فن التأمل :تجرد من صخب الحياة.. وضوضاء البشر

الوقت حياة المرء، وأنفاسه هي الدقائق والثواني التي تتم به، فإن استطاع الإنسان الإمساك بزمام الوقت وإدارته بإحكام وإتقان فيما يخدم أهدافه البعيدة والقريبة معا يكون قد وضع قدمه على أول طريق النجاح. ولإدارة الوقت سيكولوجيات ونظريات كثيرة، لا أعتقد أن محل طرحها مقال أو أسطر، بل هو علم تقام فيه دورات وتدريبات، وله أناس متخصصون يبحثون ويعملون على أسس راسخة. غير أن مالفت نظري وأحببت أن ألقي الضوء على جزء منه تلك الجزئية. أو عفوا ـ الأساسية من أساسيات ذلك العلم وهي التأمل: التأمل فريضة من فرائض ديننا الحنيف وواجب من واجباته ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وماتغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) سورة يونس. وهو عبادة عظيمة بنص قول الله تعالى يصف عباده المؤمنين: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا..) الآية آل عمران. ولايتوقف الأمر عند هذه العبادة العظيمة، بل إنها تتكرر في حياة المسلم خمس مرات في اليوم والليلة لتكون شعار الصلوات الخمس التي هي عماد الإسلام. فالصلاة من غير خشوع ولا تأمل كالجسد بلاروح. كما روى ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك من صلاتك إلا ماعقلت منها مجموع الفتاوى لابن تيمية 22 612 . الصلاة.. وحصر الذهن يقول وليم مارستن الاختصاصي في علم النفس: العقل الإنساني يصبح أداة مدهشة للكفاءة إذا ركز تركيزا قويا حادا، وهذه القدرة تكتسب بالمرانة، والمرانة تتطلب الصبر، فإن الانتقال من الشرود إلى حصر الذهن حصرا بينا محكما هو ثمرة الجهد الملح، فإذا استطعت أن ترد عقلك مرة بعد أخرى، وخمسين مرة ومائة مرة إلى الموضوع الذي آثرته بالاختيار والعناية، ثم تلقى نفسك آخر الأمر قادرا على حصر ذهنك بإرداتك فيما تختار. ويعلق الدكتور علي الحمادي على كلام مارستن بالقول: إن الصلاة في الإسلام هي تمرين على ملكة حصر الذهن في الإنسان، فالمصلي الذي يستطيع ويحاول بكل قدرته أن يحصر فكره طيلة الوقت الذي تستغرقه الصلاة، وهو مايسمى بالخشوع، لاشك بأنه تنمو لديه ملكة حصر الذهن، وتصبح أكبر معين له في سائر الأعمال التي يزاولها. حاجة أساسية إن حاجة الإنسان للتأمل لاتقل من حيث أهميتها عن الحاجات الأساسية لديه، بل إن التأمل في النفس والنزول ببطء إلى قاع الذات يتجاوز في تقديري حاجة المرء إلى لقمة تسد أوده وتقيم عوده. ويتحدد هذا المفهوم الأصيل من حيث الطرح والتناول (بالعمل على إيجاد وقت معين يختلي فيه المرء بنفسه بعيدا عن صخب الحياة وضوضاء البشر). إن الوقت الذي يمضيه الإنسان مع ذاته يتجاذب وإياها أطراف الحديث هو وقت غال ونفيس. أجل.. في حياة الإنسان المعاصر على الرغم من محاسنها، الكثير من المنغصات التي في مجملها من نوع الشر الذي لابد منه نتيجة لمتطلبات العيش والمعيشة والاعتياش. ففي مثل هذه البيئة الملوثة ليس فحسب ـ بدخان عوادم المركبات السيارة وأدخنة المعامل والمصانع والمواد الهيدوركربونية ومايرتبط بها ويتصل إليها من مظاهر التلوث الأخرى، ومنها الآلة الإعلامية المتمثلة في كل صنوف القصف الجوي الإعلامي من خلال تلفزة الأقمار الصناعية، والأكثر خطورة من كل هذا شبكات الإنترنت. ولاينبغي لنا أن نغفل القصف الأرضي الإعلامي من خلال أجهزة الفيديو! نقول: في مثل هذه البيئة المحفوفة بالاجتماعات والتقارير والمسؤوليات الإدارية والإحباطات وخيبات الأمل والتعامل بلغات الأرقام وغيرها وغيرها... تصبح الحاجة إلى التأمل أو إلى إدارة المشاعر من اتجاهاتها البوصلية المعتادة إلى اتجاهات تأمليه في النفس والكون والكائنات والناس والأشياء جد مهمة... يقول علي بن أبى طالب رضي الله عنه ـ (مخاطبا الإنسان في عمومه وشموله، يحرضه على التأمل في الذات حيث توجد الوصفة الدوائية التي تغني عما سواها: داؤك فيـــك وماتبصــر فيــك ومنـك وماتشــعـر وتزعم أنك جـرم صغيـر وفيك انطوى العالم الأكبر الخلاصة : إن إدارة التامل عن طريق الإيمان العميق بأن الله هو واهب الحياة وأن كل جزء من الحياة بالنتيجة هو هبة الله عز وجل، علاج ناجح من كثير من الأمراض النفسية المعقدة والمتشابكة التي يعاني منها إنسان الحياة المعاصرة وخاصة في الغرب، حيث النأي الكبير للناس عن الإيمان بالله واهب الحياة. وعندما يدير الإنسان مشاعره من وجهة الحياة العملية المتخمة بكل شيء وخصوصا التطاحن على المناصب والتكالب على الماديات والكيد والحسد والحقد، إلى وجهة التأمل الروحي المتجرد من نوازع الجسد، هنا تتحقق إدارة التأمل، ابتداء من المفهوم الأولي الذي وصفناه بـالعمل على خلق وقت محدد يختلي فيه المرء إلى نفسه... إن الطب يفيدنا بأن 90? من الأمراض الجسدية هي نتيجة لعوارض سيكولوجية أو مايعرف بالأمراض الجسدية ذات المسببات النفسية، وإن الدراسات الخاصة بإدارة القلق وإدارة التوتر وإدارة الضغط النفسي وغيرها إشارة واضحة على البعد أو الجهل بالأحرى ـ بإدارة التأمل. وقت للهدوء! أما ريتشارد كارلسون مؤلف كتاب لاتهتم بصغائر الأمور فكل الأمور صغائر الذي يعد من أكثر الكتب مبيعا في العالم فكتب تحت عنوان: خصص لنفسك وقتا للهدوء كل يوم يقول: لقد عملت ومازلت أعمل في مجال معالجة التوتر لأكثر من عشر سنوات، وخلال هذه المدة قابلت بعض الأشخاص غير العاديين، ولم أعرف شخصا يتمتع بالسلام الداخلي دون أن يحتجز لنفسه كل يوم وقتا للهدوء وسواء كان هذا الوقت عشر دقائق للتأمل أو ممارسة اليوجا أو قضاء بعض الوقت مع الطبيعة أو الاستمتاع بحمام، فإن احتجاز هذا الوقت جزء هام جدا في حياتك. وهذه الفترة من الهدوء مثلها مثل قضاء بعض الوقت في انفرادنا تساعدنا على إحداث الاتزان في كمية الضوضاء والارتباك التي تتسلل إلينا طوال اليوم. ويؤكد كارلسون على التأمل مرة أخرى تحت عنوان إراحة العقل في الكتاب نفسه: هناك أشكال متعددة ومختلفة للتأمل. والتأمل لابد أن يشتمل على تفريغ للعقل من أي مشكلات ويفضل في العادة أن يتم التأمل في بيئة هادئة. سوف تدرك أن التأمل ليس عملية سهله، وسوف تلاحظ أن عقلك سوف يمتلئ بالأفكار بمجرد أن تحاول إفراغه منها. ومن النادر أن يستطيع المبتدئ تركيز انتباهه لأكثر من عدة ثوان. وإذا أردت أن تكون متأملا جيدا، فعليك أن تكون رقيقا مع نفسك وأن تكون مثابرا فلاتدع الإحباط يصيبك، إن عدة دقائق يوميا سوف تكون لها فوائد جمة بمرور الوقت. ثم يختم د. كارلسون بقوله: إنني لا أعرف أناسا ينعمون بالسلام الداخلي مع أنفسهم دون أن يقضوا بعض الوقت في ممارسة التأمل. وأخيرا عزيزي القارئ لعل أهمية التأمل وماتبعثه من صفاء للذهن وجمال النفس ونقاء الروح قد غدت واضحة بالنسبة لك ولاغرو فقد سبق إليها شرعنا المنزل من عند العالم بالأنفس وخفاياها وأسرارها فتوجه للتأمل لتحقق ماتريد.