لماذا لا يكتب المصحف بالرسم الإملائي الحالي؟!

من المعلوم أن المصحف الشريف لم يكن مجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان متفرقا، فتجد عند هذا جزء وعند الآخر سورة وهكذا، فلما كان عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في جمع المصحف وذلك بسبب كثرة الشهداء من حفظة القرآن من الصحابة في المعارك، واتفقوا على ذلك، وتم نسخه كاملا بعد التثبت التام فيه، وقد تم الاحتفاظ بهذه النسخة عند الخليفة أبي بكر الصديق في المدينة. فلما كان في عهد عثمان رضي الله عنه، وكثرت الفتوحات، كان كل إقليم يقرأ بقراءة من فيه من الصحابة، وبدأ يدب بين المسلمين نوع من الخلاف، وأصبح الناس يتحزبون كل إلى قراءة من أخذ عنه من الصحابة حتى كاد يحصل بينهما قتال، فأدرك ذلك حذيفة بن اليمان فأشار على عثمان، وكان خليفة ذلك الوقت، بأن يجمع الناس على مصحف واحد درءا للفتنة ومنعا للناس من الاختلاف. فأمر عثمان عند ذلك بنسخ المصاحف بحيث تكون برسم واحد، وكلف في ذلك صحابة أجلاء، منهم زيد بن ثابت رضي الله عنه أحد كتاب الوحي وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبعد أن تم نسخ المصاحف بالصورة السابقة، أرسلت إلى الأقطار والأقاليم، وأمر بإحراق كل ما عداها مما يخالفها، سواء أكانت صحفا أو مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية، وليحمل المسلمين على الجادة في كتاب الله من ناحية أخرى، فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوفر في غيرها. وهذه المزايا كما يقول الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (من علماء الأزهر الشريف رحمه الله) هي: 1-الاقتصار على ما ثبت بالتواتر، دون ما كانت روايته آحادا. 2- وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقر في العرضة الأخيرة. 3- ترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبي بكر رضي الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور. 4-كتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل عليها القرآن، على ما مر بك من عدم إعجامها وشكلها، ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد. 5- وتجريدها من كل ما ليس قرآنا كالذي يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحا لمعنى، أو بيانا لناسخ ومنسوخ، أو نحو ذلك، وقد استجاب الصحابة لعثمان، فحرقوا مصاحفهم، واجتمعوا جميعا على المصاحف العثمانية. ولكن كما هو معلوم أن الرسم العثماني يخالف الرسم الإملائي الذي يتعلمه الناس حاليا في المدارس وغيرها، فهل يمكن أن يتم طباعة المصاحف بالرسم الإملائي لتكون سهلة التعلم والقراءة والاستفادة منها أم لا؟ وإذا كان لا يجوز ذلك فما السبب؟ عرض هذا الموضوع على المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وقد تمت دراسة الموضوع من عدة جوانب ثم أصدرت بشأنه هذا القرار: الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على خطاب الشيخ هاشم وهبة عبد العال من جدة الذي ذكر فيه موضوع (تغيير رسم المصحف العثماني إلى الرسم الإملائي)، وبعد مناقشة هذا الموضوع من قبل المجلس، واستعراض قرار هيئة كبار العلماء بالرياض رقم (71) وتاريخ 21-10-1399هـ. الصادر في هذا الشأن، وما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني، وهي: 1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين، ووافقه الصحابة، وتابعهم التابعون، ومن بعدهم إلى عصرنا هذا. وثبت أن النبي ، قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين اقتداء بعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، وعملا بإجماعهم. 2 - أن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر. وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف، أو زيادتها، أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين، ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم، وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر، ومنع أسباب الفتن. 3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلتزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس، كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر. ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح. وبعد اطلاع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على ذلك كله قرر بالإجماع تأييد ما جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني، ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه؛ ليكون حجة خالدة على عدم تسرب أي تغيير، أو تحريف في النص القرآني، واتباعا لما كان عليه الصحابة، وأئمة السلف،رضوان الله عليهم أجمعين. أما الحاجة إلى تعليم القرآن، وتسهيل قراءته على الناشئة التي اعتادت الرسم الإملائي الدارج، فإنها تتحقق عن طريق تلقين المعلمين، إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلم، فهو يتولى تعليم الناشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في المصحف العثماني عن رسمها في قواعد الإملاء الدارجة، ولا سيما إذا لوحظ أن تلك الكلمات عددها قليل، وتكرار ورودها في القرآن كثير، ككلمة (الصلواة) و (السموات) ونحوهما، فمتى تعلم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني سهل عليه قراءتها كلما تكررت في المصحف، كما يجري مثل ذلك تماما في رسم كلمة (هذا) و (ذلك) في قواعد الإملاء الدارجة أيضا. والله ولي التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. نائب رئيس المجمع د. عبد الله عمر نصيف رئيس مجلس المجمع الفقهي سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز