الفصل العشرون من كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء

تأليف الدكتور خالص جلبي لقراءة الفصول السابقة انظر أسفل الصفحة. ??البيكادون: الالتماع النووي?? (حريق هيروشيما النووي ساعة بساعة) بصوت رفيع متهدج وبلغة أدبية منمقة تحدث الإمبراطور ( هيروهيتو ) إلى شعبه صبيحة يوم الخامس عشر من شهر أغسطس آب عام 1945. كانت الكلمات قليلة، ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: (إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث، يمتلك من قوة التدمير ما لا عهد للإنسان به، ومالا طاقة لنا به) وتابع الإمبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان: (وإنني أخشى يا شعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد ) ؟! كان الإمبراطور الياباني قد أدرك العهد الجديد الذي دخلته الإنسانية، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري، فهذه القنبلة غيرت العالم، والتاريخ ومصير الجنس البشري، والفكر الإنساني، في ضربة واحدة وفجرت معها عصرا جديدا؛ فدخل العالم حقبة جديدة، وتكون خلق أخر، ونشأة مستأنفة. وختم الإمبراطور كلمته: (علي أن أقول لكم إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل ما لا طاقة لنا به ؟!) القاذفة (اينولا جاي ENOLA GAY) والضابط (باول تيبتس PAUL.W.TIBBETS.) : كانت الساعة( 2.52 ) صباحا عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع ( B ـ 29 تتحرك من جزيرة (تينيان) في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق ولاتدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات. يقود السرب الضابط (باول تيبتس) PAUL. W. TIBBETS وخبير الأسلحة ( ويليام بارسونز) WILIAM PARSONS. كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس: علينا أن نبدأ الآن. كان الظلام يحيط بالطائرة التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس (اينولا جاي) ENOLA GAY. كان على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه أسطوانة الغاز الكبيرة ذات (أنف مبعوج) ولايزيد قطرها عن 60 سم، ويبلغ محتواها الأساسي حوالي ستين كغ من مادة اليورانيم 235 المكثف، إلا أنها بالغلاف الفولاذي المحيط بها ارتفع وزنها إلى أربعة أطنان. وبجانب الطائرة اينولا جاي حلقت طائرتان حربيتان أخريان، الأولى تحمل مخبرا كاملا لدراسة استخدام (السلاح الجديد) والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها. في الساعة 3.10 عمد (بارسونز) إلى إغلاق زناد القنبلة بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة في هذه المهمة التي أخذت لقب (بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13) وهتف: كل شيء على مايرام!! عند الساعة (4.55) حلق التشكيل الثلاثي بشكل حرف ثمانية باللغة العربية؛ حيث تحتل القاذفة النووية (اينولا جاي) رأس التشكيلة، وسأل المساعد بوب كارون BOB CARON هل سنشطر الذرة اليوم؟ علق تيبتس: لقد بدأت تفهم الأمور! كانت مدينة هيروشيما قد برمجت للمسح من ملف الوجود، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى للرحيل إلى العالم الأخروي، وهذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى الإعدادات الجنائزية عند الساعة 6.30 بدأت الإعدادات الجنائزية لسكان العالم السفلي في مدينة هيروشيما، فاستل ( بارسونز ) ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة، ليضع بدلا عنها حمراء اللون، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقا، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد. عندها صرخ الضابط ( باول تيبتس ) للمرة الأولى بكل علانية ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية: إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا!! عند الساعة 7.25 صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم الى 9500 ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد ( كلود ايثرليس CLAUDE EATHERLS ) الذي بثهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات أو وجود طائرات معادية في الجو، صاح فيهم : ياشباب كل شيء على مايرام... دمروا الهدف الأول على القائمة!! وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام لـ 140000 من البشر الذين تحت طير أبابيل الذرية يفتتحون يوما جديدا في الحياة، وليس عندهم أقل تصور، لقصر المسافة بينهم وبين هوة الموت، التي فتحت فمها العريض لاستقبال جحافل الموتى بأبشع طريقة وسلاح. إنها هيروشيما !! صاح تيبتس: إنها هيروشيما !! ثم نظر الى بارسونز بعد أن هبطت القاذفة مخترقة فتحة من السحب وسأله: هل هي هدفنا بالضبط؟ أجاب بارسونز بهز رأسه فهو يعرف المدينة ذات الأذرع الثمانية المستلقية بارتخاء تحتضن البحر، وصاح تيبتس بطاقم الطائرة : أعدوا نظارات (لحام الاكسجين) للحماية ؛ فالوهج الذي سينطلق سيعمي العيون كما أفادنا علماء لوس آلاموس !! عند الساعة 8.13 هتف تيبتس بمساعده ( توم فيريبي TOM FEREBEE ) لقد جاء دورك الآن !! فتولى الآخر قيادة الطائرة، التي كانت السرعة فيها تشير الى الرقم 460 كم في الساعة. كانت المدينة معروفة تماما لتوم فيريبي، فهو يعرف نهر (الاوتا OTA) الذي يتشعب منه سبعة فروع، كأنها راحة اليد المفتوحة، كما يعرف جسر ايواي AIOI المشهور، ذو شكل حرف T باللغة الإنكليزية. في هذه اللحظة اقتربت القاذفة تماما من نقطة الهدف، وعند الثانية 17 بعد الدقيقة 15 من الساعة الثامنة باضت القاذفة البيضة الكبيرة ذات الأطنان الأربعة بين رجليها. مالت القنبلة أولا إلى الجانب ثم استقرت وأنفها المسطح نحو الأسفل وقد زودت بمظلتين. وعندما تحررت القاذفة من هذا الثقل عمدت إلى الأعلى بكل قوة، فالأوامر كانت تقول : ولايلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. وبدأ العد التنازلي للثواني 43 القادمة ؛ فالمفروض أن يحصل الانفجار على ارتفاع خمسين مترا وفي تمام الساعة 8.16 من صباح ذلك اليوم النحس، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر. عند الرقم 43 أطل الفطر النووي برأسه عندما وصل العد إلى 35 ثانية وضع الطيار نظارة الوقاية (التي تستخدم في لحم الأكسجين) ولكنه لم ير شيئا فرماها جانبا، وصاح هل ترون شيئا ؟ أجاب أحدهم لاشيء على الإطلاق !! كان خوف الأمريكيين كبيرا أن تفشل التجربة خاصة وأن هذه القنبلة لم تجرب في منطقة آلامو جوردو (1) لثقتهم العالية أنها لن تخيب!! كان اللويتنانت (ملازم ثاني) نوريس جبسون يعد بفارغ الصبر، وعندما وصل الرقم الى 43 توقف وللحظة ظن أن التجربة فشلت، ولكن في هذه اللحظة أشرقت الأرض بنور وهاج يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ؛ فالتمعت كل الطائرة، وأبصر ( بوب كارون ) الذي كان في المؤخرة بزوغ حلقة مرعبة من الضوء، صعدت كالعملاق إلى الأعلى وكأنه الضوء القادم من كوكب آخر، وانطلقت قوة عاتية قذفت بالطائرة الى الأعلى، مما أطلق صفارات الإنذار داخلها، وسمع تيبتس مايشبه طلقة المدفع من عيار 88 ملمتر، بعدها بقليل رجت الطائرة قوة أخرى، فصاح تيبتس : إنها قوة الضغط المعاكسة حافظوا على النظام. وعندما كانت مدينة هيروشيما تمسح من الوجود كان (بوب كارون) يسجل: (ارتفع عمود فظيع من الدخان إلى الأعلى وبسرعة، في وسط العمود نار حمراء. كانت الحرائق تلتهم كل شيء... كانت كثيرة للغاية... أكثر من يحصيها العدد... والآن جاءت.. جاءت... لقد تشكل مايشبه رأس الفطر الذي نراه في الحقول... انظروا... انظروا إلى هذا المنظر العجيب... ) مصطلح الفطر يستخدم للمرة الأولى في تاريخ العلم صعق تيبتس من هول مارأى وقال : لم أكن أتوقع تدميرا كهذا تراه عيني... ثم أرسل تلكس الى القاعدة الجوية في تينيان ( TINIAN ): تحقق التدمير والنتائج ممتازة !! صاح بارسونز: ماذا أرسلت؟ إن هذا لايكفي!! وعمد الى إرسال تلكس آخر: كانت النتائج ناجحة وذات أثر أكبر مما حصل في تجربة آلامو جوردو (2) الا أن الرعب تملك بقية طاقة الطائرة وارتسمت علامات الخوف على وجه لويس مساعد القيادة وأخذ يخاطب نفسه: رباه ماذا جنت يدانا.. ماذا فعلنا.. ماذا فعلنا..!! وأنه أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا كان الطيارون الأمريكيون يفركون أيديهم من قوة الإنجاز وحسمه، ووجه ليزلي جروفز LESLIE GROVES يطفح بالبشر والسرور، الجنرال المشرف على المشروع العسكري ابن القس البروتستانتي في لوس آلاموس، الذي لم يندم لحظة واحدة عما حصل حتى بقية حياته، ووجه الرئيس الأمريكي ترومان يشع بالغطرسة والتجبر، فبدأ يفرض في مؤتمر برلين مع ستالين شروطا مستحيلة بعد أن سكر بخمر القوة. في نفس الوقت كان أهل هيروشيما يحترقون بالنار ذات الوقود، يذوبون ويشوون، ويموت بالجملة الأطفال والنساء، الشباب والعجائز، فالنار التي كانت تنزل شواظا من نار ونحاس، ترمي بشرر كالقصور، كأنها الجمال الصفر المتراقصة.... وكأن القيامة قد قامت؟! درجة الحرارة فوق مركز المدينة وصلت الى 300 ألف درجة: عندما اشتعلت كرة النار على ارتفاع 550 مترا فوق مستشفى ( كا أورو شيماس ) KAORU - SHIMAS في مركز مدينة هيروشيما اليابانية في تمام الساعة الثامنة صباحا و16 دقيقة من يوم السادس من أغسطس عام 1945 م كان العالم يدخل حقبة جديدة، ليس بفعل الحرارة الجهنمية التي وصلت الى 300 ألف درجة بحيث تبخر المستشفى بمن فيه من المرضى، ولكن بفعل امتلاك طاقة الوقود الشمسي، وهذا التطور يعتبر نوعيا في تاريخ الجنس البشري. فلقد كان تاريخ القوة حتى تلك اللحظة تصعيدا تدريجيا في الطاقة النارية، ويعني خسارة فادحة في الجنس البشري مع كل نزاع، أما هذه المرة فأصبح بإمكان الإنسان أن يفني جنسه للمرة الأولى في تاريخه، حين امتلك سقف القوة، ووضع يده على طاقة النجوم، وتحت ضغط هذه الحقيقة العلمية أكثر من مواعظ الأخلاقيين وتعاليم المصلحين، دلف العالم إلى السلام العالمي مرغما لايكاد يصدق، فهو يعيش حيرة التناقض بين انشطار التاريخ بين مفهوم القوة والتطور العلمي وعتبته الجديدة. هذه القوة العاتية التي استخدمت مرة واحدة فوق رؤوس البشر ولعلها الأخيرة، توقفت القوة أن تكون سبيلا لحل المشاكل؛ في مستوى دول العالم الأول على الأقل، حيث أصبحت الحروب اليوم موضة المتخلفين، أو تأديب المتخلفين، الذين لم يدخلوا العصر بعد، وهذا يحمل تباشير أن يدخل الإنسان المرحلة (الإنسانية) في التاريخ، ويبدأ عهد الأنبياء فعلا الذي نادوا به وبشروا بإمكانية إقامته، وبذا كانت قنبلة ( هيروشيما ) نذيرا وبشيرا للبشر في آن واحد، نذيرا بالفناء وبشيرا بالسلام. البيكادون (PIKADON) الالتماع المدوي كانت المدرسة ( كاتسوكو هوريبي ـ KATSUKO HORIBE ) بفعل ظروف الحرب قررت القدوم بشكل مبكر الى المدرسة الابتدائية ( هونكاوا ـ HONKAWA ) وكان الوقت ثواني قليلة بعد الدقيقة 16 من الساعة الثامنة صباحا، وقد اجتمع الطلبة وبدأت الحياة تضخ بنظمها المعهود (3) عندما قامت القيامة. تقول المدرسة كاتسوكو إنها لم تسمع شيئا على الإطلاق ولكنها لاحظت فجأة أن غرفة التدريس غرقت بضوء أزرق متوهج يكاد يعمي الأبصار، ثم انفجر زجاج النافذة وطارت الشظايا البللورية، لتغرز نهاياتها الحادة في رأسها وذراعها الأيسر. لم تشعر بشيء ولكنها ارتمت أرضا، وخلال لحظات ساد سكون قاتل، ثم ساد ظلام عجيب، وكأن النهار تحول الى ليل. كانت الصدفة لاأكثر هي التي أبقت على حياة المدرسة ( كاتسوكو هوريبي ) لأن زملاءها العشرة الذين جاؤوا بالترام على الموعد تحولوا في لحظات الى قطع من الفحم الأسود (واختارت أمريكا المكان والزمان بدقة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر، وأعظم عتبة من الخوف والمفاجأة فألقت القنبلة بدون سابق إنذار) كذلك حالف الحظ المدرسة كاتسوكو في مركز الانفجار ؛ فالمفروض أن تكون نقطة الانفجار 250 مترا فوق جسر ايوئي AIOI والذي حصل أن مركز الانفجار حصل بارتفاع 550 مترا فوق مستشفى كاأورو شيماس كما ذكرنا، الذي اختفى بالكلية وانمسح من الوجود بكل مافيه من أشياء وأناسي، فتبخر الجميع في وهج حرارة وصلت الى 300 ألف درجة، حولت في مدى نصف قطر 500 متر كل شيء إلى رماد وهباب فحم، وحتى 3.2 كم ارتفعت الحرارة الى 3000 درجة فعرضت كل من صادفته إلى أبشع الحروق، والى مسافة 14 كم احترق الورق، وبذا تحولت هيروشيما تحت تأثير الضغط والحرارة والإشعاع إلى جهنم تتلظى، فقضى ثمانون ألف إنسان من السكان نحبهم فورا، ثم تتابع عشرات الألوف بعد ذلك ليقترب العدد الإجمالي إلى قريب 150 ألف إنسان. باتجاه نهر الموتوياس ( MOTOYAS ) عندما استعادت كاتسوكو وعيها اندفعت من المدرسة باتجاه نهر الموتوياس لإنقاذ سبعة أطفال من حرق مرعب أكل وجوههم وحول ملابسهم إلى أسمال ومزق، صاحت بالأطفال: باتجاه النهر.. عليكم بالنهر!! كان النهر هو أملهم الوحيد، ولكن ال120 مترا أصبحت طريقا لاينتهي، بين جثث محترقة، وأكتاف تتدافع قد أصابها من الحرق ماحولها الى جموع شاردة مجنونة تزعق من الألم، كما أن النهر بذاته أصبح مطوقا بالنار من كل جانب، فمركز المدينة بالكامل قد استحال إلى كتلة نارية ملتهبة، تزداد بالاتساع، واختفى الأطفال السبعة من ناظريها في الاتون الملتهب. شعرت المدرسة هوريبي بأنها تموت واستولى عليها نوبة من الإقياءات المرة، وعندما نظرت إلى ملابسها كانت مقطعة قد غرقت بالدماء، لم تعرف تفسير ماحدث، هل هي نهاية العالم؟ مابال هذه الجثث المحترقة ؟ مامعنى اكوام الموتى؟ قصدت النهر فغطست فيه حتى الذقن هربا من النار الحارقة، حتى إذا انتعشت هرعت إلى بقايا مدرستها التي كانت مبنية من الخرسانة المسلحة المتينة، والتي كانت خلف نجاتها، فرأت منظرا لاتنساه : كانت بقية زميلاتها من المدرسات قد تحولن إلى قطع متناثرة من الجثث المتفحمة وكأنه يوم الحشر والدينونة كانت (ساكائي ايتو SAKAE ITO) في مجموعة من المتطوعين، لتهيئة المدينة لمقاومة هجوم جوي، تتذكر كيف شبت النار في معطفها فجأة بدون سابق إنذار، وخلال لحظات عم الظلام، ثم بدأ مطر أسود لزج قطراني يتساقط من السماء، لم تفهم ماحدث؟! ووجدت نفسها تحت أنقاض منزل!! وعندما نظرت باتجاه تلة (هيجي ياما ـ HIJIYAMA) رأت القمة بوضوح وكأنها قريبة. لم يبق هناك من المدينة مايعزل عن رؤيتها، فالمدينة كنست!! واندفعت باتجاه جسر (تسورومي ـ TSURUMI) وهي تتساءل أي قنبلة هذه التي حولت كل المدينة إلى أنقاض، لم تسمع انفجارا أو ترى حفرة في الأرض!! هكذا اصطلح أهل المدينة على تسمية ماحدث بيكادون، وهي اجتماع كلمتين (البيكا) وتعني الالتماع و(الدون) الصوت الخارق المدوي. كل من كان بالمدينة لم يشعر إلا بالالتماع والتوهج، ومن كان في البعيد رأى تألق الضوء وصوت الفرقعة. كانت طوابير الناس المحترقة المتألمة المختنقة والمتبقية من (الهولوكوست) المحرقة الكبرى، تزدحم في الجسر، يغلفها منظر واحد مكرر، حفاة عراة، لم يتبق على أجسادهم تجنبا لاحتكاك الجلد المحترق المؤلم، وقد تدلت قطع الجلد المحترقة المهترئة، يلوح بها الهواء، لم يعد يفرق بين الذكر والانثى، الوجه من القفا، يصرخون في طلب الماء، يتأوهون من الألم، يجرون أقدامهم بين الجثث المتناثرة، قد احترقت شعورهم وتجعدت وتصاعدت رائحة الشواء منها، وانتفخت وجوههم من الحرق، فلم يعد بالإمكان التعرف على هوية المصاب، والكل كأنه في حلم، ماالذي حدث؟ ماالذي دهى البلد؟ هل هو سلاح؟ هل هي نهاية البلدة كما في بركان فيزوف في إيطاليا الذي دفن مدينة بومبي في العصرالروماني؟ أم هي نهاية العالم ويوم القيامة التي تحدثت عنها الكتب المقدسة؟ لاأحد يفسر!! لاأحد عنده الإجابة!! كان الجميع يبحثون عن أي مصدر للماء لتخفيف آلام حروقهم، فعمد البعض الى دفن رؤوسهم في أحواض الماء، التي خصصتها الحكومة لإطفاء حرائق الحرب، وبدأ البعض في تحريك رؤوسهم في هذه الأحواض، إلا إن الموت فاجأهم فبقوا جثثا فوق الأحواض ؟!! وماتبقى منهم جاء وصفهم على لسان كاتب ياباني معروف هو (يوكو اوتا) مايلي: (( لم أتوصل بسهولة إلى فهم كيف استطاعت بيئتنا أن تتحول إلى هذا الشكل خلال لحظة، وظننت أنه من المفروض أن يكون قد حدث شيء ما، لاعلاقة له مطلقا بالحرب، إنه لاشك نهاية العالم، كما كنت اقرؤها في الكتب عندما كنت طفلا)). أو مارواه شاهد عيان: (( بعد قليل شرعت مواكب المعوقين من جميع الأنواع والأشكال _ لم يعرف لها التاريخ مثيلا، تتهافت وهي تنزح من وسط المدينة، باتجاه الضواحي المحيطة بها)): (( كانت أذرعهم تتدلى ووجوههم _ ليس فقط جلود أيديهم وحدها، بل أيضا جلود وجوههم وجميع أطرافهم كانت تتساقط مهترئة، ولو اقتصر الأمر على شخصين أو ثلاث لهان الأمر، ولكن حيثما كنت أتوجه كنت أصادف مثل هؤلاء البؤساء، كثيرون سقطوا أمواتا على طول الطريق، ولازلت أراهم ثانية وهم يتقدمون كالأشباح، ولم يبد عليهم أنهم ينتمون إلى هذا العالم.. وبسبب جراح أولئك الناس لم يكن بالإمكان أن يعرف فيما إذا كنا نراهم من الوجه أو الظهر)) مفاجأة إضافية: مرض الأشعة نجى الدكتور ( ميشيهيكو هاشيا MISHIHIKO HACHIYA ) بأعجوبة بعد أن سقط منزله فوق رأسه، ونزف من أربعين جرحا في جسده ورأسه، وعندما انطلق إلى الشارع اكتشف نفسه عاريا!! يقول الدكتور (هاشيا) كان منظر العري هذا متكررا حيثما وقعت عيني على الكارثة؛ فالضغط والحرارة والحرائق أطاحت بكل شيء بما فيها الملابس، ولكن العورات مع الحرائق لم يعد المرء يفرق بين الذكور والإناث؟! وفيما هو يعالج في مشفاه الذي كان مديرا له، أثارت فضوله العلمي ظاهرة محيرة لم يعرف كيف حدثت؟ ماهو نوع السلاح المستخدم الجديد؟ وعندما لاحظ أن مرضاه يتغوطون دما على شكل إسهال مدمى، تبادر إلى ذهنه؛ أن السلاح قد يكون من النوع البيولوجي؟! ولكن مظاهر أخرى رافقت هذه الظاهرة، من نقص المناعة وانخفاض عدد الكريات البيض، إلى حدود 500 كرية في المليمتر المكعب الواحد ( الطبيعي يتراوح بين 4000 ـ 7000 ) والتهاب الحلق الشديد، وسقوط الشعر ونقص الشهية وتراجع الوزن وارتفاع الحرارة، جعله يفكر ويطلق على هذه الظاهرة ؛ وكان محقا في هذه التسمية وكان الأول الذي لفت النظر إليها ـ سماها (مرض الأشعة)؟! إذا فهذا السلاح الجهنمي يفسر ظاهرة تساقط الأموات بدون توقف مع اختفاء النيران والدخان والحرائق، بل وعودة الحياة الطبيعية إلى مدينة هيرشيما. بل مازال الفريق العلمي حتى اليوم بعد مرور نصف قرن، مازال يتتبع الآثار المدمرة للإشعاع الذري. هذه المفاجأة غير السارة في تلويث البيئة بالأشعة جعلت السلاح النووي خطيرا للغاية، ولم يكن في حساب الفيزيائيين، الذين أقدموا على التلاعب بقوى الكون من أجل الانتصارات العسكرية. خمس صور فقط حفظت للذاكرة الإنسانية كان المراسل الصحفي ( يوشيتو ماتسوشيجي YOSHITO MATSUSHIGE ) يعمل لصالح جريدة ( شوجوكو شيمبون CHUGOKU SHIMBON ) والتي مازالت الجريدة الرسمية في هيروشيما حتى اليوم. يقول كان عمري يومها 32 عاما (وهو مازال على قيد الحياة يرزق وعمره 82 سنة، ومازال يمارس مهنته المحببة التصوير حتى اليوم؟!) عندما سقط منزلي فوق رأسي بعد ظاهرة البيكادون؟! هرع إلى متن دراجته ليرى ماحل بالمدينة؟ وليعرف ماجرى لمحل الحلاقة الذي تعمل فيه زوجته؟ ماوقعت عيناه عليه أن كل شيء تهدم، ولكن كاميرته من نوع (ماميا MAMYA) كانت ماتزال تعمل، فانطلق وهي تتأرجح على الدراجة، ولم ينتبه إلى جروحه لتي كانت تنزف، كل ما استولى على تفكيره كان مصير صالون الحلاقة التي تعمل فيه زوجته. كان منزله يبعد 2700 مترا عن النقطة زيرو (ZERO صفر) لمركز الانفجار. مازال يتذكر ويقول: حقا إنه شيء عجيب أن يجرح الإنسان بدون صوت قنبلة ؟ وعندما وصل إلى مركز المدينة رأت عيناه ماندم عليه بقية عمره أن يفعله، عندما كان الشاهد والمصور الأول، الذي خرج من الأتون النووي حيا، ولم ينتبه الى أنه كان أول من رأت عيناه الهول، ولكنه لم يصور سوى خمس صور يتيمة هي كل مابقي للجنس البشري نذيرا للبشر عن هول ماحدث ؟! هذه اللقطات الخمس، مازالت تتكرر ملايين المرات حتى اليوم، بمثابة الشاهد الوحيد اليتيم عن آثار الحرب النووية، كشاهد ليوم الفزع الأكبر الذي حل بهيروشيما، ولم يعلم وقتها أن قنبلة ذرية انفجرت فوق رأسه لأول مرة في تاريخ الجنس البشري، التي ربما لن يراها البشر مرة ثانية. يقول المصور ( يوشيتو): كان ركاب الترام في منظر مفزع حقا، فبعضهم قد تمزق وسقط ارضا، ولكن الكثيرين كانوا يجلسون في مقاعدهم، قد حافظوا على هيأتهم كما كانوا، وكأن شيئا لم يحدث، وما لفت نظري يومها اثنان مازالت أيديهم تقبض على أحزمة الجلد (القشاطات) مثل مخالب الصقور، وكأنهم أمسكوها لتوهم بعد أن أعلن الترام الصفير بدء التحرك إلى المحطة التالية، ولكن وجوههم كانت بشكل عجيب ؛ فكأنها طليت بفحم المداخن الأسود. كانت الوجوه الجميلة قد شوهت بكل السخام والقتام الفظيع. كانت المحافظ بجنب الناس بدورها متفحمة، كانت المظلات وأشياء أخرى كثيرة من حاجيات الناس اليومية قد أكلتها النيران وحولتها إلى قطع متفحمة شوهاء بلهاء. كان الشيء المشترك والمريع ؛ يتابع المصور الياباني قصته: والذي ترك في نفسي أثرا لايمحوه مرور الليالي؛ تلك الوجوه والنظرات الفارغة من المعنى المحملقة في الأفق البعيد، بعد أن عانقت الموت، الذي جاءها من بعيد، الذي عرفنا لاحقا أنه جاء من لوس آلاموس. كأن الناس في متحف شمع ولكن بلون أسود قاتم، قد انطفأت الحياة وتوقفت فيها. ويبقى السؤال لماذا لم يصور تلك الوثائق التي لاتقدر بثمن للجنس البشري؟ يجيب المصور الياباني (يوشيتو ـ ماتسوشيجي): كان سببه التقاليد اليابانية، التي تنهى عن النظر في وجوه الأموات والمصابين، والتعليمات الصارمة العسكرية، أن لاتصور المشاهد المروعة والمقيتة من الجثث المشوهة، كي لايفت في عضد الناس، وتنهار المعنويات. كان العسكريون يريدون أن تستمر آلة الحرب نشيطة، والناس تغذيها نارها التي تتلظى بالقرابين البشرية بدون انقطاع، بل هل من مزيد. وقبل هذا أن المصور لم يكن يدري أن مارأته عيناه كانت المشاهد الأولى من حرب نوعية جديدة قفزت فيها القوة إلى سقف النجوم المستعرة، وأنه دخل عصر الذرة. النتائج فاقت كل التوقعات في نفس هذا الصباح وعلى الشاطئ الآخر من الأطلنطي، كان الرئيس الأمريكي (ترومان) يجتمع مع (ستالين) على مائدة المفاوضات بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية ( بوتسدام ) في صدد تقسيم العالم والنفوذ في مرحلة مابعد الحرب الكونية الثانية!! وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي، وغطى السرور محياه، ظهر ذلك في حركات يديه وعينيه، بعد أن وضعت بين يديه البرقية (العملية تمت صباحا. التشخيص لم يكتمل بعد. يبدو أن النتائج مطمئنة. وفاقت كل التوقعات). وعندما سطعت الشمس النووية، وحلق (الفطر النووي) البئيس فوق مدينة (هيروشيما)، وطوى تحت جناحيه أشباح وأرواح عشرات الآلاف من البشر، عندها أدركت عائلة (ويسل مان) وسائق القطار (ايدلين) والمذعور (لويس فاريس) من قرية (كوريثوثو) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة، بل وولادة عصر جديد. وتبين أن ماشاهدوه كان في الواقع تجربة أول انفجار نووي على ظهر الأرض، في صورة تفجير قنبلة البلوتونيوم 239. بقي أن نقول أن منظر الفطر النووي حول راحلته ليبزغ مرة أخرى بعد ثلاثة أيام، فوق مدينة أخرى، كأن ماحدث في هيروشيما لم يكن كافيا، فتكرر منظر الحرائق واللهب والتفحم والانفجار، فالتهمت النار ذات الوقود مرة أخرى قريبا من مائة ألف إنسان في مدينة ناغازاكي. كان قرار الرئيس الأمريكي ترومان صارما واضحا: نقل ربع مليون إنسان إلى العالم الأخروي في أيام معدودة، وانعطاف نوعي في تاريخ الجنس البشري. في نفس يوم التاسع من آب الذي مسحت فيه مدينة ناغازاكي، كانت مدينة هيروشيما تضمد جراحها، وتكنس الخرائب التي لاتنتهي، ويبدأ الترام فيها صفيره مرة أخرى، وتدب الحركة والحياة فيها من جديد، في أقل من 72 ساعة، شاهدا على حيوية شعب بإرادة أقوى من السلاح الذري. مراجع وهوامش : (1)يعتمد بناء السلاح الذري الانشطاري على استخلاصه من اليورانيوم 238 في طريقين الأول: استخلاص اليورانيوم المكثف 235 وهو بمعدل سبع ذرات من كل ألف ذرة يورانيوم 238 أي أن كل 1000 ألف ذرة يورانيوم خام فيها 993 ذرة غير قابلة للانشطار، وسبع ذرات 235 صالحة لبناء السلاح النووي منها كونها ذرات قابلة للانشطار غير مستقرة. والثاني التلاعب باليورانيوم 238 وقلبه الى 239 غير مستقر قابل للانشطار بدوره، وأعطي لقب بلوتونيوم من الكوكب التاسع بلوتو !! وكما نرى فهناك طريقة صعبة مكلفة، وثانية صناعية أسرع وأسهل وتضخ باستمرار وتتم عن طريق المفاعل النووي، الذي ركبه انريكو فيرمي الايطالي للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري مع نهاية عام 1942 عندما أرسل برقيته الشهيرة الى الرئيس الأمريكي دولانو روزفلت يقول : لقد رسى الملاح الإيطالي على الأرض الجديدة !! بقي أن نقول أن قنبلة البلوتونيوم 239 هي التي أنتجها مخبر لوس آلاموس الذري وتم تجريبها في الساعة الخامسة والنصف من صباح 16 تموز يوليو عام 1945 وقصفت بها مدينة ناغازاكي، أما قنبلة اليورانيوم 235 المخصب فلم تجرب لثقتهم بنجاحهما، وتم تركيبها في مختبر أواك ريدج عند التنيسي وقصفت بها مدينة هيروشيما. ولم تكن الولايات المتحدة تملك أثناءها سوى عدد لايتجاوز أصابع اليد، ولكن سر السلاح النووي أصبح في يدها وبالتالي يمكن تصنيع العدد الذي تريده قبل انتقال سره الى الآخرين كما حدث لاحقا عندما فجر الاتحاد السوفيتي أول قنبلة له عام 1949 م قنبلة (جو) الأولى نسبة الى جوزيف ستالين، وبدأت رحلة التسابق النووي التي عاصرناها كما عاصرنا نهايتها، وتوقف العالم عن السير في رحلة القوة، وبدء رحلة السلام، ونزع فتيل الحرب ومعه السلاح النووي (2) من المفارقات العجيبة التي كشف عنها العلم النووي لاحقا أن قنبلة هيروشيما كانت تزن 60 ستين كيلوغرام من اليورانيوم 235 المخصب ولم ينفجر منها سوى 700 غرام أقل من كيلوغرام واحد ـ لحسن حظ أهالي هيروشيما فلم يكن ليبقى منها شيء لو انفجرت كل طاقتها ـ بمعنى أن كمية التفجير بلغت 2? فقط من كميتها ؟! وأما قنبلة ناغازاكي فوزنت 6? 2 كغ وتفجر منها 1.3 كغ بمعنى أن ماتفجر منها 21? لذلك عمد فريق التسلح النووي لاحقا لتطوير نظام الحقن المدعم بجرعة إضافية ( BOOSTER ) من مادة التريتيوم لتحقيق أكبر كمية تفجير ممكن من المادة (3) اتخذ الرئيس ترومان قراره بالضرب المزدوج للمدينتين بتوقيع واحد على أن يكون متتابعا مريعا مفاجئا بدون أي إنذار وفي وقت بدء الحياة، كي تكون جرعة الصدمة والرعب في أقصى مداها وجرعتها. ( توثيق المعلومات تم أخذها من مجلة الشبيجل الألمانية وكتاب القصة السرية للسلاح النووي للكاتب الأمريكي مهندس الكمبيوتر جاك هانزن وكتاب مصير الكوكب الأرضي لجوناثان شيل ومصادر أخرى متفرقة) ???