المفاخرة بين الثور والحمار

ذلك أن الحمار لما زين بالحراسات والهجارة، وشد عليه البضاعة الفاخرة والضمار (رأس المال)، وطمح في الفيافي والقفار، تاه به العجب والافتخار، ونطق الحمار: لقد أخطأ بائعي بالقناطير من الفضة والنضار (الذهب)، أو بعشرة أمثالي من الأثوار.. فلما سمع الثور افتخار الحمار قال: ماهذا القول ياصاحب الطيش والنهيق؟ أما علمت أن أول صياحك زفير وآخره شهيق؟ تحكي بذلك حال أهل الجحيم ذات اللهب والحريق، ألم تعلم أن قدرك حقير، وشرك كثير، ولخساسة همتك صرت لشهوتك كالأسير الحقير، وصوتك صوت النفير، بل هو أنكر منه وأي نكير. أما سمعت قول السميع البصير: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير لقمان. فقال الحمار: مهلا أيها الثور، فإني سأجيبك على الفور، وأبين لك مافيك من الخسف والجور، اعلم أنك قليل العقل لامحالة، ولهذا كان مربضك في الوحالة، فمن أين لك الجمالة، وقد أغواك (السامري) ذو البطالة، وسلك بك سبيل الضلالة، فهذا عليك أقوى دلالة، فبرهن عن نفسك وإلا فعلت للبغل وكالة. وأما أنا فإن جهلت قدري، ونسيت ذكري، وجحدت شكري، فأنا لمن اقتناني خير صاحب، وأنا الذي إذا اشتد الظلام وغارت الكواكب كان نظري فيه من أثقب الثواقب، وصار شأني نصرة أرباب البضائع والمطالب. فقال الثور: ياحمار لو كان فيك بركة وسعادة مؤيدة، لما تركت طعم الملح الذي هو سنة مؤكدة، وصار لي ولعالمي نعمة مؤيدة، ولذة مجددة وكان عليك مفسدة. فقال الحمار: هكذا ياثور البقر، تفتخر علي بأكل الحجر؟!. فقال الثور: ياحمار الآن أقررت بفضلي وإنعامي، وعلمت أن كل خير في الكون مبدؤه من تحت أقدامي، وأنا الذي مدحني الله في الكتاب المبين، فقال وهو أصدق القائلين: صفراء فاقع لونها تسر الناظرين البقرة:69. وقال تعالى نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين النحل: 66، وأما أنت ياحمار فنعوتك مزورة، وعيوبك مقررة، وخصالك منيرة (مفضوحة)، وأمورك مغيرة، وقد ضرب فيك المثل في الصحف المنشرة، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة المدثر : 50، 51. فقال الحمار: لقد أكثرت ياثور، وخرجت من الطور، أما علمت أني أبلغ المشتاق إلى بغيته من الآفاق، وأدخل الأسواق التي هي مفاتيح الأرزاق، وأنا المدخر ليوم الزينة، وأنا الذي لصاحبي كالسفينة، وأنا بحمد الله لاأجهل سوقا ولامدينة. وأما أنت ياثور فقد تماديت بغفلتك، وشقيت ببعدك وغيك لم تدخل السوق إلا لمصيبتك. فقال الثور: أخبرني ياقصير الذنب ياملحوص الركب، أي فخر لك وأنت تجري وتنصب، وتشقى وتتعب، بأن تشنق وتصلب، وأنا أجازى بعد تعبي بطيب علفي، ويستعذب مشربي، وأنال من حرثي غاية مطلبي، لاخادم يركب ظهري، ولاظالم يتولى جفري (الجفر من الشيء وسطه)، وسائق ينخس جحري، ولاأحمل ثقيلا، ولاأطلع نقيلا? ولاأرغب في الهواجر إلى الراحة والمقيل. فقال الحمار: وأي شقاء أعظم من جهدك وتجلدك على جر الحلي (النير) والمجر، والسلاسل والمحر، إن قدرت وأطعت وإلا خرموا لك النخر (الأنف)، فأسكت ياثور فقد حاق بك الظفر، وليس لك اليوم عن جدالي مفر. فقال الثور: أما علمت أيها الحمار أنك لن تنجو ولاتفر، ولا تعقل ولاتفيق وتهتدي إلى الطريق، إلا بعد أن تزجر وتشد وتذفر (تدفع). فقال الحمار: عجبا من بلاهتك أيها الثور! أما تحققت أن قصتك أعظم من قصتي؟ وغصتك أطول من غصتي؟ وذلك أنها إذا عرف منك العصيان وتماديت في الطغيان، لقيت الذل والهوان، وضربت بالمجالد والعصيان، واحضروا لك الجزارين بالسكاكين والقبان، فما فخرك وقد صرت إلى هذا الشان؟ فقال له الثور: قاتلك الله، اعتمدت على التلبيس، وركنت على مقالك والتهويس، وأصغيت إلى خداع إبليس، فهل كان لك غيره من جليس، ولكنك على محبته يوم كنتما في السفينة، فدام بينكما الوداد حتى صرت صاحبه وقرينه، فأنت من أهل الحيلة والبهتان، والخديعة والعدوان. فقال الحمار: إنما مثلك أيها الثور في ملازمة الأشغال والبيوت، كمثل الكسل الممقوت، أو كالمرأة المقعدة وهي مضطرة إلى القوت. وأنا مثلي في الترحال، كمثل الرجال الأبطال، الراكضين في أسفارهم في الأودية والجبال.. فقال الثور: تبا لهذرمتك والهذيان، أما علمت أن حب الأوطان من الإيمان، فدليلي هذا من أعظم البرهان.. فقال الحمار: أما تراني أزين بالملبوس كما تزين الخود الحسان بالعقود، وأما أنت فعندك غاية المنى والمقصود، لبس المضامد والجلود، وجميع العوالم علي شهود، وكأنك أنكرت علي تطوقي باللجام، وتتوجي باللسن والزمام، ولي بذلك عليك الفخر عند أهل الأفهام. فقال له الثور: تبا لعقلك من حمار، أتفتخر علي بالجرس ياخبيث؟ أما يكفيك ذمه في الحديث؟ فقد أكثرت علي ياحمار بالمماراة والقمار، فلا تجهل ماحل من خبري لديك، من الشعير المبذول بين يديك، فيجب عليك أن تخضع لي، ويليق بي أن أركب عليك. فعند ذلك اشتد الغضب على الحمار، وزادت به الحماسة، وقال: إنما أنا مركوب صاحب العز والرئاسة، وذوي المجد والفراسة، لست مركوبك ياكبير الخساسة، وياعظيم النجاسة، ولكنك ياكبير القرون، تخاطبني بالشطاحة والجنون. فقال له الثور: أيها الحمار هلا تأملت عواقب الأمور، وأن مآل جثتك للكلاب والنسور، ومآل جثتي إلى الشهادة العظمى في الأعياد والسرور، فترى رائحة اللحم تفوح بالبهارات من بين القدور، وتتعطر بروائح عرفتها المنازل والقصور، ولم يكن في كلامي هذا خلاف على مر الدهور، ومذهب الجمهور. فلما رأى الحمار كلامه يلغى ويرفض، وحجته ترفض وتدحض، قال: دعني ياكبير الرأس من قبل أن تخسف وتركض، فتلزم وتقبض، ثم تحمل إلى السلطان، صاحب الناموس المصان، المسمى بالحصان، فعند ذلك اجتمع الشور، بين الحمار والثور، أن يحضرا مجلس الخليفة، ذي الحضرة الشريفة، والهيئة السامية المنيفة. فلما مثلا بين يديه، وقصا خبرهما عليه، قال لهما: مالكما شطحتما بالافتخار، والتسافه والنفار، وأنتما عندي من عبيدي الآبقين، ألم تعلما أني لاأرتضي الافتخار بالنجاد، وقدمني الرحمن على رؤوس الأشهاد بالصافنات الجياد، وكم من آية في ذكري قسما ومدحا، كقوله تعالى والعاديات صبحا ومن حديث الرسول، في صحيح المنقول حيث يقول: والخير في نواصي الخيل، فهل في هذا إنكار أو حيف أو ميل. لا ومن أنور النهار وأظلم الليل.. ثم التفت إلى من حوله من الوفود، القائمين والقعود، وقال علي بالسلاسل والقيود. فعند ذلك قاما وخضعا وابتهلا، وتذللا، وقالا: أيها الأمير عفوا وصلحا، أفلا توسعنا من فضلك حلما وصفحا؟ فقد لاقينا منك حكما ونصحا. فقام أبو أيوب (الجمل) يمشي على هذا الأسلوب، وقال أشفعني أيها الأمير وهذا سلامي بالأثوار والحمير. فسكن مابهما من الوجل، وخرجا حينئذ في شفاعة الجمل، وبطل القول منهما والعمل، وانقطع الشجار وانفصل، وخاب تدبير كل منهما والأمل، وصار كل ميسر لما خلق له من العمل، واقتضته الحكمة من الأزل.