من يضحك كثيرا يبكي أخيرا!!

لاشك في أن القول المأثور اضحك تضحك لك الدنيا، ابك تبكي وحدك صحيح إلى حد بعيد. فالإنسان يتجاوب بسرعة وسهولة مع الضحك. لكنه يجد صعوبة كبيرة في أن يتجاوب مع البكاء. فالضحك انفعال عاطفي اجتماعي، بينما البكاء انفعال فردي يمارسه الشخص بينه وبين نفسه أو في خلوته منعزلا بين أربعة جدران. والضحك يفضل الأجواء الحياتية الجمعية الصافية: سهرة ـ رحلة... إلخ، وكلما كان الجمع أكبر والصخب أكثر كان الضحك أقوى وأمتع وأشمل، ويستمر لفترة أطول، حتى إنه كالتثاؤب ينتقل بالعدوى. فإذا كنت في مجلس غفير، وضحك الجميع فإنك ستضحك معهم رغما عنك ولو لم تعرف أسباب الضحك تبسمك صدقة! وبما أن الإسلام دين فطرة ويسر وسماحة، وهو حريص كل الحرص على رسم الابتسامة على وجوه المسلمين جميعا، بل إن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يقول: تبسمك في وجه أخيك صدقة. وإذا كان الإسلام لم يمنع الضحك والمزاح فإنه أمرنا بالاعتدال فيهما وفي غيرهما أيضا. والضحك يعتبر إحدى الغرائز التي أوجدها الله سبحانه فينا لنستخدمها في أوقات الترفيه والترويح عن النفس، ويجب ألا نداخل بينها وبين الظروف الأخرى التي تتطلب منا المثالية والجدية لنجنب أنفسنا وكذلك الغير مشاعر الإحراج والأسف. وإذا كان رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله هو خير قدوة لنا فإن القرآن الكريم عبر عن الطبيعة البشرية في أكثر من آية مثل وصفه تعالى للمؤمنين يوم القيامة بالضحك والاستبشار لرؤيتهم ما أعد لهم من ثواب وعند ملاقاتهم وجهه الكريم سبحانه. وأيضا يقول الله تعالى: وأنه هو أضحك وأبكى النجم: 43 أي أن الله خلق عباده وأوجد فيهم غريزة الضحك وأيضا البكاء. وهذه قد تبدو معادلة صعبة، إن لم تكن صعبة فعلا، إذ لا يستطيع أي شخص كان التحكم في هذه المعادلة وموازنتها بالشكل المطلوب. أسباب الضحك أما لماذا نضحك؟ وكيف؟ وما هي أسباب الضحك؟ فالأمر ليس بالسهولة والبساطة بحيث يمكن الإحاطة به وتحديد جوانبه، فهناك أسباب كثيرة ومواقف عديدة يصعب إحصاؤها تثير في نفوسنا الرغبة الشديدة في الضحك. وربما تختلف من شخص إلى آخر، فقد يضحك شخص من موقف ما لا يضحك منه شخص آخر، وقد تضحك من كلمة أو حركة أو فعل أو موقف أو خطأ ما، أو وضع غريب مخالف للمألوف أو المنطقي، أو في حالة الفوز والانتصار، أو من حركة ربما تكون عادية لكنها تتم بشكل آلي جامد. وأحيانا يضحك بعضهم من أمر يثير البكاء أصلا فيكون لديهم شر البلية ما يضحك. والضحك إذا ما مارسناه بشكله المطلوب والمقبول فرج الكروب وروح عن النفوس ونشط العقول والأذهان وأراح الأعصاب المتعبة وأزال التوتر، وحافظ في ذات الوقت على التوازن النفسي وعدم الوقوع فريسة الأوهام. وهناك عوامل عديدة تجعلنا نضحك من أنفسنا أو من غيرنا مثل بعض المواقف التلقائية والعفوية التي تعتمد على التناقض أحيانا أو المفارقة، أو الخبر الغريب الذي يدعو للضحك أو الابتسام، وأيضا هناك النكتة وهي فن من أوجز الفنون التي تثير في النفس الضحك. إلا أن أصعب أنواع الضحك ذاك الساخر الذي يحتاج إلى ذكاء ودهاء شديدين، وهو نوعان: الضحك الساخر المحمود والذي يرمي إلى مقاومة بعض العادات الذميمة وتصويب بعض المواقف وتصحيحها، والساخر المذموم والذي يمارس دون أي اعتبار لمشاعر الآخرين وأخلاقياتهم، وهو ما يجعل صاحبه منبوذا غير مقبول. أما فن الكاريكاتير وهو من أصعب الفنون المضحكة لاعتماده على الصورة وبعض التعليقات الخفيفة التي كثيرا ما تولد في النفس مشاعر الضحك بألوانه المتعددة ودرجاته المتنوعة، إذ ثمة درجات للضحك منها الابتسام والضحك والقهقهة العالية. وفي هذا المنحى يقول الفيلسوف (هنري برغسون): إن الضحك ينتج عن مشاهداتنا الأوتوماتيكية في الحياة، ففي كل مرة ننتظر حركة موافقة لمقتضيات الحياة الطبيعية الحرة فنجد بدلا منها حركة غير حرة، ليس لها علاقة بإنسانيتنا، بل على العكس تكون كأنها صادرة عن آلة جامدة فاقدة الوعي غير متكيفة مع الظروف فنضحك مرغمين. حذار من السخرية! ومن ضوابط الضحك في الإسلام الحرص على الكلمة الطيبة، والبعد عن الغمز والسخرية والاستهزاء بالآخرين، كما يجب أن يكون هذا الأمر معتدلا دون إكثار لقول الرسول عليه الصلاة والسلام كثرة الضحك تميت القلب وتذهب الهيبة. وبما أن الضحك لا ينتج من فراغ أو من عزلة اجتماعية، بمعنى أنه لا يولد إلا بين الناس، كما ذكرنا سابقا، فنحن بالتالي مطالبون بأن يكون الهدف منه هو المؤانسة وطرد الملل، وألا يكون رفيقا لنا في كل الظروف والأوقات وحتى الأماكن. فلسفة التفوق وقد يكون باعثنا على الضحك هو إحساسنا بالأفضلية والتفوق على الغير، فننظر إلى موضوع الضحك على أنه دوني هزيل صغير لا يرتقي إلى مستوانا. فرؤيتنا لشخص سكران يترنح على الطريق يتعثر في مشيته. يتلفظ بكلام عشوائي لا ترابط بين ألفاظه ولا منطق يجمع بين معانيه يثير في نفوسنا مشاعر الشفقة والرثاء والضحك؛ لأننا في الأساس نحس بالتفوق عليه وبترفعنا عن دونيته ومستواه. شخص آخر يمشي في الشارع فتطير قبعته من على رأسه فيعدو خلفها، وكلما وصل إليها وحاول إمساكها طارت من بين يديه فنضحك منه استهزاء وسخرية. وللأطفال صور ومواقف كثيرة تدفعنا للضحك منها: طفل يحاول الكلام فيخونه لسانه ويتلفظ بكلمات غريبة أو مقلوبة أو ناقصة، فنضحك حبا فيه وعطفا عليه وتشجيعا له. ومنظر طفل يقوم بتصرفات وأعمال لا توافق عمره وإمكاناته مقلدا فيها الكبار، فيحاول قيادة سيارة أو إصلاحها أو دفع صخرة كبيرة أو حمل برميل كبير أو مصارعة والده أو تقليده في تدخين السجائر أو حلاقة الذقن، أو وضع نظارات طبية أو.. الكثير من المواقف الطفولية التي تثير البهجة والسرور والضحك. وأخيرا وليس بآخر، يقال إياك وضحك القهقهة، فإن فيه ثماني آفات: يذمك العقلاء، ويجترئ عليك السفهاء والجهال، فإنك لو كنت جاهلا ازددت جهلا وإن كنت عالما نقص علمك، وفيه نسيان الذنوب السابقة وجراءة على الذنوب المقبلة، وكثرة الضحك تؤدي إلى قسوة القلب ونسيان الموت وما بعده من أمور متعلقة بالآخرة، كما أن الضحك الكثير يؤدي إلى بكاء كثير في الآخرة فقد قال الله تعالى: فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون التوبة:82 .