سرك في بير!

في الثمانينيات من القرن الماضي ظهرت سلسلة من الإعلانات التجارية على شاشة إحدى محطات التلفزيون الغربية للترويج لإحدى ماركات بيكربونات الصوديوم التي كانت متوفرة في السوق منذ الخمسينيات من القرن نفسه. كانت تلك الإعلانات، وعلى خلاف شبيهاتها، تعتمد على الرجل كشخصية أساسية، بينما ظلت المرأة في حالة ظهورها مجرد جزء من الخلفية. كان الهدف من تلك الإعلانات توضيح الاستعمالات المتعددة لبيكربونات الصوديوم في المنزل والتي يجهلها معظم الناس. ولعل استخدام تلك الشركة للرجل في إعلاناتها تلك كان متعمدا لتحاشي احتجاج جمعيات تحرير المرأة والتي لا يعجبها ربط المرأة بأي شيء منزلي، بحجة أن ذلك لا ينطبق على صورة المرأة العصرية والعاملة وحقيقتها!! وعلى الرغم من أن تلك الإعلانات كانت جذابة فنيا وذات فائدة، إلا أن متابعيها لابد أنهم أدركوا عدم واقعية فكرتها، فالرجل حتى وإن أتقن أعمال المطبخ والمنزل (وهذه حالة نادرة حتى في أوروبا وأمريكا)، فإنه لا يستطيع معرفة خبايا المواد المختلفة والمخزنة على رفوف المطبخ وأسرارها. المرأة وبالرغم من خروجها إلى العمل ظلت هي المالكة الوحيدة لتلك الأسرار التي حاولت شركة البيكربونات إهداءها إلى الرجال. فمعظم الرجال باستثناء الطهاة المحترفين لا يعرفون مثلا أن بيكربونات الصوديوم مادة تخمير تدخل في صناعة أنواع من الجاتوه والخبز وأكلات أخرى. والرجال أيضا (ومن ضمنهم الطهاة المحترفون) لا يعرفون أن بيكربونات الصوديوم تستخدم لتعقيم الخضار أوإخماد حريق بسيط أو تنظيف الفضة والأحذية والأسنان (لن أبوح بطريقة الاستخدام المخصصة لكل منها). والرجال على اختلاف ثقافاتهم وجنسياتهم لا يدركون أن بيكربونات الصوديوم تخلص الثلاجات والفريزرات من الروائح التي تخلفها الأطعمة المحفوظة فيها. بل إنهم لا يلاحظون أصلا مثل هذه الروائح حتى يفكروا في طريقة للتخلص منها. والرجال لا يمكن أن يلجأوا إلى بيكربونات الصوديوم أو المياه الغازية مثلا لتسليك البلاعات المسدودة، وهي حيلة تلجأ إليها ربات البيوت في حالات الطوارئ على الرغم من أن أمور السباكة عادة ما تناط بالرجال. أسرار المطبخ وخفايا مواده لا تنحصر في استعمالات بيكربونات الصوديوم فقط، فهناك عدة استعمالات للملح والسكر والخل والبطاطس وقشر الموز والخبز والليمون والقهوة والتي وإن لم تدخل في إعداد المأكولات لكنها تستخدم لحل معضلة أو أخرى في المنزل. أما كابينة الحمام ففيها من مواد يظنها الرجال عادة مخصصة فقط لتنظيف الأسنان أو حلاقة الذقن أو تثبيت الشعر، بينما تستفيد المرأة منها في حل مشاكل البقع والتنظيف والتي توارثتها من والدتها أو اكتشفتها بالخبرة أو سربتها لها الصديقات. ولا ننسى دور المجلات النسائية التي تحرص على قراءتها المرأة والتي إذا تصفحها الرجل صدفة فليس بهدف الاستفادة من تلك المعلومات. هذا طبعا لا يقلل من أهمية الرجل وقدراته الخارقة في مجالات الحياة المختلفة، لكن المرأة كمسؤولة أولى عن إدارة المنزل هي من يحرص على تجميع مثل تلك الأسرار والاستفادة منها. ولهذا السبب فإنه ما كان ليضير شركة البيكربونات تلك لو أنها أعطت الحق لأصحابه بشكل لا ابتذال فيه ولم تجعل الرجل يبدو في المطبخ كالفارس الذي يمتطي حصانا لا يملكه. ذات مرة ذهبت وصديقتي لحضور دروس طهي كان يقدمها طاه معروف بعمله في فنادق خمس نجوم حول العالم، وبعد الدرس سألت إحدى الحاضرات الطاهي عن أسهل طريقة لتقشير البصل الصغير الذي لا يزيد حجم الواحدة منه على حبة البندق، ضحك الطاهي خجلا واعترف بأنه لا يعرف، لأن مساعديه هم من يجهزون له المقادير قبل الدرس وقبل الطهي. مالت لحظتها صديقتي نحوي وهمست: لكنني أعرف الوسيلة المثلى لهذه المعضلة. ولما خرجنا من القاعة سألتها: أحقا تعرفين طريقة سهلة لتقشير ذلك البصل الصغير؟ قالت صديقتي بثقة: طبعا أعرف، استخدمي البصل العادي كبير الحجم بدلا من الصغير، ستوفرين الكثير من الوقت ولن يتغير طعم الطبق.