المعرفة خبز الدماغ

يسود لدى الشعوب التي تغلب عليها الثقافة الشفهية نوع من الإطراء الشديد للعقل بوصفه ذلك الجوهر الفرد الذي يتمتع بقدرات عظيمة وإمكانات واسعة في فهم الأمور والإحاطة بها والحكم عليها. كما أنها تنظر إليه على أنه لدى بعض الناس شيء مكتمل أو شبه مكتمل، فالشخص الذي يرون فيه التعقل يتصرف تصرفات حكيمة، تتبدى فيها عقلانيته منذ وقت مبكر من عمره. ويترتب على هذه النظرة على نحو آلي انعدام الشعور بالحاجة إلى تثقيف العقل وتغذيته بالمعارف، بل ربما سرت بين تلك الشعوب مقولات تقلل من قيمة المعرفة بالنسبة إلى أولئك الذين حرموا الموهبة والإمكانات العقلية الممتازة. وسبب هذه النظرة ربما عاد إلى ضآلة المعرفة المنظمة المتاحة لهم والمتداولة بين أيديهم، حيث يحرم وعيهم من الإحساس بما يفعله الاختصاص والتعمق المعرفي من التفوق في الإدراك والتحليل. على حين أن البيئات التي ينتشر فيها العلم على نحو جيد تتمتع بفضيلة المقارنة بين فوائد الإمكانات العقلية الفطرية وبين فوائد المعارف المكتسبة، وتتولد مع تلك المقارنة ومنها اهتمامات متزايدة بالحصول على المعرفة وتنميتها. القرآن الكريم ثقف الأمة برؤية واضحة في هذه القضية، حيث ألقى في روع المسلمين أن العقل الجيد ليس شيئا ثابتا مكتملا، إما أن نمتلكه وإما أن نحرم منه، وإنما هو شيء قابل للتنمية والنضج التدرجي والتراكمي من خلال تغذيته بالمعارف والخبرات المختلفة. وقد أوضح جل وعلا في آيات كثيرة أن الإنسان من خلال التعلم والملاحظة ورؤية سنن الله تعالى وآياته في الخلق يظل قادرا على تحسين مستواه العقلي. وتفيد آيات كثيرة أن التقدم العقلي يظل متوقعا ومأمولا من أولئك الذين يفتحون أذهانهم وأبصارهم لرؤية بديع صنع الله في الخلق وبالغ حكمته في الوجود. يقول سبحانه فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون (البقرة:73). ويقول سبحانه ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (الأنعام:151)، ويقول وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون(العنكبوت:43). أي أن الذين يفهمون مغزى الأمثال الذي ضربت لأجله هم الراسخون في العلم المتدبرون لما يتلى ولما يشاهدونه من آيات الله تعالى. ويوضح لنا القرآن الكريم في موضع آخر أن الجهل يجعل الإنسان يسلك السلوك الاجتماعي غير الملائم وغير المتحضر، يقول سبحانه وتعالى: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون(الحجرات:4). فرفع الصوت والنداء من بعيد والتصرف على السجية بعيدا عن التهذيب لا يعود إلى الغباء لدى أولئك الأعراب، وإنما يعود إلى جهلهم بمقام النبي صلى الله عليه وسلم وعدم معرفتهم بالأسلوب الذي يلائم الذوق المتحضر الذي يخبره سكان الحضر. وقد أثمرت هذه النظرة إلى أهمية المعرفة بالنسبة إلى العقل اندفاعا هائلا من المسلمين نحو طلب العلم والبذل في سبيله، وكان ذلك أحد الركائز الأساسية للحضارة الإسلامية العتيدة، لكن هذه الرؤية أصابها شيء من الغبش نتيجة عاملين اثنين: 1- سوء الأحوال ودخول جميع شعوب العالم الإسلامي في مرحلة انحطاط حضاري وثقافي، سادت فيها الأمية من جديد وتراجع دور الوعي في معرفة حقائق الوجود، فعاد تجميد العقل والتهوين من شأن العلم كرة أخرى. 2- تأثر فلاسفة المسلمين بالفكر التجريدي الذي أخذوه عن فلاسفة اليونان، وهو فكر يجافي المنطق العملي، ويبتعد عن الواقع والتجربة في التعامل مع المشكلات المختلفة إلى حد النفور والعداء، ويذكرون في هذا الصدد أن أرسطو كان يعتقد أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة، ومع أن الرجل تزوج مرتين فإنه لم يكلف نفسه أن يطلب من إحدى زوجتيه أن تفتح فمها حتى يتبين له أن اعتقاده غير صحيح. قد بلغ الضرر بفلاسفة المسلمين بالاعتماد على العقل وحده، على حد تعبير ابن خلدون، مبلغا سمح لابن سينا وابن طفيل أن يتصورا حيي بن يقظان قادرا على تحصيل المعرفة ولو كان في جزيرة منقطعا عن المجتمع وعن الحياة، بل بلغ الأمر بابن سينا أن يتصور الإنسان قادرا على أن يكون إنسانا بمجرد كونه يملك عقلا، وأنه لو علق في الهواء دون أن يلامس أي شيء من عالم الحس لاستطاع أن يشعر بذاته. هذه الرؤية الفلسفية لابد في النهاية من أن تزهد الناس في طلب العلم والحصول على الخبرة. إن العقل من دون تجربة فراغ، وهو أشبه بطاحونة أدرتها دون أن تصب فيها أي شيء تطحنه، بل إن وضعه في حالة ضآلة المعرفة قد يكون أسوأ، حيث إنه يقوم آنذاك بإصدار الأحكام بناء على ما لديه من معلومات ناقصة وانطباعات شخصية، وكثيرا ما تكون تلك الأحكام مشوهة أو خاطئة، ولو أنك جلست في مجلس يتحدث فيه بعض العامة أو بعض العامة المتنورين، وسمعت أساليبهم في تحليل الأحداث السياسية والاجتماعية لوجدت صدق ما أقوله. إن المعلومات التي نملكها حول القضية موضع التفكير والتحليل لا تشكل المادة التي يشتغل عليها العقل فحسب، لكنها أيضا ترسم له الأطر التي سيعمل فيها، كما أنها تحد من جموح أخيلته، وتجعلها على صلة ما بالخبرات المتوفرة. حين نجعل العقل ينخرط في كثير من النقاشات والمداولات مع قليل من المعرفة والخبرة فإننا نعرضه لخطورة القيام بإنتاج أفكار لها نوع من الاتساق المنطقي الشكلي، لكنها لا تحظى بأي نوع من التمحيص والاختبار، وهو حين يفعل ذلك لا يستهلك ذاته في أعمال لا فائدة منها فحسب، بل إنه يعرض ذاته للتسمم بعين الأفكار التي أنتجها. وكم شهد الواحد منا من محاورات ومناقشات لم ينتج عنها أي معرفة ذات قيمة، لأنها في الأصل لم تنطلق من خلفية معرفية جيدة، ولم تقف على أرض علمية صلبة. وكثيرا ما يظن بعض الناس أنه طليق في استخدام عقله، وأنه ليس هناك أي حدود تحول دون ذلك، مع أن إدراك العقل مسور بالمدركات التي يلامسها عن طريق الحواس، ولذا فإن الأعمى لا يدرك كل ما يدركه المبصر عن طريق البصر، والأصم لا يدرك كذلك ما يدركه سليم السمع عن طريق الأذن وهكذا. وإذا كان عمل العقل فيما أدركه عن طريق الرؤية المباشرة ـ مثلا ـ لا يوفر لنا تحليلات يقينية ـ لأسباب عديدة ـ فما بالك في منتجات العقل من خلال عمله في أمور تقديرية تجريدية؟ إنها لاشك ستكون أقرب إلى التخمين أكثر من أي شيء آخر. إن العقل مهما ملك من الإمكانات الفائقة سيظل يشعر بأن جودة أدائه متوقفة على كثافة المعارف والمقولات التي سيشتغل عليها. وما يبديه من براعة وذكاء مدين للمعارف التي في حوزته في المقام الأول. في الختام من المهم أن نتذكر أن معرفتنا محدودة وجهلنا غير محدود، فمهما تبحر الواحد منا في قضية ما فإنه سيجد نفسه في النهاية عاجزا عن الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بها، وصدق الله تعالى إذ يقول: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا(الإسراء:85). وهذا يدعونا إلى أمرين: - الاستزادة من العلم على قدر ما نستطيع لأننا في حاجة إلى الكثير منه، وهذا يتطلب منا أن نظل يقظين للمحافظة على درجة مناسبة من التوتر بين ما نعلم وبين ما لا نعلم. - الاعتقاد بأن ما حصلناه من علم، مهما عظم، يظل قاصرا عن تغطية كل طبقات الحقيقة، وعاجزا عن تمكيننا من الوصول إلى كل ما نتشوق إلى القبض عليه واجتراحه، وهذا من جهته يدعونا إلى أن نبتعد عن الأحكام الصارمة وأن نحتفظ دائما بنهايات مفتوحة.