تجربة مستشار .. لا يشار!
جمعتني المصادفة بصديق قديم باعد بيننا الدهر، إذ ابتعثته المصلحة التي يعمل بها إلى خارج الوطن ليكمل دراسته العليا بعد أن عمل بها زمنا تدرج فيه إلى عدد من المناصب القيادية فيها. والحق أقول إن صديقي كان مثالا للمسؤول الجاد المخلص المتفاني في عمله استنادا إلى الساعات الطوال التي يقضيها في مكتبه. إذ كثيرا ما كنت أسأل عنه في منزله وتجيب زوجته إنه في العمل ولم يكن وقتها قد ظهر ما يسمى (بزواج المسيار) لكي أشك أنه في مكان آخر. استغربت مما قرأته في (البزنس كارد) الذي قدمه لي عندما سألته عن سير عمله إذ كان يسبق اسمه حرف الدال واسم وظيفته مدير عام أما اسم المصلحة التي يعمل بها فكان غير اسم مصلحته التي ابتعثته. عند ذلك طلبت منه أن يحكي لي قصة هذا التحول الذي حدث له، فقال والحزن يخيم على نبرات صوته: - عند عودتي من البعثة التي ذهبت فيها وقد حصلت على أعلى شهادة علمية يطمح لها ويصلها الفرد، كنت مليئا بالحماس لأمارس عملي، أولا لأطبق ما تعلمته في دراستي، ثانيا لأرد الجميل لمصلحتي التي صرفت علي كثيرا لأحصل على مؤهل يرفع من قيمتها العملية بين المصالح الأخرى. إذ أن قياس الجودة هو المؤهلات التي يحملها موظفو المصلحة، والتي يمنح أصحابها (المميزات) على حساب أصحاب الخبرات الذين يحملون مؤهلات أقل. وكلنا يعلم أن الخبرة مطلب يبحث عنه الجميع. ثم ماذا حدث أكمل يا صاحبي فقد زدتني شوقا على شوقي وحافظ والمتنبي كمان ياشيخ. - المهم عدت لأستلم موقعي وكان فيه زميل آخر غيري، وفوجئت بأنني أقبع في مكتب منزو كتب على مدخله مستشار مدير الإدارة. وقلت في نفسي ربما كانوا يريدون أن أتفرغ للدراسات لأغير أسلوب العمل ولا أشغل نفسي ووقتي بالعمل الروتيني. وضحكت على نفسي بأن قلت لها إنني بوظيفتي هذه ومؤهلي أكبر من عمل مدير الإدارة، ولقد أراد (الجماعة) أن يكرموني بهذا المنصب الهام الذي يطلق على حكام بعض دول العالم الغربي كالنمسا وألمانيا. المهم أنني جمعت على مكتبي بعض المراجع التي أحضرتها معي ورتبت المكتب ليكون أكثر هدوءا، إذ إنهم أحسنوا بي فجعلوه منزويا لأفكر في هدوء في المعاملات التي تحتاج إلى دراسة وأساليب عمل جديدة. وانتظرت اليوم الأول والثاني والثالث واكتمل الأسبوع ولم تحول لي معاملة واحدة على الإطلاق، فقلت لعلهم يبحثون لي عن المعاملات الصعبة التي ترقى إلى مؤهل سعادة الدكتور المستشار، والحق أنهم كانوا لا ينسونني من كامل الصحف صباح كل يوم. وكنت أبتهج وأنا أحملها تحت ذراعي وأسير في نهاية الدوام إلى سيارتي فعدد الصحف تدل على أهمية حاملها ومركزه. وفي الأسبوع الثاني كنت مازلت أحمل الأمل، وجاءت الصحف كالعادة وكر الأسبوع، فقلت في نفسي ربما هم يريدون أن أطلع على الصحف لكي أنظر إلى الجديد وأزاوج بينه وبين ما تعلمته لتكون الفائدة أكبر. ومر الشهر الأول وأنا على هذه الحال. فخطر لي أن أقابل مدير الإدارة لأسأله عن حقيقة وضعي، ولكن سكرتيره اعتذر بأنه في اجتماع. فقلت له كان أولى أن أكون أنا أول الحاضرين في اجتماعات الإدارة، فلم يرد علي وانشغل بأوراق أمامه. فعدت إلى مكتبي ووقفت أمام اللوحة التي تحمل صفة صاحب المكتب الذي هو أنا سعادة المستشار، فأخذت قلمي من جيبي وكتبت تكملة للجملة (الذي لا يشار). وبعد ذلك بدأت الصحف تتناقص وهي التي كانت تحفظ لي ماء وجهي أمام زملائي حتى أصبحت أخرج بصحيفة واحدة. مضى صاحبي يقول والألم يعتصره: - ولكي أتفادى الحرج صرت أحمل حقيبة أضع فيها الصحيفة وأنقل فيها كل يوم أحد المراجع التي أحضرتها إلى المكتب والتي استغرق نقلها قرابة الشهرين. بعد ذلك طفح بي الكيل وكنت على وشك أن أقدم استقالتي. ولكن صدفة جمعتني بأحد الزملاء، والذي عرف وضعي فعرض علي أن أعمل معه في المؤسسة نفسها التي يعمل فيها عن طريق الإعارة، وعند تقديم خطاب الإعارة كنت أحسبهم سيتمسكون بي ولكن هالني شرح مديري الذي كتب (أوافق وليس هناك مانع من النقل إن شاء). وانتقلت إلى عملي الجديد غير مأسوف علي يا صاحبي، وهأنذا أعمل في موقعي الجديد براتب يساوي ضعف ما كنت آخذه في مصلحتي الأولى التي أمضيت فيها سنوات شبابي، بالإضافة إلى مميزات أخرى، ولكن يا صاحبي ما يؤرقني ويؤلمني هو.. قل يا صاحبي فلابد أن الألم والمرارة اللذين يبدوان من حديثك وراءهما ما وراءهما.. - نعم إن ما يؤرقني ويؤلمني سؤال يبيت معي ليلا ويرافقني نهارا وهو لماذا ابتعثت إذا؟! وهل من المصلحة أن تستغني عني مصلحتي الأولى بعد كل هذا الذي بذلته في دراستي لكي أخدمها؟ وكيف يتم الاستغناء عني بهذه السهولة؟ وهل صاحب القرار على وعي بتصرفه هذا؟! إنني برغم ما أنا فيه الآن من مركز علمي قيادي مرموق ووضع مالي أحسد عليه، إلا أنني أكاد أموت كمدا وقهرا مما حدث لي. أتظن أنك الوحيد يا صاحبي في هذا الكون الذي حدث له ما حدث لك؟! إن أمثالك كثر يا دكتور، واحمد الله على ما أنت فيه الآن، لأن زملاءك الذين ابتعثوا معك لم يتح لهم ما أتيح لك ومازالوا في زواياهم التي احتلوها منذ عودتهم، وكان هناك من لا يرغب في أن يظهر من هو أعلى منه مؤهلا على سطح المسؤولية لكي لا يسحب البساط من تحت قدميه. - هل تظن أن ذلك يعود إلى عدم ثقة المسؤول بنفسه وبالذات إذا كان لديه في إدارته من هم أكفأ منه علميا وعمليا، وخوفا من أن يظهر هؤلاء الأكفاء عيوبه لذلك هو يحاول التخلص منهم، خصوصا إذا كان وصوله إلى موقعه جاء عن غير جدارة. يا دكتور هؤلاء المتسلقون موجودون فعلا ولكن الحمد لله أنهم قلة بيننا، وبلاهم أنهم يتحكمون في مجموعة فيها الكفء وفيها غيره وهم يقدمون غيره على الكفء ويحاولون التخلص من الكفء لكي لا يظهر عيوبهم. - ذلك بالضبط ما حدث وهأنذا أمامك أحد ضحايا هؤلاء المتسلقين الانتهازيين. ألم تسمع قول المتنبي: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هموا - يا أخي إنهم يقولون (ولكن تؤخذ الدنيا غلابا) ولم يقولوا (ولكن يأخذ الدنيا الغلابا) يا غلبان). يا صاحبي لولا فسحة الأمل لضاق بنا العمر، والحمد لله لقد اختلف الوضع الآن وأصبحت المعايير مختلفة عن السابق. - أنت نسيت؟ ألم تقل قبل قليل إن الزملاء الذين ابتعثوا معي مازالوا في زواياهم قابعين. وأنت جالس تدقق في كل كلمة أقولها؟ يا عمي أهو كلام يسلي الواحد نفسه فيه، ويفضفض عن نفسه، لعل ما في الغيب أحلى. - على رأيك. والآن أستأذن لكي أذهب إلى عملي إنهم عينوا عضوا منتدبا جديدا ولابد أن نقدم له الولاء والطاعة ونكون في استقباله (نبغي نأكل عيش يا سيدي). - أجل الحق يا سيدي قبل ما تفوتك لقمة كده ولا كده يأكلها غيرك. ويبدو لي أنك عرفت من أين تأكل الكتف. واستطعت أن تستفيد من التجربة لأن الدنيا فعلا تجارب.