عقبات في طريق الاعتدال !!

لماذا الحديث عن الاعتدال؟ سؤال يطرحه الجميع، بيد أن الإجابة عليه لا تستوعبها هذه الأسطر. إن عدم الاعتدال يعد خللا في حياة الإنسان، سواء كان في عبادته أو معاملته أو حتى نظرته لبعض القضايا والآراء، وهو أمر بالإضافة إلى أنه مذموم شرعا يؤدي بالإنسان إلى التجاوز في كثير من الأمور أو التفريط فيها، ووجود هذه الظاهرة في المجتمع يؤدي مع الوقت إلى تفككه وانحلاله. الغلو مذموم في أي أمر كان الغلو في كل الأمور مذموم حتى ولو كان يتعلق بالعبادة، فمن غلا مثلا في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم - مع أن تعظيمه من أفضل العبادات- ربما أدى به هذا الغلو إلى تجاوز الحد، فيجعل الرسول فوق مرتبته ومنزلته التي أنزله الله فيها. وغلو الإنسان في توقير الصالحين كذلك، وغلوه في العبادة قد يؤدي به إلى التنطع، ولذا ذم النبي صلى الله عليه وسلم من وقع في ذلك وحذر منه. وهكذا الأمر في جوانب الحياة المختلفة، فالغلو في الكرم إسراف، والغلو في الحلم ضعف وخور، والغلو في الغيرة قد يجعل الإنسان يجاوز القدر الشرعي في التعامل مع من يقع في المعصية والمنكر. الاعتدال سنة من سنن الله في الكون وحين نتكلم عن الاعتدال بمختلف جوانبه فإنما نتكلم عليه باعتباره سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الحياة وقانونا من قوانين الله في هذا الكون. تأمل في مظاهر الطبيعة ستجد فضيلة قاعدة الاعتدال، فالجو حين يزداد حره لا يطيقه الناس، وحين نقوم بتبريده ونبالغ في ذلك يتحول إلى جو مزعج لا يمكن أن نشعر بالراحة فيه. وكذلك الطعام حين نصنعه دون وضع ما يحتاج إليه من توابل وغيرها فإنه لا يستساغ، وحين يزيد عن القدر المعقول فإنه أيضا لا يستساغ، وكذلك الشرع جاء قائما على الوسطية والاعتدال . عوامل غياب الاعتدال ومن هذا يتضح ضرورة وجود الاعتدال في الأمة الإسلامية في جميع شئون حياتها، وهذا لا يتأتى إلا بتجاوز العوامل الباعثة على غياب الاعتدال في حياتنا، وهي عوامل كثيرة ومتعددة، فالبيئة أو قل تكوين شخصية الإنسان لها أثر بين في غياب الاعتدال، فالبعض يميل بطبعه إلى التطرف أيا كان، في هذا الاتجاه أو ذاك، فتجده لا يجيد التوازن والاعتدال ولا يستطيع من تلقاء نفسه تحقيقه في واقعه وحياته. وغياب الحوار والتعامل مع الرأي المخالف عامل من عوامل غياب الاعتدال، وعلى العكس كلما كان الإنسان قريبا من الآخرين يجيد الحوار معهم كلما كان إلى الاعتدال أقرب، فإن الحوار ولو لم يقنع فلا شك أنه سيوجد مساحة من التفاهم تجعل الإنسان يقيم للرأي المخالف وزنا، ويقتنع بأن له قيمة ولو لم يقل به. ثم انظر لطريقة التربية، وتأمل كثرة المبالغة في حديثنا وكتاباتنا وخطبنا في أي قضية من القضايا، فإن هذا الحماس وتلك المبالغة مع اعتيادها حينما نتحدث عن ظاهرة من الظواهر أو حينما نتعامل مع أي أمر من الأمور لا شك أنها في النهاية تشكل العقلية المتطرفة في آرائها ومواقفها والتي لا يمكن لها تجيد مبدأ الاعتدال والوسطية. ردة الفعل وأثرها في غياب الاعتدال من العوامل كذلك في غياب الاعتدال والتي ينبغي لنا تجاوزها ردة الفعل تجاه واقع سلبي أو تجاه خطأ حادث، ومن تأمل نشوء كثير من المدارس الكلامية والمدارس الفقهية والفرق والطوائف يجد أن كثيرا منها إنما نشأ عن ردة فعل معينة، إما لواقع سيئ أو لتطرف طائفة أخرى، وهذا يؤكد حاجتنا الماسة إلى أن نتزن حينما نتعامل مع حدث أو موقف أو رأي آخر، ونحذر من الوقوع في التطرف المقابل. إننا بحاجة إلى تجاوز تلك العقبات لكي نربي أنفسنا على الاعتدال في تفكيرنا، الاعتدال في مواقفنا، في نظرتنا وحكمنا على الأمور، وهو في الحقيقة أمر لا يمكن أن نحققه في أنفسنا بمجرد قرار نتخذه، وإنما هو يحتاج إلى تربية ومراجعة وإعداد للنفس وتهيئة لها. وحين نسير جادين لتحقيق الاعتدال يجب أن ندرك أن كون الإنسان معتدلا في كل نقطة وفي كل موقف وفي كل جانب من جوانب حياته أمر مستحيل، لأنه يخرجه عن دائرة البشرية، لكن أن يكون الاعتدال هو السمة الغالبة في حياة الإنسان وتصرفاته وفكره وآرائه فهذا ما نحتاج إليه وننتظره.