الفصل الثامن عشر من كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء

تأليف الدكتور خالص جلبي لقراءة الفصول السابقة انظر أسفل الصفحة. ?? جدلية الممكن والمستحيل?? ((في مواجهتنا للأشياء نحن حيال ثلاث معادلات: أشياء (يمكن) أن ننفذها، وأشياء (يستحيل) أن نحققها، وبين الممكن والمستحيل هناك (طيف) من الإمكانات، فضمن الممكن هناك أشياء (يسهل) فعلها، وهناك أشياء (يصعب) إنجازها، ولذا يجب أن نسأل أنفسنا دوما هذا السؤال المحوري: هل الأمر الذي يواجهنا (مستحيل) أم (صعب)؟؟ لأنه بناء على تحديد الإجابة يتولد أمر في غاية الأهمية، فــ (المستحيل) يعني أن لا فائدة من بذل الجهد، في حين أن (الصعب) يتطلب بذل الجهد المكافئ، فوحدات من طاقة العمل تذلل الصعوبات حسب حجم الصعوبة، وهي مرتبطة بعامل (الزمن) حتى يتم تحريرها من الاستحالة، فالعملية الجراحية مهما بلغت من سهولة التداخل وصغر الحجم وقصر الوقت تعتبر (مستحيلة) إذا افترض العقل إنجازها في خمس ثوان!! ونقل جبل يصبح في حيز (الممكن) إذا توفرت (الإرادة = الجانب النفسي) و(القدرة = الجانب الفني) مضافا إليهما عنصر (الزمن). المستحيل يعني العبثية في الاتجاه، فكل حركة في هذا الاتجاه هي مضيعة للوقت والجهد وعمل في الحقل غير المفيد، وهذه الفكرة إنارة رائعة للحديث الذي ينهى عن البكاء على الماضي تحت مقولة (لو) (1) والاختلاط يقع بين تداخل هذه الحقول الثلاثة (المستحيل) و(الممكن) بشقيه (السهل) و (الصعب) حيث تصبح عقليتنا ترى الأشياء في (تردد = ذبذبة) بين ذهان (السهولة) وذهان (الاستحالة) وبذلك يختفي مفهوم الصعوبة الذي يعتبر المحرك الأساسي لتحريض آلية بذل الجهد، وهكذا رأى العقل العربي في يوم من الأيام (إسرائيل) دويلة عصابات وشذاذ الآفاق، أما اليوم فهي التنين النووي وشمشون الجبار الاستراتيجي، والأمر ليس بهذا ولا ذاك، وينطبق القانون التاريخي على الجميع، ولن تشذ إسرائيل عن قانون التاريخ، فهي منخس التحدي التاريخي، وترمومتر انهيارنا الحضاري، ومشعر مرضنا وعجزنا، ولذا فهي تمثل كمية (من العمل الصعب المليء بالتحدي والقابل للإنجاز) ، ومن الضروري في المستوى الفردي والاجتماعي تحديد مساحات الممكن والمستحيل والعلاقة الرياضية بينهما، فحين نزهد في (الممكن) ونحلم بــ (المستحيل) نصبح عمليا في إجازة مفتوحة، وحين نتعامل مع الممكن فنستفيد منه؛ فإننا عمليا ومن خلال الجهد نربط بين طرفي معادلة (الممكن - المستحيل) لنقفز من عتبة الممكن _ مع الزمن _ إلى فضاء المستحيل )) . أحجار على رقعة شطرنج كبيرة. هل هذا صحيح؟؟!! وضع الموظف البنكي الكبير ساقا على ساق ثم نفث في وجهي دخان سيكارته؛ ولم يكلف نفسه في الاستئذان كثيرا قبل الهجوم على صحة رئتي وسلامة أوعيتي الدموية، وحدق في الحضور وتابع الحديث: يا جماعة كل ما يحدث لنا يتم وفق تخطيط خارجي ونحن لسنا أكثر من أحجار على رقعة الشطرنج؟!! وباعتبار مهنتي المزدوجة (جراح أوعية) فأنا أصلح الأوعية الدموية في قاعات العمليات، والمجاري الفكرية في جلسات البحث العقلية، وكنت قد فرغت لتوي منذ أيام قليلة من تصليح شرايين مدخن عمره 38 سنة كان يجر قدمه بسبب فقر التروية الدموية (ISCHAEMIA) في ساقه اليسرى، ولأنني أصبت بالصداع في جو الدخان، فقمت بتداخلين لإصلاح الوسط: ضباب الدخان لإنقاذ رئتي وأوعيتي من هجوم النيكوتين، عن طريق المدخنة المسلطة فوق رؤوسنا، وضباب الأفكار السلبية المعيقة للتنفس العقلي الصحيح!! الأمثال الشعبية: من خلال خبرتي الميدانية لفت نظري موضوع (الأمثال الشعبية) وعلاقتها بالثقافة السائدة، ولاحظت أن هناك تيارا من الأمثلة يشكل عقلية إنسان المنطقة، ومن الغريب تكرر المثل مع تباين اللهجات المحلية، وهكذا نسمع (موطالع بإيدنا شي)? (عين ما تقاوم مخرز) و(ياللي اخد أمنا بنسميه عمنا) و (الايد اللي ما تقدر تعضها بوسها وادعي عليها بالكسر) و(من حيط لحيط وربي سترك) و(مادخلنا) و(فخار يكسر بعضو)؟؟!!! ........ ومازلت أتذكر حادثة جرت لي في مدينة الدمام عندما كنت عند بياع (الشاورما) عندما سمعنا ضجة كبيرة فصاح البياع (ما دخلنا = أي لا دخل لنا فيما يجري؟؟!!) ثم أردف (فخار يكسر بعضو = أي فليكن مثل جرات الفخار التي يكسر بعضها بعضا طالما أنا في الحفظ والصون؟؟!!) من القصة السابقة والأمثلة الشعبية التي أوردت يمكن أخذ (عينات) ثقافية للتحليل المخبري العقلي البارد، فكما أن المريض يأتي إلى المخبر فتؤخذ عينة من دمه للتحليل فيكشف من هذه العينة البسيطة أشياء لا تنتهي عن وضع بدنه وأجهزته البيولوجية المعقدة، من مثل فقر الدم وارتفاع الكولسترول وقصور الكبد وفشل الكلية والتهاب المعثكلة واضطراب الشوارد المعدنية، كذلك الحال في (العينات الثقافية)، فصاحب (الشاورما) عندما صرخ مع صوت الاصطدام (ما دخلنا) كان في الواقع يعبر عن ثقافة سائدة وعقلية مسيطرة ومفاهيم لها اليد العليا في المجتمع، فكلمته هذه تمثل ثقافة الانسحاب والارتداد والانكفاء على الذات وتوقف روح (المبادرة الفردية) هو يريد أن لا يسمع شيئا غير إطار عمله اليومي، كون العالم الخارجي لا يحمل إلا الشر والأذية والرض (TRAUMA) هو لا يرغب أن يكون شاهدا على واقعة، فهو قد خسر وظيفة (الشهادة) التي تكلم عنها القرآن منذ زمن بعيد، هو لا يحب من قريب أو بعيد رؤية (البوليس = الشرطة) فيعينهم على كشف جريمة، هو غير مستعد لإسعاف إنسان مصاب طالما أنها لا تخصه، فهو مؤشر فاضح لتفكك الشبكة الاجتماعية. فهذه الثقافة السلبية في مجتمعنا يمكن الكشف عنها بمثل هذه العينات من (الأمثال الشعبية). وبالمقابل مازلت أتذكر برنامجا كان يبث في ألمانيا بعنوان (XY ) حيث كان يعرض للجرائم فيعرضها ويعيد تركيبها (RECONSTRUCTION) ثم يتم مخاطبة الجمهور في كل من ألمانيا وسويسرا والنمسا وليشتنشتاين (المناطق الناطقة بالألمانية) للإفادة بأية معلومات هامة حول الواقعة ، وكان يتم بواسطة (المبادرات الفردية) الكشف عن الكثير من الجرائم المروعة، فالفرد هناك يفتح عينيه على كل ما يحدث ويشارك بدون خوف، ومعه كل حس الدفاع عن المجتمع الذي ينتمي إليه. وعندما نرجع لتحليل مقولة الرجل آنف الذكر لفهم الآليات الخفية خلف حدوث الواقعات يبرز أمامنا السؤال المفصلي: هل حقا أننا لا نملك من أمرنا شيئا، أي أننا أمام ذهان (الاستحالة) أم أن هناك هامش يمكن أن نتحرك به؟ وما هو مقداره؟ وأين هو حقله؟ إذا من الواجب أن نتأمل قطاع (الممكن) الذي يمكن أن نحدث فيه شيئا بـــ (جهدنا). الممكن والمستحيل في الواقع الأرضي: لنطرح الأسئلة البسيطة التالية: هل هناك قوة في الأرض تمنع الإنسان أن يحرص أن يأتي لموعده على وجه الدقة؟ هل هو في حكم الاستحالة أن يلبس الإنسان ثوبا نظيفا أو أن تكون رائحته طيبة وشعره مسرحا؟ هل هناك من يمنع أن يحترم الإنسان زوجته، ويثقف ابنه، ويبتسم في وجه جاره، ويقرأ كل يوم نصف ساعة بحثا مجديا؟؟ هل هناك من يحول بين المرء وأن ينظف أمام بيته وأن لا يلقي زجاجات الببسي في الطرقات؟ هل هناك صعوبة بالغة أن يوطن الإنسان نفسه أربعا وعشرين ساعة أن لا يذكر أحدا إلا بخير؟؟ هل من يمنع أن يتسامح الإنسان مع الآخرين وأن يعذرهم وأن لا يسرع في تكفيرهم ولعنهم عندما يختلف معهم؟ هل في إمكان الإنسان أن يدرب نفسه على أن لا يفعل أمرا يخالف القواعد الأخلاقية ولو أمر بذلك؟ هل بإمكان الفرد أن يتخلص من التحول إلى (شيء) في صورة بوق أو مسدس؟ هذه الأسئلة البسيطة وأمثالها تعطينا الانطباع أن مساحة الممكن هي العظمى في الحياة، وأن بإمكان المرء أن يفعل أشياء كثيرة جدا. إن أعظم إحباط يصاب به الإنسان عندما يضع لنفسه هدفا لا يستطيع الوصول إليه!! وأفظع منه أن يعيش بقية عمره على هذا الحلم؟ وأشد تدميرا منه عندما ينتظر الصدف أن تولد هذا الواقع الذي يحلم به!! فكلها سلسلة من الأخطاء الرهيبة التي تلغي آلية الجهد. يحمل الإنسان جدلا رهيبا، فهو لاشيء إذا قورن باللانهاية (كما هو معلوم في الرياضيات أن نسبة الرقم إلى اللانهاية تساوي الصفر) وهو كل شيء إذا قيس بالعدم، فهو يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية. بين الممكن والمستحيل، فهو لا يستطيع خلق نفسه ولا خلق أولاده ( لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) (2) ولذلك سحب الله إمكانية الخلق منا ولو كانت ذبابا تافها ((إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له)) (3) العلاقة الرياضية بين الممكن والمستحيل: نحن نرى في اللحظة الواحدة السهل والصعب والمستحيل في الشيء الواحد في ثلاث حالات، وفي الأشياء الثلاثة في الحالة الواحدة، فمن الممكن (حمل) الصحن، ولكن يصعب حمل الطاولة الكبيرة، ويستحيل حمل البيت، كما أننا نستطيع أن نحمل الصحن، ولكن يصعب تحويله إلى قدح، ولكن يستحيل قلبه إلى أرنب. نحن لا نستطيع تغيير عقول كل الناس، ولكن نستطيع عدم إضاعة الوقت في (الشدة والطرنيب) والالتفات إلى تثقيف أنفسنا. نحن لا نستطيع تغيير قوانين المرور، ولكن بإمكاننا أن لا نخالف إشارة المرور، حتى لو كنا وقت صلاة الجمعة والشارع فارغا، وإذا دخل في روعنا هذا وجب أن ندخل عنصرا آخر هو عدم الاستخفاف بأي إنجاز (ممكن) مهما كان زهيدا وصغيرا، فالكل يفكر بالأشياء الكبيرة وينسى الأشياء الصغيرة التي هي مكونات الأشياء الكبيرة وعناصرها الأولى ولبناتها الأساسية، فأكبر الأرقام هو تجمع رقم الواحد فوق بعضه البعض مهما بلغت ضخامة الرقم، والإنجازات العظيمة هي محصلة تراكمية للإنجازات التافهة الصغيرة، والجبل تجمع هائل للحصى الصغيرة وحبات الرمل التافهة، والهرم تركيب ملايين الأحجار الصغيرة (الممكنة الحمل) (4) والإنسان هو محصلة تراكمية بطيئة للجهد الواعي المتشكلة عبر وحدات الزمن، وفي معركة بدر التي سماها القرآن فرقانا كانت (إظهارا) لإمكانيات تشكلت فيما سبق، وليست إنجازا برز فجأة إلى السطح، والمجتمع كم هائل من الأفراد منظمين ضمن شبكة علاقات، وتغيير الأفراد التدريجي سيقود في النهاية إلى تغيير المجتمع، ولا يتطلب ذلك تغيير كل الأفراد فليس مطلوبا ولا ممكنا، بل تغيير الكم الحدي (أو الكتلة الحرجة) وعند الوصول إلى تغيير الكتلة الحرجة يبدأ التيار الاجتماعي في التشكل وعلى العكس فإن (شذوذ) فرد منه بتصرفات وأفكار يعرضه لقانون (الدجاجة المجروحة في القن) حيث روى لي صديقي الدكتور الصناديقي عن ملاحظة أمه التي تربي الدجاج، أن الدجاجة إذا جرحت عمدت بقية الدجاجات إلى نقرها في مكان الجرح حتى الموت، ولذا تعمد أمه _ على ما روى _ إلى عزل الدجاجة المجروحة فورا، وهذا يفسر لنا بعض الوقائع التاريخية البشرية فــ (جرح) ابن تيمية في (القن البشري) في الفتاوى التي (تميز) بها في عصره في الطلاق وشد الرحال (5) عرضه للنقر الاجتماعي حتى الموت، فرمي في سجن القلعة حتى فاضت روحه خلف القضبان. كما يفسر لنا الانسحاب الذي يقوم به الأنبياء في مرحلة من دعوتهم (واعتزلكم وما تدعون من دون الله) وهو ما أشار إليه المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ) عن قانون الاعتزال والعودة. جدلية الممكن وتطوره: عند وضع اليد على المفتاح السحري: (أن بإمكاننا أن ننجز شيئا) تتولد سلسلة من الأمور الإيجابية: الأمر الأول: (النجاح يقود إلى النجاح) فالنجاح يولد الشعور بالثقة بالنفس، عندما يحس الفرد أن بإمكانه أن يفعل شيئا. والعكس بالعكس، فالفشل يخلق الإحباط والخوف من المحاولة الجديدة، ما لم يزود بميكانيزم نفسي مرافق، وهو أن المشكلة ليست في (المشكلة) بل في موقفنا منها، فأي استعصاء في حل المشاكل يرجع بالدرجة الأولى إلى عجزنا أكثر من تعقيدها الذاتي، والمشاكل تنبع من (مواقفنا) غير السليمة منها، فنحن مستعدون إلى لعن كل شيء واتهام كل أحد، وغير مستعدين لمراجعة أنفسنا لحظة واحدة، وهذا ميكانيزم خبيث للغاية (MALIGNANT) لأنه يقود إلى تعطيل الجهد البشري وتدخله في إصلاح الخلل، طالما كانت التهمة للآخر جاهزة، وعدم الالتفات إلى إدخال الذات في معادلة التصليح، ولذا وجب تدريب أنفسنا على قانون نفسي قاس هو (عدم لوم أحد) في مواجهة أية مشكلة، ليس لعدم وجود طرف آخر في المشكلة، فالنزاع الإنساني في العادة مزدوج الطرفين، ولكنه التدريب على العمل في الحقل المفيد، فأفكارنا تحت سيطرتنا، أما اتهام الآخرين فهو _ بشكل غير مباشر _ دعوة إلى إراحة الذات من التفعيل والمراجعة وتعب إدخال التصحيح، فهو تعطيل (قانون الجهد)، بل إن (تغيير نفوسنا) هو طرف (الرافعة) الميكانيكية النفسية الاجتماعية، كما هو عند الأطفال عندما يجلسون في الحديقة على طرفي الرافعة، فإذا أمكن التأثير فهو من الطرف الذي يستقر عليه ثقلنا، وهكذا فالساحة النفسية عندنا هي حقل تأثيرنا، أما الآخر فنحن غير مسؤولين عما يعمل الآخرون (ولا نسأل عما تعملون) ، والمسؤولية فردية (ولاتزر وازرة وزر أخرى) (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) الأمر الثاني: ( النجاح يعطي قدرة تمكن أعلى) فبعد انتهاء العملية الناجحة فإنه يخرج منها بغير حصيلة الخبرة قبلها بل زيادة الخبرة الجديدة، وكل ضربة لا تكسر الظهر تقوي أكثر كما يقول المثل. الأمر الثالث: (ينعكس النجاح على النفس فيعطي السعادة) في حين أن الفشل يدخل الإنسان في دوامة الحزن، ويجب أن يتخلص منه بالنجاح، وفي الواقع يجب أن نرى الديناميات النفسية في (حقل) متحرك (ديناميكي) وليس وسط جامد (استاتيكي) كما هو في علم الميكانيك، وهذا نعرفه من يومياتنا العادية، فعندما يتعرض الإنسان لخطر ما فإنه يصاب بالخوف الذي يدفعه إلى شعور وحركة، شعور بالكراهية لمصدر الخطر، وحركة بالهرب من الخطر المحدق، أما النجاح فيعطي شعورين مترادفين، الأول: الثقة بالنفس التي قد تنتفخ إن لم تلجم فتصل إلى الغرور، فتتدخل الطبيعة لتفرمل الغرور حيث يصاب صاحبها بالخطأ فالنكس فالارتداد للموقع الأول، والثاني: السعادة الغامرة التي تنعكس على البيولوجيا إيجابيا. وهذا نراه في مضاداتها أيضا، فالغضب يقود إلى جفاف الفم وانحباس البول والإمساك وخفقان القلب وارتفاع التوتر وزيادة الحركات التنفسية، والحزن يولد الوهط والكسل والتوقف عن النشاط والكآبة والميل للعزلة والانسحاب، ومع الكآبة يشعر الإنسان كأن السموم تتدفق في كل خلية من جسمه، وأنا أعرف من الأطباء الذين بقوا تحت ضغط نفسي لفترة طويلة من أصيب بارتفاع في التوتر وانسداد شرايين القلب على عمر مبكر، والسبب تلك العلاقة الخفية التي لم نفهمها ولم يماط اللثام عنها حتى الآن كيف تؤثر الحالة النفسية على البيولوجيا، فوالد يوسف (عليهما السلام) ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، كما ارتد إليه بصره مع بشارة العثور على يوسف (ألقاه على وجهه فارتد بصيرا). الأمر الرابع: قانون (التراكم الكمي يقود إلى التغير النوعي): هناك علاقة بين الكم والنوع انتبه لها العلامة ابن خلدون في المقدمة، وهو أمر ملاحظ في الطبيعة، فرفع درجة حرارة الماء إذا زادت بشكل تراكمي قادت في النهاية إلى تغير نوعي في طبيعة الماء، عندما تصل درجة الحرارة إلى درجة الغليان، فهو يتبخر ويطير في الهواء، كما أن انخفاض درجة حرارته إلى الصفر تقود إلى تجمده وزيادة حجمه (خلافا لكل العناصر التي ينكمش حجمها مع البرودة) وهذا يعني أن التراكمات (الممكنة) ستقود في النهاية إلى شق الطريق لكسر المسلمات والحتميات، فالكثير منها نحن الذين نصنعها ونمنحها الحتمية فتتحول هذه الأفكار مع الوقت إلى (أصنام)، ومشركو قريش رفضوا الإسلام تحت ضغط أمثال هذه الأفكار، وهكذا تم كسر الكثير من المسلمات عبر التاريخ، في النظام الفلكي، وتحطيم الذرة، وقلب المعادن الخسيسة إلى ذهب ( بواسطة إضافة البروتونات والنترونات، فالذهب يتحول إلى زئبق بإضافة بروتون واحد أو بالعكس فيتحول الزئبق ذهبا بسحب بروتون واحد منه، ذلك أن قلب نواة الذهب تحوي 79 بروتون والزئبق 80) وإيقاف القلب وإعادة تشغيله، وانتقال الصوت والصورة بسرعة الضوء. الأمر الخامس: إن أخطر مرض عقلي يهدد التقدم الإنساني هو عقدة الآبائية (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) أي التقليد، فبقدر ما يجعلنا المجتمع بشرا (من خلال العادات واللغة وسواهما) بقدر ما يشكل الطوق الاجتماعي خطرا يغتال العقل الإنساني، وهذا هو السر في بطء نمو مجتمعات وتطور أخرى، والمجتمع الياباني ما استطاع الطيران للعصر لو لم يتحرر من العادات العقلية المفرملة، وأول قفزة له كانت باتجاه الاستفادة من إضافات المعرفة الإنسانية الجديدة ( ثورة الميجي- العهد الإمبراطوري لعام 1868 م) (6) وكان إدراك اليابان حادا في أهمية الخلاص من الحذاء الصيني الحديدي (العقلي) ( في الصين جرت العادة آنذاك وضع قدم الطفلة الصغيرة في حذاء حديدي لا يغير حتى تكبر الفتاة وهي تحافظ على أقدام صغيرة ؟!!) تجربة نفسية محرجة من أجل تعرية هذه الآليات النفسية قمت بتجربة قاسية فسألت الموظف: لو أعطيت مسدسا، ووضع على صدغك مسدس ، ثم طلب منك قتل هذا الذي أنت في ضيافته، وهو من أعز أصدقاءك، ما كنت فاعلا؟؟ فإذا لم تضغط الزناد قتلت أنت!! ..... فوجئ صاحبي بالسؤال فتردد بعض الشي ثم اعترف بأنه سيقتل!! .... إلا أنه اكتشف نفسه ويداه ملوثتان بالدم، وقد تحول إلى (مجرم) ... عندها تدفق من فمه سيل من المبررات ليس آخرها أن الله سيغفر له لأنه ( مكره ). هنا تعرت الآليات النفسية تماما وأدركنا في جو الحوار الذي لا يخلو من توتر أمام كشف (آركيولوجي) نفيس كهذا، في حفريات تضاعيف النفس، أن هذا الصنف من الناس ليس بالقليل ولا النادر، إن لم يكن هذا هو تصرف معظم الناس، في مثل هذه المواقف الصعبة، يشفع لها المناطق المظلمة من النفس الإنسانية التي لم تشكلها الثقافة الجديدة بعد. إن هذا المثل فظيع ولاشك ولكن هل يدخل في إطار (الممكن) أو (المستحيل)؟؟؟!!! . هوامش ومراجع: (1)جاء في الحديث الصحيح النهي عن (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن ليقل أحدكم قدر الله وما شاء فعل) لأن التمني على تغيير الماضي يعتبر في حكم (المستحيل) ولذا وجهنا الحديث للعمل في الحقل المفيد أي حقل (الممكن) (2) الفرقان الآية رقم 3 (3) الحج 73 (4) صحح ابن خلدون في مقدمته معلومة هامة عن بناء الأهرامات حين ضل بعض الناس فظنوا أنها بنيت بيد بشر عمالقة، وقال إنها بنيت بيد بشر مثلنا تماما ولكن الذي مكنهم من ذلك هو استخدامهم لتقنيات هندسية متطورة في عصرهم في الرفع والبناء (5) كلفت فتوى الطلاق ابن تيمية غاليا فهو الذي رأى أن الطلاق الثلاث في وقت واحد يبقى واحدا، كما اعتبر الحلف بالطلاق يبقى في إطار الحلف وكفارته صوم ثلاثة أيام ولا يقع طلاقا، كذلك واستنادا إلى الحديث أن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاثة مساجد ونحن نستغرب اليوم كيف ألقي في السجن من أجل هذه الآراء ليموت فيه، بل تمت المطالبة بإهدار دمه؟!! وهذا يشي بتناقضات الصراع الإنساني وأنها قابلة للتكرار بنفس الصورة في أوقات شتى يراجع في هذا كتاب (ابن تيميه) لــ (هنري لاوست) كتاب (آراء ابن تيميه في الاجتماع والسياسة) وكتاب (ابن تيميه/) سلسلة أعلام العرب بقلم محمد يوسف موسى (6) جاء في كتاب الشرق الأقصى - فوزي درويش - ص 60 النص الكامل للعهد الإمبراطوري الذي دشن عام 1868 م وهو مكون من خمس فقرات تقول الفقرة الخامسة (سوف يجري العمل على جمع المعارف من شتى أنحاء العالم وعلى هذا النحو سوف تترسخ الإمبراطورية على أسس متينة). ??? موعد نشر الفصل التاسع عشر سيكون يوم الاثنين 8 شعبان 1423هـ الموافق 14 أكتوبر 2002