خالد القشطيني.. فشلت في الحب والتجارة

- المحطة الأولى كانت، وكما نتوقع، فشلا في الحب. أحببتها وأنا تلميذ في كلية الحقوق في بغداد، ولكنها لم تحبني، بل ولم تعبأ بي، لقد كانت جميلة جدا، وكانت ذكية بدليل أنها عرفت هذا الكنز المكتنز في جسمها، فلم تشأ أن تضيعه على واحد فنان ضايع صايع، أحببتها ولم تحبني. مأساة؟ كلا. فما من شيء أشكر الله عليه أكثر من هذا الفشل. فلو أنها أحبتني لخطبتها من أهلها، ولو أنني خطبتها لأعطوها لي ولو أعطوها لي، لتزوجتها وخلفت منها شلة من العيال وبقيت في العراق، وعشت في ظل صدام حسين وشهدت أولادي يبعث بهم صدام حسين لمحاربة إيران والكويت والأكراد وكل من ليس لي أي شيء ضده، أشكر الله على ذلك الفشل الذي أوحى لي بالخروج من العراق. أشكر الله على ذلك الفشل، فبعد سنوات عدة تزوجت تلك الفتاة بضابط كبير في الجيش، قضى معها بضع سنوات ثم حصلت له جلطة ومات. أشكر الله وأحمد على ذلك الفشل فلو أحبتني وتزوجتها لكنت أنا ذلك الرجل الذي مات، أنا الأن مدين لها بحياتي. - المحطة الثانية للفشل كانت أيضا مرتبطة بالحب، ولكنه لم يكن فشلا على الدرجة نفسها من النجاح، فهذه الفتاة الألمانية التي أحببتها في لندن فاجأتني بأن أحبتني، فتزوجتها تحت وقع المفاجئة، ولهذا أقول لم يكن هذا الفشل على الدرجة نفسها من النجاح، عشت معها ردحا من الزمن، ثم أحبت رجلا آخر فرحلت عني، أتذكر أنني تذكرت عندئذ كلمات بيرم التونسي رحمه الله فرددتها: مية هم يرحل ألف هم يدوم. دخلت البيت مع صديقي الإذاعي فؤاد الجميعي فوجدت أنها قد لملمت ثيابها ومتاعها وتركت البيت، أنطلقت أرقص من غرفة إلى غرفة وأنا أردد لصديقي:أنا حر يا فؤاد..حر! تفهم أنا حر؟! خلاص! ابتدي من جديد لا شيء يعلم الإنسان أكثر من الزواج الفاشل، ولكن يؤسفني أن أقول أنني فشلت أيضا في تعلم هذا الدرس، فقد تزوجت مرة ثانية! - المحطة الثالثة من الفشل أخذت شكل خسارة مالية، وهي طبعا أبشع من خسائر الحب، فالنساء موفورات والحمد لله، حتى الشحاذ على الرصيف يستطيع أن يجد لنفسه شحاذة يتزوجها، ولكن من أين تأتي بالفلوس إذا هلكت؟ وفي هذا الفشل درس بليغ للمتعاطين بالأدب والفكر والفنون، فلا يجمع الله بين العقل والمال، ولكننى تجاهلت هذه النصيحة كما يفعل الكثيرون من أمثالي، ويطمحون عبثا إلى العز والثروة، نصحني صديق تاجر بأن أوظف توفيراتي في أسهم شركة معينة، نفذت نصيحته فاشتركت معه في الصفقة. لم تمض بضعة أشهر حتى أعلنت الشركة إفلاسها وضاعت كل توفيراتي. امتعضت من صديقي على سوء فعله، ودخلت في مناقشة حادة معه انتهت بالزعل، فتكللت خسارتي المالية بخسارة صديق قديم وعزيز علي، ولكنني بعد بضعة أشهر قلت لنفسي حرام علي أن أفقد صديقا قديما من أجل ما يسمونه و سخ الدنيا فتصالحت معه، وعدنا الآن إلى ما كنا عليه، وهذا فشل آخر، احتفظ بصداقة رجل لم أنل منه غير الخسارة وسوء المنقلب. - المحطة الرابعة للفشل تربط بين الحب والمال، فقد كنت في مقتبل مشواري الأدبي من المؤمنين بالتفرغ لرسالتي، ولكن كيف أوفق إلى ذلك ولم يترك لي والدي رحمه الله ما يقيم أودي؟ والعيشة تتطلب فلوسا والفلوس عند العروس، رأيت أن أبحث لنفسي عن عروس عندها فلوس تكفيني عن مشقات الجري وراء لقمة العيش فأكرس وقتي للدرس والبحث والإنتاج، كانت هناك من تنتظرني وعندها فلوس، ولكنني كأي مفكر عربي لا أحسن استعمال الفكر، فتجاوزت الفرصة وأعطيت الأولوية للحب وتزوجت بمن لا تملك من دنياها قشة، وبدلا من أجد من تمكنني من تكريس وقتي للفكر، تزوجت بمن تمكنت من تكريس وقتي لخدمتها، وتركتني إلى الآن أبحث عبثا عن عروس عندها فلوس، وكانت هذه أكبر محطة للفشل في حياتي لولا وجود ست محطات أخرى أعظم فشلا منها. - المحطة الخامسة: رغم كل ما فعلته وكتبته ونشرته، ظل الحب شاغلي في الحياة، ولكن في هذه المحطة الخامسة هو حب من نوع آخر، حبي لبلدي العراق وأهل العراق، وفشلت في هذا الحب، العراقيون لا يحبونني، وأنا أجد من العسير علي أن أفهمهم رغم كل تشربي بتراث العراق كبغدادي أصيل، ورغم أن كل ما أنتجته من الأدب دار حول العراق وأهله، فإنني في الحقيقة لا أجد بيني وبين العراقيين لغة مشتركة. وهذه ظاهرة غريبة عندهم، إنهم قلما أحبوا أو قدروا أبناءهم حق قدرهم، الحقيقة أنني مدين بنجاحي الأدبي بصورة أساسية للسعوديين، وعلى الأخص أخي عثمان العمير الذي أعطاني هذه المساحة والفرصة، وهذا شأن العراق، ناظم الغزالي اكتشفه الكويتيون، وكاظم الساهر لمع في مصر، والمتنبي أبدع في سوريا ومصر ثم مر على العراق فقتلوه، وكان ابن الجوزي أول من اكتشف هذه الظاهرة فقال فيها: وعذيري من فتية في العراق قلوبهم بالجفى قلب ميازيبهم إن تندت بخير فإلى جيرانهم تقلب يعجبهم قول الغريب قول القريب فلا يعجب وعذرهم إذا وبختهم مغنية الحي لا تطرب - المحطة السادسة للفشل ترتبط أيضا بما ورد سالفا من الأسباب الثانوية لعدم تجاوب العراقيين معي زواجي مرتين بأجنبيات، يقولون ألا تعجبه واحدة من كل بنات العراق؟ لله درهم! لقد قضيت كل حياتي في الجري وراءهن دون أن ألقى غير الفشل بعد الفشل، كانت آخرها وقوعي في حب زميلة عراقية في لندن، اعتبرتها نقطة تحولي نحو العراق وعودتي إليه، أمضيت سنة كاملة عامرة بالحب والألفة والتطلع إلى المستقبل المشترك معها في العراق، أنهت دراستها ورجعت إلى بغداد لتمهد لنا الطريق، بعد أسابيع وصلني خبرها، تزوجت بخطيب كان ينتظر عودتها لعام كامل، كانت تستعملني كلعبة صغيرة تلهو بها في لندن، كان وقع الصدمة رهيبا علي، قلت لنفسي بكل صراحة: الله يخلف على الأوربيات! - المحطة السابعة من الفشل هي فشل المسيرة العربية عموما، هذا فشل عام، ولكن كانت له زاويته الشخصية بالنسبة لي، فبعد الصدمات العاطفية والنفسية التي واجهتها في لندن، وما لمسته عند الغريبين من كره واحتقار لنا رحت أكرس كل وقتي للقضايا العربية وبصورة خاصة قضية فلسطين، قضيت سنين أبحث فيها وأكتب عنها وأنشر الكتب فيها، كتابي تكوين الصهيونية اعتبره الكثيرون من أحسن ما كتب عن الحركة الصهيونية، كان قلبي يزخر بالأمل، ولكن النكسات توالت من كل جانب، أفظع ما فيها أنها كشفت لنا عن رخص معدننا وتفاهة زعامتنا وانتهازية مثقفينا وتخلف شعوبنا، هنا أيضا وجدت نفسي دون لغة مشتركة بيني وبين أبناء قومي، أنا أميل إلى الواقعية والعلوم وما يهمني هو البشر ومصير التعساء منهم، الآخرون تجتاحهم العواطف والمشاعر وما يعنيهم هو الأرض والوطن وأمجاد الأمة، شعرت مثل كساندرا، أرى ما سيحل بنا من نكسات، وكنت مثلها لا أجد من يسمعني أو يصدقني، فشلت التواصل مع أبناء أمتي بعد سنين من العمل من أجل القضية الفلسطينية، تلقيت قبل أشهر تهديدا من رجالاتها بأن يكون مصيري مثل ناجي العلي إذا ما واصلت الكتابة وترديد ما أقول، هل من فشل أكبر من ذلك؟ ولكنه لم يكن التهديد الوحيد بالقتل، تلقيت تهديدين آخرين من جهات وميادين مختلفة. - المحطة الثامنة للفشل انبثقت أيضا من فشل عام العدالة، والمساواة شيء فطرني الله عليه، ربما ورثتها من أسرتي القشطينية التي جعلت القضاء مهنتها الأساسية، مشاهد الفقر والشقاء والظلم في العراق حفزتني إلى الاشتراكية، ذلك الحلم الذي داعب البشرية من أقدم العصور، أي حلم اجتماعي أروع من فكرة من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته. درست الاشتراكية وكتبت عنها وناضلت وعرضت نفسي للموت والسجن من أجلها، لأول مرة في التاريخ لاحت إمكانات تطبيقها وباءت بالفشل الاشتراكيون مثاليون اعتقدوا أن مجرد نقل الثروات من الأفراد للدولة سيحل كل شيء، سيتفانى كل العاملين في الإنتاج والإبداع والنزاهة، نسوا الجانب الأناني من الإنسان، إنه لا يبدع وينتج دون حافز شخصي، تدهور الإنتاج الأشتراكي وخسرت المؤسسات المؤممة، اتضح الفشل للجميع وكان وقع الفشل مريرا علي. - المحطة التاسعة تتعلق بالمهنة، قضيت عشر سنوات من حياتي أدرس فن الرسم في بغداد ولندن دون أن أنظر إلى هذا الفن بصورة جدية، لم أواصل المهنة وقلما يعرف أحد الآن أنني في الواقع رسام، ولو رسام فاشل، تخرجت في كلية الحقوق لعدم وجود كلية أخرى تفي بغرضي، مارست مهنة المحاماة لبضعة أشهر لم أكسب خلالها غير عشرة دنانير ثم نفضت يدي من القانون والقضاء، فشل أخر، دخلت كلية لندن للاقتصاد، ثم انقطعت عنها بعد أن وجدتهم يكلفونني بدراسة أمور لا تعنيني، درست المسرح وألفت له وكتبت عنه ولكنني في لندن وجدت نفسي مثل من يحاول بيع الماء في حارة السقايين، اشتغلت بالترجمة ولكن الترجمة التجارية فقط. نشرت عدة كتب عن فلسطين أكثرها بالإنجليزية لم يسمع بها أحد، ولم أعد أؤمن بما كتبت فيها، نشرت روايات ومسرحيات وقصصا قصيرة منعت دخولها معظم الدول العربية، ما جاء منها بالعربية لم يقرأ في الغرب وما جاء بالإنجليزية لم يقرأه العرب. نجاح الكاتب أو الفنان يتوقف غالبا على علاقاته العامة: أنا لي علاقات عامة واسعة، ولكنها من النوع الذي يجلب لي سخط الناس وعداءهم، كيف أكسب أي شعبية إذا كنت أقول إن الاستعمار ارحم بشعوبنا منا، وإن حركة التحرير الوطني هي حركة شلة من اللصوص، صراحتي جزء من هذا الفشل، الجزء الآخر هو تعدد مواهبي واهتمامي حرمني ذلك من التركيز على ميدان واحد، فتوزعت جهودي وضاعت في الرمال لقد فشلت في توظيف مواهبي. بقيت محطة واحدة من محطات الفشل وهي: - المحطة العاشرة هي فشلي في كتابة هذه المقالة، لقد طلب مني رئيس التحرير أن جعلها مقالة ظريفة خفيفة من النوع الذي ألفه القراء مني فإذا بي لا أعطيه غير الهم والغم وفشلت، وليس للفاشل غير ان يعتذر، وأرجو ألا أفشل في هذا أيضا.