الوصول إلى الاحترافية

أخطر ما يواجه الذكاء الذي يتميز به الكثير من أفراد المجتمعات في دول العالم الثالث أنه ساهم في تحول الاحترافية إلى نماذج اجتهادية تكون وليدة اللحظات الانفعالية والعواطف الجياشة والمواقف السلوكية..

ما هي الاحترافية وكيف يمكن الوصول اليها بالنظر الى واقع مجتمعاتنا؟، سؤال راودني كثيرا حول هذا المصطلح الذي يشبه السحر في تأثيره اذا ما وجد في محيط الحياة، في كل انشطتها فهذا المصطلح يطلق عليه الغرب ( professionalism)، والدول المتقدمة في العالم كلها تتبني الاحترافية بكل ابعادها وهذا المصطلح ليس مقصورا على عالم الاعمال والمشروعات والبرامج والقطاعات المستقلة.

الاحترافية لها الكثير من التعاريف العلمية التي تملأ الكتب والدراسات فهي ليست الخبرة او المهارة او القيادة او المسؤولية أو انجاز المهام، لأن كل تلك الصفات شخصية بينما يدل مصطلح الاحترافية على صفات مجتمعية، فمهما كان الانسان يتميز بالذكاء والخبرة والمهارة فهذا لا يعني انه يتميز بالاحترافية، ما لم يعتنق مبادئ الاحترافية التي تدل على المهنية في اداء العمل حيث ينطلق مصطلح الاحترافية من معنى اجتماعي بطبعه وهذا ما يفسر لنا اهمية مبادئ الاحترافية.

السؤال الذي يدور حولي ويجب أن تواجه به مجتمعاتنا لماذا يجب أن نتعلم الاحترافية في حياتنا، ولماذا يغيب هذا المصطلح عن انشطتنا، وماهي الدلائل على عدم وجود الاحترافية في اعمالنا..؟، ومع ان هذا السؤال كبير جدا، الا انني اجد أن ابسط المعاني للاحترافية ان توجد في مجتمعات لديها القدرة على أن تدرك ان الإنجاز الحقيقي لأي مهمة مهما كانت يعتمد على ثلاث دوائر مهمة (قبل وأثناء وبعد)، نحن في انجازاتنا نجيد التعامل مع دائرة (قبل) ثم نتوقف وهذا ما يجعل الكثير من منتجاتنا وبغض النظر عن نوعها تأتي الى الوجود ناقصة.

الاحترافية هي اكبر عنوان يمكن مشاهدته في العالم المتقدم ذلك العالم الذي ادرك ببساطة أن الحياة ليست مجرد افكار وآراء يتم انجازها في ذات اللحظة وبعدها يتم نسيانها، لهذا السبب لم تنجح اليابان أو ألمانيا او أميركا او سنغافورة الا عندما اصبحت الاحترافية هي الميزة التي تجتمع عليها تلك المجتمعات، في العالم اليوم اصبحت الاحترافية هي المسار الوحيد المؤدي الى النجاح أما الاجتهادية فليس لها وجود في عالم النجاح، ولعل أهم ما يميز الاحترافية كونها تنتج عملا بجودة عالية تسهم في الانضباط والعقلانية والسبب هو أن اشتراط الاحترافية الوحيد لكي تولد في المجتمعات هو ان تكون البداية مساوية للنهاية بالقوة والاستمرار والجودة في أي مجال في هذه الحياة ينتجه الانسان.

في مجتمعات دول العالم الثالث يستطيع الفرد أن يدرك تباعدا هائلا بين الافكار وتطبيقاتها لأنه في كثير من دول العالم الثالث تنتشر ظواهر كلها ترتبط بمصطلح هدر القدرات والعقول والإمكانات والطاقات، فكثير ممن يزورون مجتمعات العالم الثالث يشعرون بتلك الهوة الهائلة بين ما يستمعون إليه من مسارات وبين ما يوجد على ارض الواقع.

مستويات الذكاء في العالم الثالث لا تختلف عنها في كثير من الدول ولكن الذي يحدث ان هذه العقول تتعرض لعملية هدر كبيرة اثناء مسيرتها في الحياة ولعل اهم ما يميز دول العالم الثالث انها تمارس هذا الهدر في مؤسسات التعليم التي تنتج عقولا مبهمة يصعب تعريفها في اغلب الاحيان، عقول تبحث عن مسار وظيفي اكثر من كونها تنتج ابداعا للتطوير والتغيير في تلك المجتمعات.

أخطر ما يواجه الذكاء الذي يتميز به الكثير من أفراد المجتمعات في دول العالم الثالث أنه ساهم في تحول الاحترافية الى نماذج اجتهادية تكون وليدة اللحظات الانفعالية والعواطف الجياشة والمواقف السلوكية، لذلك فإن جلب الاحترافية الى مجتمعاتنا يتطلب اعادة النظر في مؤسساتنا التربوية حيث ضرورة التوقف عن هدر العقول في التعليم واستثمارها بما يجعلها تحترف الحياة ولا تعيشها لمجرد الوجود فيها.


بقلم: د. علي الخشيبان - الرياض