الهجرة النبوية .. وقفات وتأملات

في بداية العام الهجري الجديد يحسن بنا أن نقف وقفات سريعة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك السيرة العطرة التي لا يمل الإنسان من قراءتها والاطلاع عليها ، ولعل من المناسب الوقوف قليلا مع هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، لعلنا نأخذ بعض العبر والدروس من هذه الهجرة المباركة التي لا يعي كثير من الناس ما فيها من عبر وعظات. إن الهجرة النبوية في حد ذاتها بغض النظر عن أحداثها تستحق الوقفة المتأنية، فهي ليست نزهة برية ولا و سياحة للتفرج والاطلاع، وليست سفرا لتحصيل متع الدنيا وملذاتها، وإنما هي انتقال من أجل الحفاظ على العقيدة وتضحية بالنفس والمال والأهل والولد من أجل العقيدة، فهي تبدأ من أجل العقيدة وغايتها العقيدة. الهجرة النبوية ليست أحداثا تروى، بل هي منهج متكامل لمن أحسن الاستفادة منها وأخذ العبر والعظات على أحسن وجه وأجمله، فهي منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مؤيد فيه من قبل المولى جل وعلا، وهي ليست حدثا عاديا، بل أمر جليل يستحق الاهتمام، ولا نستطيع هنا الوقوف على كل ما في الهجرة النبوية من عبر وعظات، وإنما نقف عند البعض ونترك البعض الآخر ليستخرجه القارئ. دعوة مستمرة وصبر عظيم النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم ظل في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله جل وعلا ليل نهار متعرضا في ذلك إلى الأذى الشديد والاضطهاد المستمر من كفار قريش الذين لا يريدون للخير أن ينتشر، ولكنه لم ييئس مع كل هذا العنت وقلة من آمن معه خلال هذه المدة، وحاول أن يتجه إلى بيئة أخرى لعله يستطيع من خلالها نشر دين ا لله جل وعلا، فاتجه إلى الطائف، ولكنه فوجئ بالسفهاء يردونه ردا منكرا، ولم يكتفوا بذلك، بل رجموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه، ويأتيه جبريل عليه السلام ليقول له إن معه ملك الجبال، وإن الله أمره أن يمتثل لأمره، فإذا أراد أن يطبق عليهم الجبلين ليهلكهم فعل. فقال عليه الصلاة والسلام لا بل أرفق بهم لعله الله يخرج من أصلابهم من يعبده أو نحو ذلك. وهذه هي الوقفة الأولى وهي: ماذا قدمنا نحن من أجل هذا الدين، وكم تحملنا من الأذى في سبيل نشره بين الناس، وهل صبرنا كما صبر عليه الصلاة والسلام، أم أننا استسلمنا من أول الأمر، وبمجرد أن نواجه أذى أو معارضة قمنا بالتوقف عن الدعوة إليه سبحانه، فهل هذه هي القدوة بالنبي المصطفى الأمين! الشباب وتحمل المسؤولية لما أذن الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة أمر عليا رضي الله عنه أن ينام في فراشه ليوهم المشركين بأنه هو، وامتثل علي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنام في الفراش حتى أصبح، وواجه على صغر سنه كفار قريش بأسلحتهم وعتوهم وجبروتهم، واستطاع الرد عليهم حين سألوه دون خوف أو وجل. والسؤال الآن: كم ربينا من أبنائنا وشباب هذه الأمة على هذه التضحية الجسيمة، بل على مجرد تحمل المسؤولية! كم من الشباب الآن يستطيع أن يسير في خضم هذه الحياة معتمدا على ربه واثقا في نفسه، أم لا بد من الاتكالية تارة على الأهل وتارة على الآخرين، حتى أصبح ما كان يفعله الصبيان في القديم لا يستطيع كثير من الشباب أن يفعله الآن. التوكل على الله من أعظم أسباب النصر، في غار ثور تظهر قوة الإيمان بجلاء والثقة في الله بكل معانيها، وذلك عندما يقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيقول له عليه الصلاة والسلام يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وعندما يلحق بهما سراقة بن مالك وأبو بكر يكثر الالتفات بينما عليه الصلاة والسلام لا يلتفت، ثم يدعو عليه فتسيخ قوائم فرسه في الأرض، إنه التفويض الكامل وتسليم الأمر لله رب العالمين ، هذا مع عدم إهمال الأسباب فيما يستطيعه الإنسان، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطط فأحسن التخطيط، وبذل جهده في إخفاء نفسه ومن معه عن كفار قريش ومطارداتهم، وأعد العدة لهذا السفر الطويل، من راجلة وزاد، ثم ترك بعد ذلك أمره إلى الله وأوكل نفسه إليه، ولذا كان النصر من الله حليفه، وهذا يذكرنا بقيمة قوله صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا المسجد والدور الحقيقي ويواصل النبي صلى الله عليه وسلم سيره حتى يصل إلى المدينة، فيبدأ ببناء المسجد وعمارته لعلمه أن المسجد لم يوجد في الإسلام لأداء الصلاة فقط، وإنما هو مدرسة المجتمع الحقيقة وهو نقطة الانطلاق لتبليغ دين الله، وهو مركز الدولة الإسلامية السائرة على نهج الله، فأين أغنياء المسلمين عن هذه الحقيقة، وأين العلماء والمسؤولون عن هذا الأمر المهم في حياة المجتمعات، لماذا أصبحت المساجد مهملة، وإذا اعتني بها فمن أجل الصلوات فقط، ولا دور لها بعد ذلك في حياة المسلمين. تلك وقفات سريعة ينبغي التريث عندها والنظر فيها بعين البصيرة ، ومحاولة تطبيقها على واقعنا لنحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه من حالنا وحال أمتنا.