج الباحث أن أسباب قيامه بعمليات القتل أنه يعيش في وسط اجتماعي سيئ، أصحابه يرتكبون المعاصي. ولا شك أن في مشاهدتهم ما يغري على ارتكاب ما يأتون تقليدا لهم ومحاكاة لسلوكهم. ثم يعرض الباحث لكل عامل من عوامل الوسط الاجتماعي بالتفصيل فيقول: أولا: الأسرة: تعتبر الأسرة المحضن الأساسي الذي يبدأ فيه تشكل الفرد وتكون سلوكه بشكل عام، فالأسرة هي أهم مؤسسة اجتماعية تؤثر في شخصية الأبناء، وذلك لأنها تستقبل الوليد الإنساني أولا ثم تحافظ عليه في أهم فترة في حياته وهي مرحلة الطفولة، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وما لا شك فيه أن الأسرة المفككة عامل رئيس في انحراف الشباب وسلوكهم طريق الجنوح. وإن كانت ليست نتيجة حتمية إلا أن الغالب والأعم أن الأسرة المفككة محضن مناسب لتخريج أحداث منحرفين. ولا يتوقف الأمر على الأسر المفككة فحسب، بل إن الأسر المستقرة اجتماعيا قد تخرج أحداثا منحرفين في حالة عدم اتباع السلوك الصحيح للتنشئة السليمة لأفرادها، فقد تكون عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة خاطئة ينقصها تعلم المعايير والأدوار الاجتماعية السليمة والمسؤولية الاجتماعية، أو تقوم على اتجاهات والدية سالبة مثل التسلط والقسوة والرعاية الزائدة والتدليل والإهمال والرفض والتفرقة في المعاملة بين الذكور والإناث وبين الكبار والصغار وبين الأشقاء وغير الأشقاء والتذبذب في المعاملة. كذلك تدل الدراسات على أن اختلال العلاقات بين الوالدين لها آثارها السلبية على الطفل، وتتمثل تلك الآثار في هروب الطفل إلى الشارع أو انغماسه في أحلام اليقظة، وكل ذلك هروب من الواقع الذي يعيش فيه. من الصعب أيضا إغفال دور الأسرة في تكوين الاتجاهات الإيجابية نحو كيفية قضاء وقت الفراغ، فكما يتعلم الطفل السلوك الانحرافي داخل الأسرة فكذلك يتعلم السلوك السوي من توجيه الأسرة نحو قضاء أوقات الفراغ فيما ينفعه من عدمه نتيجة تقليد الطفل من حوله فيما يمارسونه من أنشطة ترويحية. فلقد وجد (ناش) في دراساته أن 70? من ميول وهوايات أهالي مدينة نيويورك قد بدأت في المنزل، وأن 70? من هذه الهوايات أيضا ظهرت قبل سن الثانية عشره، وهذا مما يؤكد دور الأسرة ليس في حسن تربية الطفل وإكسابه المعايير السليمة المتوافقة مع المجتمع فحسب، بل في تكوين اتجاهات إيجابية نحو استغلال وقت فراغه مما يكون لديه إطارا وقائيا من الانحراف من خلال استفادته من وقت فراغه بما يحقق له النمو المتوازن وبما يحقق إشباع حاجاته النفسية والاجتماعية. ثانيا: المدرسة: تأتي المدرسة في المرتبة الثانية من حيث الأهمية في تنشئة الطفل بخاصة بعد أن عمم التعليم وأصبح إجباريا في سنواته الأولى في أغلب الدول، وتحملت المدرسة تعليم الصغار بالتعاون مع الأسرة من أجل توسيع مدارك الطفل، وجعله يحب المعرفة والتعليم مما أدى بروز المدرسة كمؤسسة اجتماعية مهمة لها أثرها في مختلف جوانب الطفل النفسية، والاجتماعية، والأخلاقية والسلوكية، وبخاصة وأن الطفل في السنوات الأولى من عمره يكون مطبوعا على التقليد والتطبع بالقيم التي تسود مجتمعه الذي يعيش فيه. فهو يتأثر في الغالب بالجو الاجتماعي الذي يعيشه في المدرسة، ومن هنا فالمدرسة ليست محضنا لبث العلم المادي فحسب بل هي نسيج معقد من العلاقات خاصة للطفل الصغير. فالمدرسة بالجملة لها أثرها الفعال في سلوك الأطفال وتوجهاتهم في المستقبل، كما أننا ومن خلال المدرسة نستطيع أن نكشف عوارض الانحراف مبكرا لدى الأطفال، مما يهيئ الفرصة المبكرة لعلاجها قبل استفحالها، مثل: الاعتداء على الزملاء - السرقة - محاولة الهرب من المدرسة- إتلاف أثاث المدرسة، مما يشكل خللا في سلوكيات الطفل. ويأتي مكملا لما ذكر عن دور المدرسة في حياة الطفل، دورها في تعليمه كيفية الاستفادة الحقيقية من وقت الفراغ، وتتحمل دورا كبيرا في هذا الأمر بتنمية القدرات والمهارات للاستفادة منها في استثمار وقت الفراغ. ثالثا: الحي السكني: نقصد بالحي السكني هنا المنطقة التي تقطنها الأسرة بجوار العديد من الأسر، وتتشابك فيها العلاقات الاجتماعية بين تلك الأسرة وأفرادها تأثرا وتأثيرا. لذا فإن الحي يسهم في تزويد الفرد ببعض القيم، والمواقف، والاتجاهات، والعادات، والمعايير السلوكية، التي يتضمنها الإطار الحضاري العام الذي يميز المنطقة الاجتماعية. ونستطيع القول إنه قد يكون للحي دور إيجابي أو سلبي على حياة الطفل، وقد يكون ذلك من طبيعة الحي ومستواه الاقتصادي والاجتماعي، فالحي الذي يساعد على الانحراف نجده يعطي شيئا من الشرعية على أعمال المجرمين، ويصورها بالصور البطولية مما يكون لدى الحدث في ذلك الحي مثالا وقدوة سيئة يحتذى بها، وتتشكل شخصيته على هذا الأساس. ومن تلك المنطلقات فالحدث يرى أنه لا يمكن أن يكون له منزلة في ذلك الحي إلا بتبني إحدى صور البطولة والرجولة التي ارتسمت في ذهنه كصورة المجرم في حيه، حيث يبدأ في تتبع خطوات بطله المنحرف حتى يسقط في أخطائه ويرتكب أعمالا ضد القيم والمصلحة العامة لحيه. فالطفل انحرف باتباعه بطل سوء، وهذا يرجع إلى عدم وجود بطل الخير والصلاح الذي يرشده، ويقتدي به في الحي نفسه. ومن هنا نجد شخصية الطفل تتشكل في الغالب بحسب سكان الحي وبحسب مكانة الحي بين الأحياء على مستوى المدينة وبحسب وسائل الترويح المتاحة فيه، فالحي الذي تتوافق قيمه مع قيم المجتمع العام، يكون في الغالب حيا سويا يهيئ للطفل جوا يكسبه الشعور باحترام تلك القيم وعدم تجاوزها. رابعا: جماعة الرفاق (الأصدقاء): تؤثر جماعة الرفاق على حياة الطفل تأثيرا كبيرا، ربما تفوق تأثيرات العوامل السابقة، ذلك أن جماعة الرفاق تتيح للحدث فرصة تحدي الوالدين من خلال قوة الجماعة الجديدة التي صار جزءا منها، التي تسانده في إظهار هذا التحدي، إضافة إلى شعوره أنهم يمدونه بزاد نفسي لا يقدمه له الكبار أو الأطفال، وبهذا تعد طبقة الأقران أحد المصادر المهمة والمفضلة عند المراهقين للاقتداء واستقاء الآراء والأفكار. ولقد أشار الإسلام إلى أهمية الرفقة والصداقة وأثرها في حياة الفرد في اكتساب القيم والسلوكيات والأفكار، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم إلى من يخالل والخليل هو الصديق أو الرفيق، فإذا كان أثر الصديق يمتد إلى الدين فلا شك أن أثره في سلوكه واتجاهاته سيكون واضحا وبينا، هذا إذا كان واحدا، فكيف إذا كانت جماعة؟ فلاشك أن أثرها على الطفل أو الحدث سيكون أكبر، خصوصا الأصدقاء الأكبر سنا فإنهم أشد خطورة لشغف الطفل بتقليدهم باعتبارهم المثل الأعلى الذي يحتذى. نستنتج مما سبق ذكره: أن هناك عوامل تقود للانحراف وفي الوقت نفسه قد تقود للنجاح وهذا بحسب توجيه هذه العوامل، ومعرفة كل عامل منها سواء الأسرة أو الحي أو الرفاق أو المدرسة لدوره وتأديته بإخلاص وأمانة، حتى نقضي على المشكلات الاجتماعية الكبيرة التي تعاني منها الأسرة ويعاني منها الشباب وتعاني منها الأمة. كما أن على كل منا ألا يدع لشبح الفراغ الفرصة أن يغتال نفسيته ويتمكن منه بل إن علينا أن نبحث لأنفسنا عن أي ميدان محبب للنفس سواء في القراءة أو الكتابة أو الرسم أو نحوها ونستثمر هذه الطاقة في حرفة نافعة مثل تعليم الخياطة للبنات ففيها فوائد كثيرة وتعليم تصليح الأدوات الكهربائية بالنسبة للأولاد، فهذه مشكلات تواجهنا جميعا دون أن نعرف كيفية التصرف فيها، كما أنه يمكن للشاب أن يعمل في هذا المجال أو يفتح ورشة أو يعمل في شركة بتعليمه لهذه الحرفة أو تلك، فنكون بذلك أشغلنا أنفسنا فيما ينفعها وينفع غيرها.