حياتنا ..نحو توازن جديد..!

بين الحث والاستجابة يبرز الاختيار، ويتجسد الوعي، والمتغيرات الهائلة التي يشهدها عصرنا، تحثنا على التحرك في اتجاهات شتى، وتتطلب استجابات متواصلة، قد تخل بالكثير من التوازنات النفسية والاجتماعية السائدة. إن حاجات الإنسان الفطرية كثيرة، ولابد لمن يريد أن يعيش حياة طيبة هانئة من تلبيتها وإشباعها. وقد كان ذلك يتم في الماضي على نحو سلس، حيث كان الناس يصنعون بيئاتهم المحلية بصورة شبه تامة. أما اليوم فإن تشكيل الحياة الشخصية والاجتماعية، أضحى خاضعا لما لا يحصى من الوافدات والمؤثرات الأجنبية المتنوعة. وتلك الوافدات، ليست عبارة عن فوائض ثقافية وإنتاجية تعبر القارات بصورة عفوية، بمقدار كونها أدوات لدمج الأفراد والشعوب في أنساق النظام الرأسمالي الغربي بصورة قسرية وخفية، كما أنها أدوات لإدارة الغرائز البشرية، وتوجيهها بشكل منهجي ومبرمج لصالح النظام الاستهلاكي للسوق. وفي ظل سطوة وسائل الدعاية والإعلام صار الإنسان يبدو وكأنه ذو بعد واحد، هو بعد الإنسان (المنتج - المستهلك)، وهذه الوضعية أخذت تعرض المخزون الثقافي المركب للتآكل الداخلي؛ مما يهدد بنسف ما تبقى من معاني الضبط والتوازن والاعتدال، والتي تشكل قوام التماسك الحضاري. إن الدفق الثقافي الهائل الذي يجتاح العالم الإسلامي اليوم، ليس هو الدافع الوحيد للبحث عن توازنات جديدة، فهناك إلى جانبه عوامل أخرى عديدة، تحفزنا على ذلك، منها أن الأفكار السائدة لا تكون دائما صحيحة، كما أن الواقع المعيش ليس انعكاسا مطابقا لقيم الأمة ومبادئها، فهناك دائما مسافات فاصلة بينهما، مما يستدعي التصحيح الدائم؛ كما أن (تطاول الأمد) يوهن الحساسيات والترميزات الداخلية للثقافة، فلا تتنبه للوافد الأجنبي، ولاسيما حين يغزوها من خلال سلسلة من التغيرات البطيئة والصغيرة، فيتحول المثير إلى مخدر، فلا تستنفر أنساقها للمقاومة، وهذا ما نشاهده اليوم على غير صعيد! إن قدرتنا على إقامة توازنات جديدة، تعني أننا قادرون على تجاوز الخطوط والدوافع الغريزية، وتجاوز جمود الحتميات الجينية التي تحصر التصرفات المبرمجة في حدود ضيقة، كما تعني أننا قادرون على الربط بين الآلام والعذابات التي نعانيها وبين مصادرها وأسبابها. إن (التقدم) مصطلح محايد، لا يملك أي مدلول أخلاقي، ومن ثم فإن علينا أن نكون قادرين على أن نخطو - في بعض الأحيان - خطوة إلى الوراء في سبيل استعادة أخلاق وسلوكيات فقدناها في غمرة التحديث والتطوير والاستجابة لدواعي المعاصرة. إن الحكمة تقتضي منا أن نبدي - في بعض المجالات - نوعا من السلبية والممانعة هربا من تداعيات غير ملائمة. وهذا ما تفعله بعض بذور الأشجار، فهي عندما تعجز عن الهروب في الفضاء، تبتدع (استراتيجية) تتيح لها التحرر من قيود البيئة بـ(التشرنق) في وسط محمي، والإبقاء على المبادلات الخارجية عند أدنى حد ممكن، وهي تتمكن بذلك من أن تنتظر قرونا إلى أن تحين ظروف مواتية للإنبات. إن ما نحتاج فيه إلى استعادة موازنات سابقة، أو استحداث موازنات جديدة - يشمل جوانب عديدة في حياتنا، لعل منها: -1 حركة الإنتاج الهائلة نقلت مركز السيطرة من الإنسان إلى الأشياء، فنحن اليوم محاطون بكم هائل من الأشياء والأدوات، ومع أننا نحن الذين نقتنيها، ونرتفق بها، إلا أننا في النهاية نصبح مستعبدين لها، ونشعر بنوع من العوز عند فقدها. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالأشياء المستوردة ليست محايدة - كما قد يتوهم، فهي لا تفتأ أن توجد في ثقافتنا مجالها الفكري والروحي الخاص، والذي يدخل في صراع مع الرموز الروحية والنفسية الأصيلة في ثقافتنا وشخصيتنا الاجتماعية. وقد كان بعض سلفنا على وعي بهذا، ولذا قالوا: استغناؤك عن الشيء خير من استغنائك به. فهل عقلنا عنهم ذلك؟ -2 لكل مجتمع عقيدتان: عقيدة نظرية وعقيدة اجتماعية. العقيدة النظرية تتمثل في مجموعة القيم والمبادئ التي يرى مجتمع ما ضرورة تجسيدها في الواقع. أما العقيدة الاجتماعية فهي ترجمة لجماع مبادئ المجتمع ومصالحه، ومركز التوازن بينهما. الناس يندفعون صوب العقيدة الاجتماعية، كما يندفع الماء في المنحدر. وفي ظل الظروف الصعبة، وعندما ينتشر الفساد والانحراف في المجتمع، تترسخ قناعات متزايدة لدى الناس بصعوبة الجمع بين مبادئهم ومصالحهم، ويجدون ضغوطات وإغراءات كثيرة بالانحياز إلى الأخيرة؛ فحين ينتشر الكذب، مثلا، يشعر الصادق بأن صدقه أضحى عقوبة له، وقليل أولئك الذين يتحملون الإضرار بمصالحهم إلى مالا نهاية! تحقيق الناس لمصالحهم على غير هدي مبادئهم، لا يتم من غير انحطاط أخلاقهم، ولذا فإن من واجب المؤسسات التربوية والوسائل الإعلامية تسليط الضوء على المسافات الفاصلة بين العقيدة النظرية والعقيدة الاجتماعية في حياة الناس إلى جانب مساعدتهم على إعادة تنظيم خبراتهم الفكرية والشعورية في هذه القضية الهامة. وتلك المسافة الفاصلة بين العقيدتين هي المسافة الحقيقية التي علينا أن نتجاوزها، لأنها هي المسافة بين الصحة والمرض. -3 الإحساس بالسعادة والشعور بالرضا ركنان أساسيان من أركان (الحياة الطيبة). الإحساس بالسعادة مطلق، وينبع من الداخل. وهو غير الشعور باللذة أو النشوة الذي ينطبع دائما بطابع العابر والمؤقت. يشعر المرء بأنه سعيد على مقدار ما يستطيع من ردم الفجوة بين سلوكه ومعتقداته، وعلى مقدار تقارب طموحاته وإنجازاته. أما الشعور بالرضا فإنه نسبي، وهو أحد المنتجات الاجتماعية. ويتولد لدى المرء من خلال مقارنة نفسه مع الآخرين. وهو لا يلامس الأعماق، بمقدار ما يعكس الكفاءة الاجتماعية للشخص، وكونه (لائقا) في نظر نفسه ونظر الآخرين. ونشعر اليوم أن هناك نموا متزايدا للحرص على الشعور بالرضا، على حساب الاهتمام بالحصول على الشعور بالسعادة. مع أنها هي الأصل والأساس في الحياة الهانئة. وهذا الاندفاع الذي لم يسبق له نظير نحو اللهو والسفر والسياحة وارتياد المطاعم والحرص على المظاهر والشكليات... ما هو إلا تعبير عن هذه الحالة، حيث تتضاءل (الذاتية) ويفر الناس من مواجهة أنفسهم للبحث عن سعادة موهومة، حين يطلبونها في غير مظانها! هذه الحالة يمكن أن تدوم طويلا، كما يمكن أن تتطور إلى ما هو أسوأ، مالم نسلط عليها أشعة النقد، وندخلها في منطقة الوعي. إن استعادة التوازن في هذا تتم عن طريق تشجيع الطلاقة والتدفق الداخلي، وعن طريق المزيد من التعبد، والشعور بالتأنق من خلال الأنشطة الطوعية والمشاركة في إنتاج الفائض الاجتماعي. -4 الثورة المعلوماتية المتنامية، حجمت مشكلة (المسافات) حين وفرت وسائل نقل المعلومات وحفظها واسترجاعها على نحو مدهش، مما سيكون له أكبر الأثر في التشكيل الثقافي العالمي في القرن القادم. لكن قدرات الناس على التعامل مع المعلومات واستثمارها، لم تتقدم على النحو المكافئ. العقل من غير معلومات يطرح فروضا شكلية، ويقدم حلولا وهمية. لكن علينا ألا ننسى أن غزارة المعلومات حول قضية ما قد تعوق عمل العقل، وتجعل استخدامه لنماذجه ومحكاته الخاصة أمرا عسيرا؛ حيث إن المعلومات كثيرا ما تتوزع على نماذج ومساقات متعارضة ومتقاطعة. نحن لا ننكر أن الطبيعة التسلسلية لتنظيم المعلومات، قد عززت التفكير الخطي المنطقي لدى كثير من الناس، لكن ذلك محدود الأثر في تعزيز القدرة على معالجة المسائل المعقدة والكبرى، والتي تحتاج إلى النمو في التفكير الجدلي والشمولي. وأعتقد أن عالمنا المعرفي بحاجة إلى منهجيات جديدة للتعامل مع المعلومات الوفيرة المتدفقة، منهجيات تنمي لدينا الوعي بترابطات المعلومات وتداعياتها وأساليب التوليد منها، ومدلولاتها الأخلاقية والاجتماعية الجديدة، إلى جانب تدريبنا على دمج حقائق الماضي ونظمه في الحقائق والنظم الجديدة. وبذلك وحده نستطيع أن نملك ناصية المعرفة، وأن نتجاوزها بدل أن نقع أسرى لها؛ فما يرد إلينا من معلومات، ليس مبرأ من الخطأ دائما، ولا من المقاصد السيئة والأغراض التجارية.. إن علم العلوم هو العلم الذي يساعدنا على معالجة كل العلوم، ويحسن وعينا في التعامل معها.