ذكاء القصار!!

قال المهدي ذات ليلة، وكان أميرا على الري من قبل أبيه المنصور: يا شرقي (1)، أرح قلبي بشيء يلهيه، قال: نعم أصلح الله الأمير: ذكروا أنه كان في ملوك الحيرة ملك(2) له نديمان قد نزلا من قلبه منزلة مكينة، وكانا لا يفارقانه في لهوه ومنامه ويقظته، وكان لا يقطع أمرا دونهما، ولا يصدر إلا عن رأيهما، فغبر بذلك دهرا طويلا. فبينما هو ذات ليلة في شربه ولهوه إذ غلب عليه الشراب، فأزال عقله، فدعا بسيفه وانتضاه، وشد عليهما، فقتلهما، وغلبته عيناه فنام. فلما أصبح سأل عنهما فأخبر بما كان منه، فأكب على الأرض، عاضا لها تأسفا، وجزعا لفراقهما، وامتنع من الطعام والشراب، ثم حلف لا يشرب شرابا يزعج قلبه ما عاش، ووارهما وبنى على قبريهما بناءين، وسماهما الغريين(3) وسن ألا يمر بهما أحد من الملوك فما دونه إلا سجد لهما، وكان إذا ما سن الملك سنة توارثوها وأحيوا ذكراها ولم يميتوها، وجعلوها عليهم حكما واجبا وفرضا لازما، وأوصى بها الآباء وأعقابهم. فغبر الناس بذلك دهرا طويلا، لا يمر أحد من صغير ولا كبير إلا سجد لهما، فصار ذلك سنة لازمة كالشريعة والفريضة، وحكم فيمن أبى أن يسجد لهما بالقتل بعد أن يحكم له بخصلتين يجاب إليهما كائنا ما كان. فمر يوما قصار(4) معه كارة(5) ثياب، وفيها مدقته(6) فقال الموكلون بالغريين للقصار: اسجد: فأبى أن يفعل. فقالوا له: إنك مقتول إن لم تفعل، فأبى، فرفعوه إلى الملك، وأخبروه بقصته، فقال: ما منعك أن تسجد؟ قال: سجدت ولكن كذبوا علي! قال: الباطل ما قلت، فأحتكم في خصلتين، فأنت مجاب إليهما، وإني قاتلك! قال: لا بد من قتلى بقول هؤلاء؟ قال لا بد من ذلك، فإني أحتكم أن أضرب رقبة الملك بمدقتي هذه، قال له الملك: يا جاهل، لو حكمت على أن يجري على من تخلف وراءك ما يعينهم كان أصلح لهم! قال ما أحكم إلا بضربة لرقبة الملك! فقال الملك لوزرائه: ما ترون فيما حكم به هذا الجاهل؟ قالوا: نرى أن هذه سنة، وأنت أعلم بما في نقض السنن من العار والنار وعظم الإثم، وأيضا إنك متى نقضت سنة نقضت أخرى، ثم يكون ذلك لمن بعدك كما كان لك، فتبطل السنن. قال: فارغبوا إلى القصار أن يحكم بما شاء ويعفيني من هذه، فإني أجيبه إلى ما شاء ولو بلغ حكمه شطر ملكي! فرغبوا إليه، فقال: ما أحكم إلا بضربة في عنق الملك! فلما رأى الملك ذلك وما عزم عليه القصار، قعد مقعدا عاما، وأحضر القصار، فأبدى مدقته، وضرب بها عنق الملك، فأوهنه فخر مغشيا عليه، فأقام يشكو ما به منه، فلما أفاق وتكلم، وأكل وشرب، سأل عن القصار، فقيل: إنه محبوس، فأمر بإحضاره فحضر، فقال: لقد بقيت لك خصلة فاحكم بها، فإني قاتلك لا محالة، إقامة للسنة! فقال القصار: فإذا كان لا بد من قتلي فإني أحكم أن أضرب الجانب الآخر من رقبة الملك مرة أخرى! فلما سمع الملك ذلك خر على وجه من الجزع، وقال: ذهبت والله نفسي إذا، ثم قال للقصار: ويلك! دع عنك ما لا ينفعك، فإنه لم ينفعك ما مضى، واحكم بغيره، وأنفذ لك كائنا ما كان، قال: ما أرى حقي إلا ضربة أخرى! فقال الملك لوزرائه: ما ترون؟ قالوا: هذا حقه! قال: ويلكم! إن ضرب الجانب الآخر ما شربت الماء البارد أبدا، لأني أعلم ما قد نالني، قالوا فما عندنا حياة!. فلما رأى ما قد أشرف عليه قال للقصار: أخبرني، ألم أكن قد سمعتك تقول يوم أتى بك الموكلون بالغريين: إنك قد سجدت، وإنهم كذبوا عليك؟ قال: قد كنت قلت ذلك فلم أصدق! قال: فكنت سجدت؟قال: نعم! فوثب من مجلسه، وقبل رأسه، وقال أشهد أنك صادق، وأنهم كذبوا عليك، وقد وليتك موضعهم، وجعلت إليك أمرهم. فضحك المهدي حتى فحص برجليه، وقال: أحسنت! ووصله. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)هو الشرقي بن القطامي: شاعر كلبي، كان وافر الأدب، عالما بالنسب، وكان المنصور قد ضمه إلى المهدي حين خلفه بالري، وأمره أن يأخذه بحفظ أيام العرب، ومكارم الأخلاق، ودراسة الأخبار، وقراءة الشعر. (2)ذكروا أنه النعمان بن المنذر. (3)الغريان: بناءان بالكوفة، قيل سميا بذلك لأن النعمان يغريهما بدم من يقتله. (4)قصر الثوب: كوره ودقه وسمى القصار لأنه يدق الثياب بالقصرة وهي قطعة من الخشب. (5)الكارة: ما يحمل على الظهر من الثياب. (6)المدق: ما يدق به.