«خياط» من #المسجد_الحرام: بين لهو الحياة ولغوِها ترتفع للمزاعم المبهرجة راياتٌ خادعة

إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة خياط

مكة المكرمة: قال إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور أسامة خياط في خطبة الجمعة بمكة المكرمة، إن في قولِ ربِّنا عزَّ اسمُه في وَصف هؤلاء المتَّقينَ بقوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) فوائدَ وأسراراً بيَّنَها أهلُ العِلْمِ بالتَّفسيرِ بياناً حسناً وافياً، وممَّنْ بيَّن ذلك فأحسنَ، العلَّامةُ عبدالرَّحمنِ السَّعْدِيُّ حيثُ قالَ: إنَّ الربَّ تبارك وتعالى أتى بـ”مِنْ” الدالَّة على التبعيض؛ لِيُنَبِّهَهُم أنَّه لَمْ يُرِدْ منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم غيرَ ضَارٍّ لهم، ولا مُثْقِلٍ عليهم، بل ينتفعونَ هُمْ بإنفاقِه، ويَنْتَفِعُ به إخوانُهم.

وفي هذه الآية الكريمة: إشارةٌ إلى أنَّ هذه الأموالَ التي بين أيديكم ليسَتْ حاصلةً بقوَّتِكُم ومِلْكِكُمْ، وإنَّمَا هي رِزْقُ اللهِ الذي خوَّلَكُم، وأنْعَمَ به عليكم، فكما أَنْعَمَ عليكُمْ وفضَّلَكُم على كثيرٍ مِنْ عباده، فاشكروه بإخراجِ بَعْضِ ما أنعم به عليكم، وواسُوا إخوانَكُم المُعْدِمينَ. وأنَّ الله تعالى كثيراً ما يَجْمَعُ بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ لأنَّ الصَّلاةَ مُتَضَمِّنَةٌ للإخلاص للمَعْبُود، والزَّكَاةُ والنَّفَقَةُ مُتَضَمِّنَةٌ للإحسانِ إلى عَبِيدِه. فعُنْوانُ سعادةِ العَبْدِ: إخلاصُه للمَعْبُودِ، وسَعْيُه في نَفْعِ الخَلْقِ.

وأضاف أنه بين لَهْو الحياة ولَغْوِها، وفي هَجِيرِ مَطامِحِها ومَطَامِعِها، ولَظَى الصِّرَاع على حيازة متاعها، والتمتُّع بزَهْرَتها، والاغترار بزُخْرُفها؛ تقوم للدَّعاوى العَريضةِ سوقٌ نافقةٌ، وتَرْتَفِعُ للمَزَاعِمِ الْمُبَهْرَجَةِ راياتٌ خادِعَةٌ كاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ.

ولما كان هذا الفريقُ من عباد الله موجوداً في كل زمان بدعاواه ومزاعمه، فقد تكلم ربنا سبحانه في محكم كتابه عن هذا بكلامه المرشد الهادي، والمبيِّن النَّاصح، والمحذِّر الناهي، الذي يُسفِر عن وجه الحقِّ في هذا الأمر، ويدلُّ على الصَّواب فيه فيَنْقَع الغُلَّة ويشفي العِلَّة، ويقطع المعاذير الملتوية، ويبطل المزاعم الكاذبة، ويهدي إلى سواء السبيل.

فدلَّ سُبحانه بما ذكر في هذا المقام على أنَّ الذين يَصِحُّ وصفهم بأنهم على نور من ربهم، وبرهان واستقامة، وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، وأنَّ الذين يصحُّ وصفهم بأنهم “المفلحون” أي: الذين أدركوا ما طلبوا، وسلموا مما منه هربوا.

إنما هم على الحقيقة: “المتقون” الذين: اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه، فأطاعوه بأدائها وهو بيانٌ لواقعهم، وأن هؤلاء المتقين قد خصَّهم ربُّهم عزَّ وجلَّ بصفاتٍ توضح حالهم، وترشد إلى جميل خصالهم، وتستنهض الهمم إلى اللحاق بهم، بانتهاج نهجهم، وسلوك سبيلهم.

وبين أنَّها لصفاتٌ مُضِيئةٌ، وعلاماتٌ جَلِيَّة، وأحوال رَضِيَّةٌ، يبلغ بها أصحابُها أشرفَ المنازل في حياتهم الدُّنيا وفي الآخرة، وتَصِل بهم إلى الغاية من رضوان الله ومحبته، ونزول الجنة دار كرامته. وأُولَى هذه الصفات التَّصديقُ بالغَيْبِ قَوْلاً واعْتِقَاداً وعَمَلاً: «فآمَنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وما فيه من بعث وحشر وحساب وثواب وعقاب وصراط وكرسي وعرش وجنة ونار، وآمَنُوا بالحياة بعد الموت، وكل ما غاب عن الحس مما أخبر به الله في كتابه وبيَّنه رسوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت به النقل عنه ».وثاني صفاتِهم أنَّهُم يقيمون الصَّلاة؛ بأدائها بحدودها وفرائضها الظاهرة منها من: تمام ركوعٍ، وسجودٍ، وقيامٍ للقادر عليه، وتلاوةٍ، وتسبيحٍ، وتحميدٍ، وصلاة على النبي، وغيرِ ذلك من أركانٍ وواجباتٍ وسننٍ وآدابٍ.

والباطنة من خشوعٍ فيها وإخباتٍ، وحضورِ قلبٍ، وتفهُّمِ معاني ما يُتلى فيها من آياتِ اللهِ، وامتثالٍ صادقٍ يَظْهَرُ فيما يأتي المرءُ وما يَذَرُ من أقوالٍ وأعمالٍ؛ ولذا؛ فإنَّ من لم تنهه صلاته عن الإثم، فهو ممن أخلَّ بها ولم يُقمها كما أمر الله. وثالث صفاتهم: أنهم كما قال الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله: «لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدِّين، زكاةً كان ذلك أو نفقةَ مَنْ لَزِمَتْه نفقتُه، من أَهْلٍ وعِيالٍ وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقتُه بالقرابة، والمِلك وغير ذلك بجميع معاني النَّفقاتِ المحمودِ عليها صاحبُها من طَيِّب ما رَزَقَهُم ربُّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ».

ومن صفاتهم أيضاً التصديق الجازم الذي لا يتطرَّق إليه شك بما جاء به النبي عن ربه عز وجل، وبما جاء به المرسلون من قبله، لا يُفرِّقون بين أحد منهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من عند ربهم. ومن صفاتهم: أنَّهم موقنون: «بما كان المشركون به جاحدين؛ من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة». وهو الإيمان باليوم الآخر الذي يورِثُ المؤمِنَ كمالَ مراقبةٍ للهِ تعالى، وعظيمَ خشيةٍ تبعَثُ على امتثالِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهي؛ طاعةً له سبحانه؛ رجاءَ الظَّفَرِ بجميل موعودِهِ لعباده الصَّالحينَ؛ وخشيةً من أليم عذابه للعاصين المكذبين بآيات الله عز وجل ورسله.

فهؤلاء المتقون: أصحابُ هذه الصفات الجليلة، والخصال الجميلة هم المستحقون بأن يوصفوا بأنهم «على هدى من ربهم» أي: «على نور منه وبرهان، واستقامة وسداد، بتسديد الله إياهم، وتوفيقه لهم». والمستحقون أيضاً بأن يوصفوا بأنهم «المفلحون» وهم: «المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذِكْرُه، بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب».