أنشودة المطر

كان الليل المتعب يجتر أحلام المدينة، والدموع تنأى وراء الشرفات، وعيناك كانتا كطفلين يعبثان بكل أوراق السكينة ويكبران مع الأيام ويهطل المطر.. تنام الوردة في حضن القتاد ويغتسل من نداها السهر، وألوذ بالصمت خوفا من نحيب المساء، وتمسحين بعينيك غشاوة قلبي كجائع تكور التفاحة راحتيه فتصفقان، ويصقصق بستانه المعرى مثل عصافير تودع الغسق، كذكريات محطة متخمة بصفير قطارات الليل وحقائب الشفق. وتمسحين دموعي من على وجه المرايا ثم تبكين، أعوذ بثكلى الصخر منك لو تبكين وبعيينك لو تضحكين، وعندما ترتعش عيناك يجفل القصب فكيف لو.. عيناك زهرتان ليليتان تسافران في مدارات النهار، عيناك أغنيتان من صمت ونار، ومشكاة يتقد فيها الليل زيتها ثلج وهدأتها انفجار. عيناك دفاتر طفل شقي أقرأ فيها عمري وليالي مفرقي أفتش فيها عني، عبثا استرجاع الماضي بالخط الأحمر مكتوب. بعينيك توقدين الأضواء خافتة وتحركين الهشيم من على جذوة القلب ليغني اليباب في مساحات روحي، أنشودة المطر. أنشودة المطر السياب ????????????? عيناك غابتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر عيناك حين تبسمان تورق الكروم وترقص الأضواء كالأقمار في نهر يرجه المجداف وهنا ساعة السحر??كأنما تنبض في غوريهما النجوم وتغرقان في ضباب من أسى شفيف كالبحر سرح اليدين فوق المساء، دفء الشتاء فيه وارتعاش الخريف، والموت، والميلاد، والظلام، والضياء، فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء ونشوة وحشية تعانق السماء كنشوة الطفل إذا خاف من القمر ! كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر وكركر الأطفال في عرائش الكروم، ودغدغت صمت العصافير على الشجر أنشودة المطر مطر مطر مطر تثاءب المساء، والغيوم ما تزال تسح ما تسح من دموعها الثقال. كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام: بأن أمه التي أفاق منذ عام فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال قالوا له : بعد غد تعود لا بد أن تعود وإن تهامس الرفاق أنها هناك في جانب التل تنام نومة اللحود تسف من ترابها وتشرب المطر، كأن صيادا حزينا يجمع الشباك ويلعن المياه (?) وينثر الغناء حيث يأفل القمر . مطر مطر أتعلمين أي حزن يبعث المطر؟ وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟ وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع، بلا انتهاء كالدم المراق، كالجياع، كالحب، - كالأطفال، كالموتى هو المطر! ومقلتاك بي تطيفان مع المطر وعبر أمواج الخليج تسبح البروق وسواحل العراق بالنجوم والمحار، كأنها تهم بالشروق فيسحب الليل عليها من دم دثار أصيح بالخليج : ((يا خليج يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!)) فيرجع الصدى كأنه النشيج : ((يا خليج يا واهب المحار والردى)) أكاد أسمع العراق يذخر بالرعود ويخزن البروق في السهول والجبال، حتى إذا ما فض عنها ختمها الجبال لم تترك الرياح من ثمود في الوادي من أثر. أكاد أسمع النخيل يشرب المطر وأسمع القرى تئن، والمهاجرين يصارعون بالمجاديف وبالقلوع، عواصف الخليج، والرعود، منشدين: مطر مطر مطر وفي العراق جوع وينثر الغلال فيه موسم الحصاد لتشبع الغربان والجراد وتطحن الشوفان والحجر ورحى تدور في الحقول حولها بشر مطر مطر مطر وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع ثم اعتللنا خوف أن نلام بالمطر مطر مطر مطر ومنذ أن كنا صغار ، كانت السماء تغيم في الشتاء ويهطل المطر، وكل عام حين يعشب الثرى نجوع ما مر عام والعراق ليس فيه جوع. مطر مطر مطر في كل قطرة من المطر حمراء أو صفراء من أجنة الزهور. وكل دمعة من الجياع والعراة فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد أو حلمة توردت على فم الوليد في عالم الغد الفتي، واهب الحياة! مطر مطر مطر سيعيش العراق بالمطر )) أصيح بالخليج : ((يا خليج يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى!)) فيرجع الصدى كأنه النشيج: ((يا خليج يا واهب المحار والردى.)) وينثر الخليج من هباته الكثار، على الرمال: رغوه الأجاج، والمحار وما تبقى من عظام بائس غريق من المهاجرين ظل يشرب الردى من لجة الخليج والقرار، وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق من زهرة يربها الفرات بالندى. وأسمع الصدى يرن في الخليج مطر مطر. مطر في كل قطرة من المطر حمراء أو صفراء من أجنة الزهور. وكل دمعة من الجياع والعراة وكل قطرة تراق من دم العبيد فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد أو حلمة توردت على فم الوليد في عالم الغد الفتي، واهب الحياة . ويهطل المطر .. ~~~~~~~~~~~~~~~ للشاعر الكبير :- بدر شاكر السياب ملاحظة:- (?) هنا كلمة حذفتها لأنه يسب (القدر)