مفاتيح السعادة الثلاثة : الأمان والرزق والطمأنينة
في الفترة الطويلة التي قضيتها في ألمانيا أثناء رحلة التخصص طالعني دوما أمران استعصيا على الانسجام والتفسير ولم يحل ذلك اللغز لي إلا آية من سورة النحل ووفرت لي دراسات علم النفس الإنساني أدوات معرفية لتشريح الآية. كنت ألاحظ المجتمع الألماني يسبح في بحبوحة من رغد العيش والضمانات والأمن الاجتماعي، مع هذا فالإنسان الألماني لا تطل من قسماته مظاهر السعادة، تظهر حدتها بشكل خاص يوم الأحد بعد الظهر في منظر كئيب لاستقبال العمل يوم الإثنين في لغز يستعصي على الحل. هذا الكلام لا يعني أن مجتمعنا يشع بالسعادة والعافية، بل هو أقرب إلى استلاب الأمرين فلا ضمانات ولا سعادة. ورغد العيش يشكل استثناء في جزر طافية على بحيرات بترولية لا ترجع رفاهيتها إلى العمل وبذل الجهد وعرق الجبين والإبداع المعرفي بقدر الحظ في التكوين الجيولوجي البحت، تدين بوافر عيشها لحضارة نشطة في بعد المشرقين تعمل أجهزتها في الغرب، وكانت الأقدار بأن تدفق جزء ليس بالقليل من دمها من منابع الشرق فيما يشبه كائنا أسطوريا جسمه في مكان ودمه في مكان آخر. كانت الآية القرآنية تعلمني مثل القرية التي ضرب الله فيها المثل بأنها(آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) أردت أن أنزل إلى تشريح الآية بواسطة أدوات معرفية جديدة بتسخير علوم معرفية حديثة من علم النفس والمجتمع. لا يمكن فتح جمجمة بأدوات فرعونية ولا يمكن الدخول إلى عظيم أسرار الآيات دون الاستعانة بمجموعة من الأدوات المعرفية الحديثة، و(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فيزداد التماع الحق بالتقدم في حقول النفس والطبيعة والتاريخ. سيد قطب وابن كثير والقاسمي ثلاثة مفسرين ينتسبون لفترات تاريخية مختلفة، وهذا ما جعل إضاءة معاني القرآن لكل منهم تأتي حسب إحداثيات العصر ومشكلاته. ابن كثير توسع في قصة هاروت وماروت ومشكلات السحر كحاجات ملحة مسيطرة في عصره ولو بعث في عصرنا لبحث مشكلات من نوع مختلف، وتناول قطب ميكانيكا الكم دون ذكر اسمها في فكرة مفاتح الغيب من سورة الأنعام كما توقف لصفحات طويلة عند قولهاجعلني على خزائن الأرض ليوسف لتوسيع مفهوم الحاكمية، ولو رجع قطب ألف سنة إلى الخلف لبحث أمورا تهم ذلك العصر. وتعرض القاسمي لفكرة السياحة عند المرأة والرجل، كما أن رشيد رضا توسع في تفسيره المنار في بحث المشكلات الاجتماعية والسياسية. في ألمانيا لم أر الجوع وينام الإنسان آمنا في سربه عنده قوت أكثر من يومه لا يخشى الأجهزة الأمنية، في ضمانات شتى ضد المرض والشيخوخة والبطالة وحوادث العمل وحتى ضمانات ما بعد الموت لعائلته كي تعيش بكرامة ونعمة فلا تتكفف الناس. مع هذا كانت الوجوه في ألمانيا كالحة قاسية تشتد كآبتها مع ظهر يوم الأحد وتشرق الوجوه مع جرعة الخمر ظهر يوم الجمعة في استقبال عطلة نهاية الأسبوع. وإذا كان الرزق وفيرا في الغرب مع الأمن على النفس فإن العالم العربي يعيش خارج عالم الضمانات، كما رآه المفكر مالك بن نبي عندما توقف الإشعاع الحضاري في حدود امتداده الجغرافي، فمعظمه لا يتمتع بالضمانات لأي إنسان في أي زمان أو مكان في تدمير كامل ساحق للبنى النفسية والاجتماعية لمجتمع مازال يعيش في ليل التاريخ فلم يتنفس الصبح عنده بعد. إبراهام ماسلو من مدرسة علم النفس الإنساني رسم هرما جميلا للحاجيات الإنسانية يقوم على قاعدة عريضة من حاجات فيزيولوجية خمس من الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس، وتقوم فوقها أربعة طوابق تبدأ من الطابق الثاني بالأمن الاجتماعي ليأتي فوقها تقدير الذات والانتماء ويحلق على قمة الهرم أنف صغير من الحاجة لتحقيق الذات. تحقيق الحاجات الفيزيولوجية التي أشار إليها القرآن الكريم إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى تبقى دون مسكن فلا تهب الإنسان كل السعادة دون إضافة آمنهم من خوف بعد أن أطعمهم من جوع. مع هذه فآية سورة النحل أضاءت الموضوع بشكل متفرد عندما وضعت ثلاث صفات لأهل القرية الأمان والرزق والطمأنينة الكلمة الأخيرة مفتاحية حلت لي إشكالية فهم مفاتيح السعادة الثلاثة فإبراهيم عليه السلام وصل إلى طمأنينة القلب عندما رأى إحياء الموتى، وحواريو عيسى عليه السلام أطمأنت قلوبهم بتنزيل المائدة والمؤمنون تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب. لابد من الرزق ولكن دون أمن اجتماعي لن يهنأ لفرد بشراب أو يستسيغ طعاما أو يتمتع بزواج وعشرة؛ فالاستبداد يستل نور الحياة ويقتل كل بهجة. وفوق هذه القاعدة العريضة والمتينة من (أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) ينبت شعور جديد من تحقيق الذات فيشع بالطمأنينة الروحية تكسو الوجوه فتعلوها نضرة خاصة. هذا ما ينقص المجتمع الغربي الذي قطع شوطا واسعا من تحقيق الرفاهية والديموقراطية ونقل السلطة السلمي وأمن الناس على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم. أما في مجتمعاتنا فنحن خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا إلى إشعار آخر نعيش على أفكار ميتة وأخرى قاتلة نعيش كي لا نعيش.