الفصل السابع عشر من كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء

الفصل السابع عشر من كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء تأليف الدكتور خالص جلبي لقراءة الفصول السابقة انظر أسفل الصفحة. ?? بعد تجربتي المريرة مع البعوض بدأت احترم?? الذباب، فالذبابة كائن راق يحترم قوانين النوم، فهو ينام مع الظلام ويلحس الجلد في النهار ويطير برشاقة!! أما البعوض فيسهر في الليل، ويحفر الجلد، ويشفط الدم بشراهة جائع في وقت مجاعة، فهو مع هجمة الظلام يستنفر نفسه مثل (الكوماندو) الليلي، وفي اللحظة التي يرتخي فيها بدنك، ويداعب الكرى جفنيك، يبدأ الخبيث بمحاولات الاستطلاع (ربما بواسطة الأشعة تحت الحمراء) فيطن بجانب الأذنين، ثم يسكت، وتظن أن اللعين اختفى، ولكن الهدوء يدوم في حدود عشر دقائق، لأنه يكون قد قام بتركيب (الحفارات) ونصب المنجنيق، وقام بالهجوم السري في جنح الظلام وربما بحقن مادة مخدرة في مكان الثقب، حيث يقذف ببصاقه فيرشف الدم بدون أن يتجلط، ويحرك نوبة مريعة من حك الجلد، الذي يصل إلى درجة أن يجرح الإنسان نفسه إطفاء لشراهية الحك، لذا اعتمدت استراتيجية جذرية مع البعوض في غرفة النوم وهي بقاء أحدنا فقط على قيد الحياة؟! ومحاولة قتله وهو متربص على السقف استعدادا للهجوم ليست بدون مخاطر، فزميلي الدكتور (عماد) كسرت ذراعه في حملة مطاردة لبعوضة؟! التمعت الآية القرآنية التي تتكلم عن (البعوضة) أمام نظري على شكل آخر (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)(1) فاعتبرت الآية أن هذا الكائن موضع للتأمل من جهة، وأنها في أسفل السلم فينطلق المثل منها لفوق، وقلت حقا إنها _ بالنسبة لنا _ من أحقر ما خلق الله، في صفتين عجيبتين بدون حدود: ضعف بدون حدود وإزعاج بدون حدود!! فهي في منتهى الهشاشة وهي بنفس الوقت وحش مفترس يلعق الدم. والقرآن حينما يزج بمجموعة ضخمة من الأمثلة، في محاولة منه لتحريك العقل باتجاه اكتشاف(الطبيعة والتاريخ) فهو يستخدم البعوضة والذبابة، النمل والنحل،العنكبوت والهدهد، البقرة والفيل، فنحن نكتشف في هذا المهرجان الكوني دلائل الخلق التي لا تنتهي. ولكن أين تقف (البعوضة) في سلم الخلق؟؟ هناك جدلية عجيبة في الوجود اكتشفها العلم الجديد، فالفكر الإنساني السابق افترض وجود ساحة للمعلوم وساحة للمجهول، بحيث تنكمش ساحة المجهول مع كل زحف لساحة المعلوم، إلا أن العلم الحديث أدرك أن ازدياد ساحة المعلوم لا يعني انكماش وتقلص المجهول، بل على العكس فإنه يفضي إلى المزيد من اتساع رقعة المجهول، وهي فكرة تبدو للوهلة الأولى متناقضة وغريبة، وسنشرحها في ثلاث مستويات الفزيولوجيا وعلم الذرة الحديث والبيولوجيا. ففي علم الفزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) أميط اللثام عن آلية تخثر الدم وفرك العلماء أيديهم من الفرح أنهم اكتشفوا آليات بسيطة محدودة مؤثرة في تخثر الدم، من مثل الصفيحات والفيبرين والكلس والفيتامين (ك) والبروثرومبين، ولكن فرحتهم مع الوقت لم تدم طويلا، وبدأ الصداع يصيب رؤوسهم، فهم كل يوم أمام اكتشاف عنصر جديد (بلغت لا يقل عن اثني عشر عنصرا)، والأدهى أن كل عنصر يدخل ضمن (مجموعة تركيبية) كل عنصر يأخذ مكانه في اللعبة ويؤثر بدوره فيما عداه من عناصر. وأن الجميع يخضع لآلية مدهشة وترابط متضافر ضمن شبكة محكمة، من عناصر تكاد لا تكف عن الكشف عن وجهها بين الحين والآخر، ليس الــ (EDRF) آخرها (العنصر المرخي والمرمم للشريان حين تعرضه للإصابة). وفي مستوى الذرة بعثت فكرة ( ديموقريطس ) من مرقدها (2) في بناء الكون من وحدات أولية هي (الذرات) وتأكد هذا بالانفجار النووي، ولكن الاتجاه في الوقت الراهن أن الذرة هي ليست المحطة النهائية، ولا يمكن الجزم بشكل نهائي إلى أين ستنتهي الرحلة، هل ستقف عند ( الليبتونات ) و ( الكواركز ) (3) أم ستنزل إلى ما لانهاية. إن هذه الجدلية العجيبة جعلت الفيلسوف الفرنسي (باسكال) يرتاع لوجود الإنسان بين لانهائي يغمره وعدم ينتهي إليه، فالإنسان إذا قيس إلى العدم هو كل شيء، وهو لاشيء إذا قيس باللانهاية، فهو يجمع أعظم تناقض في ذاته بين العدم واللانهاية، بين العدم الذي جاء منه واللانهاية التي تغلف الوجود. وتنطبق هذه الجدلية على البيولوجيا، فالبعوضة حشرة تافهة (بميزاننا) وصغيرة بعيننا المجردة، ولكنها كائن ضخم للغاية مع مقدار التكبير المستخدم، بين المكبر العادي بعشرات المرات، والمجهر العادي بآلاف المرات، والمجهر الإلكتروني بعشرات الآلاف من المرات، ومع المجهر الإلكتروني يمكن فتح أبصارنا على العالم (الأصغر) السفلي تماما، كما يمكن كشف اللثام عن عيوننا بالتلسكوب لرؤية العالم (الأكبر) فبين المجهر والتلسكوب نشق الطريق إلى العالمين من فوقنا وتحتنا، بل إننا نطمح مع الوقت وبواسطة المجهر (البروتوني) أن نرى الذرة عيانا في يوم من الأيام، بعد أن نحقق تكبيرا يصل إلى المليون مرة . وفي قاع سلم الأحياء الدقيقة نرى (الفيروس - الحمة الراشحة) على شكل قبائل شتى وشعوب متباينة، وبأعداد رهيبة نتعرف على وجوه جديدة منها كل يوم، والفيروس هو دون الخلية العادية حجما بما لا يقارن، كما أنه لا يعتبر (خلية) بسبب فقدانه للنواة المركزية، ولكنه يحمل قدرا من شحنة الأحماض النووية في داخله (4) والسحر في الفيروس هو ذلك الانقلاب المزدوج بين الحياة والموت، فالفيروس هو الجسر الذي يربط بين الحياة والموت، فهو في لحظة يخرج من الحياة ليدخل الموت، وهو في لحظة ثانية ينبثق من الموت إلى الحياة، فهو يجمع بين صفة المادة الموات فيتبلور مثل السكر والملح، والحياة فيتكاثر ويتحرك، يؤذي ويدمر ويسبب الأمراض، وأشار القرآن إلى هذه الظاهرة في الوجود (وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) (5) . وتعيش الفيروسات في حالة تكيف وتطابق مدهش مع البيئة المحيطة بها، ولكنها وبفعل اختلال التوازن تنطلق أحيانا في هجمات هادرة مرعبة فتقضي على الملايين كما حدث في الأنفلونزا الأسبانية عام 1918 ميلادي . وقصة فيروس (ألا يبولا) الموجودة بين أيدينا اليوم نموذج من هذا السيناريو المرعب. الانفجار المرعب في قاعة العمليات: عندما دخلت المريضة الشابة قسم الإسعاف في المستشفى لم يكن أحد يعلم أنها تحمل قنبلة بيولوجية، وتقدم (الجراح) المناوب ليفحص المريضة، إنها تغلي من الحرارة، وتشكو من ألم حاد في البطن، ولكن طبيعة الإقياءات والإسهالات كانت مريبة فهي مختلطة بالدم، إلا أن الجراح اعتبر أن الحالة هي (حالة بطن حادة ACUTE ABDOMEN ) واتخذ قرارا كلفه حياته فيما بعد. عندما تم شق البطن بالمشرط الحاد فوجئ الجراح ببطن غير عادي، ولكنه لا يفسر له كل هذه الآلام الحادة، ولا ندري إذا مشى على طريقة الجراحين التقليدية فاستأصل الزائدة الدودية أم لا ؟ ماتت المريضة بعد عدة أيام من العملية في ظل انسمام دموي غير معهود، وبآلام مبرحة ونزوف معممة من كل مكان، وبعد موت المريضة بعدة أيام ابتدأ الطبيب الجراح يهذي من الحمى، ويدخل في حالة غيبوبة، ويشكو بدوره من آلام ممضة في البطن وانتفاخ في الأطراف، وسقط في الفراش وهو ينزف من كل مكان. مات الجراح بعد ذلك ولحقه (طاقم العمليات) المكون من ثلاثة أشخاص إلى القبر، وأما ممرضات الجناح الأربعة اللواتي كن يعنين بالمرضى فبدأن يتساقطن مثل ورق الخريف باتجاه الموت على هذه الصورة المفزعة. وتتابع مسلسل الأموات. عند ذلك شعر المرضى في المستشفى أنه مسكون بأشباح الجن التي هجمت من الغابات، ففروا على وجههم هائمين تاركين المشفى يصفر فيه الهواء، ويتخلله الموت، وترتمي فيه الجثث، وتعيث فيه الفيروسات الدموية. كان هذا في مطلع شهر نيسان - أبريل 1995م أي قبل شهرين من تاريخ هذه المعلومات في مستشفى مدينة (كيكويت - KIKWIT) في زائير الدولة الأفريقية، وعندما بدأ منجل الموت يحصد العشرات أدرك الجميع أنهم أمام وحش مرعب انطلق من الغابة. بداية سيناريو الرعب: في صيف عام 1976 م أرسل طبيب من جنوب السودان (مدينة الناصر) إلى معهد الأمراض الاستوائية في هامبورغ يروي واقعة مفادها انتشار حالات غريبة من الحمى المجنونة المترافقة بالغيبوبة والنزف، وأكد الطبيب في تقريره أن الحالات هي قطعا (حالات متقدمة) من التيفويد، مع هذا تبقى الحالات (ظريفة) للاطلاع، والأطباء لهم (صرعتهم !!) فهم يصفون الحالات المرعبة أنها ظريفة، والأورام المتقدمة أنها مثيرة، والحالات المستعصية جميلة، والعمليات المختلطة أنها تدعو إلى حك اليدين للعمل الجراحي!! يقول الدكتور كنوب لوخ (KNOBLOCH) إن التقرير أثاره وقام بزيارة مستشفى (المريدي) في المنطقة، ولكن مارآه كان مفزعا مروعا من بشر يتساقطون إلى الموت كالذباب في ظروف ألم ومعاناة مخيفة (مرضى يتقيأون كل شيء حتى أحشاءهم، تتسلخ أغشيتهم المخاطية تحت آلام لا تطاق، أما اللسان وقبة الحنك فكانت تتساقط متفتتة. كان المرض ينخر فيهم بالكامل من الدماغ حتى الأعضاء التناسلية ... كانوا ينزفون من كل مكان من الأنف والفم والعين والجلد، كان رشح الدم ينصب في كل الأجواف الداخلية من تامور وجنب وبيريتوان (أكياس القلب والرئة والأمعاء بالتتالي) لقد أدركت على الفور أنني أمام تظاهرة مرضية جديدة تماما، علينا أن نتحرى المسبب الإمراضي فيها (6) وبفحص (الخزعة) المأخوذة من كبد الأموات بعد تشريح الجثث (مات 124 فردا من أصل 200 إصابة) تم رؤية فيروس الرعب الجديد هذا. شخصية فيروس الأيبولا (دراكولا - مصاص الدم): كان (فيروسا) يلتوي على نفسه في أعداد لا تنتهي مثل الديدان أو العرى أو الأفاعي، باطنه شحنة من الأحماض النووية تبلغ ضعف ما هي في فيروس الإيدز سيئ الذكر الذي لم يطوق حتى الآن بعلاج أو لقاح، ومعطفه الخارجي طبقة شحم وتبرز من أطرافه نتوءات تشبه أقدام الزاحفة (أم أربع وأربعين). عرف عنه أن فيروس الإيدز أمامه مثل ما ذكرنا في أول المقالة عن الفرق بين البعوضة والذبابة، ففيروس الإيدز أمامه رحمة!! فيروس الإيدز يمشي كلصوص الليل المتسللين، ولا يعلن عن هويته مثل المنافقين، ويضرب ضربته في الظهر بعد حين مثل كل الغادرين. أما فيروس (الأيبولا) الذي أخذ اسمه من نهر في زائير حيث زمجر المرض وكشر عن أنيابه، فهو يضرب بسرعة ووضوح وبمنتهى القسوة وبشكل دموي، فحضانته لا تحتاج كما في الإيدز إلى سنوات بل هي بين 2 - 21 يوما، وإذا بدأت مظاهر الحمى والألم فيبقى دور الطبيب دور الشاهد، الذي يرى فصول الموت الأخيرة لا أكثر، وكما انتشر فيروس (الإيدز) سابقا بواسطة الدم وأخلاط البدن والعلاقة الجنسية المشبوهة فإن فيروس ( الأيبولا ) يعيد نفس السيرة السابقة. فيروس الإيدز يستخدم استراتيجية التغيير في التركيب الكيماوي الحيوي، حيث يقتحم تركيب الحامض النووي فيصبح قطعة منه، أما استراتيجية فيرس الأيبولا فهي أدهى وأمر، حيث يعمد إلى العنف في التركيب الجزيئي بمعنى أنه يعرف لغة واحدة فقط هي: التكاثر والتكاثر والتكاثر ... فيروس الإيدز يسطو على أنواع من الكريات البيضاء في الجهاز المناعي، أما هذا فيستخدم أي خلية مطية لهدفه المدمر، فباعه في الحيل أوسع وأمكر، إنه يتودد إلى دوريات الحراسة من الخلايا المهتمة بتصيد الأجسام الغريبة (المعروفة بالبالعات MACROPHAGES) فتنخدع به فيمتطيها، فإذا أصبح في داخلها ضرب ضربته فنسف البناء من داخله، فتسرب إلى كل الأجهزة النبيلة والأعضاء الحساسة، وبذلك تحترق خلايا الكبد، وتدمر مصافي تكرير بترول الجسم (الكليتان) ويعطب الطحال، وينسف الكظر، وتدمر الطبقة الباطنة للأوعية الدموية فينهار جهاز لزوجة الدم بالكامل، فحيث يسبح الدم بنعومة بين التميع والتخثر، وينساب كأنه اللحن العذب يضخ الحياة في طرقات مملكة البدن التي تبلغ مائة ألف كيلومتر، يحدث الانقسام والنزاع في هذه المملكة اللطيفة، فيتحول كل قسم من الدم إلى حزب، جزء متطرف يتكتل على نفسه فيكون الخثرات مثل القطران الأسود، وجزء كسل رخو مهمل يفقد كل قابلية للتماسك، فيتسرب الدم من كل مكان شيعا وأحزابا وكل حزب بما لديهم فرحون؟؟!! هذه الظاهرة هي التي يخشاها كل الأطباء ويرجفوا منها، ويرمز لها بحروف مخيفة ( DIC ) أي انحلال الدم الشامل، فهذا ما يفعله فيروس الأيبولا الدراكولا. الغابة تصدر الأيبولا: عكف العلماء ومراكز البحث العلمي بعد تحديد هويته على وجه الدقة في معهد انتشار الأمراض في (أتلانتا) الولاية الأمريكية حيث يوجد مركز مراقبة انتشار الأمراض المرموز لها اختصارا بـــ (CDC) بدون جدوى حتى الآن على معرفة مصدره، وما هو الحيوان الذي يعيش في جلده، وأي الأوساط التي يرتع فيها، فهناك سلسلة من الحيوانات التي ينام كل واحد منها في حضن الآخر، فالحيوان يحمل في جلده القمل أو النمل أو البعوض، الذي بدوره قد يحمل الايبولا في لعابه!! فالفيروس المدلل ينام كما نرى محميا على ثلاث مخدات وفرش وثيرة بين لعاب البعوضة ووبر القملة وجلد الخفاش الليلي مثلا، أو بين بول الجرذان وأمعاء الحوافر وأوعية القردة وجلد الثعابين، فنحن لا نعرف على وجه الدقة حتى الآن من أين جاء ومن هو صديقه وأنيسه ونديمه من الكائنات الأخرى ؟؟ ولكن الشيء الأكيد أنه يهجم بين الحين والآخر بما هو أرعب من غوريلا الغابات فينهش ويفتك حتى يشبع فيهدأ ويعود للغابة ليهدأ فيها إلى حين. رحلة البحث عن قبائل يأجوج ومأجوج (فصيلة الأيبولا الجديدة): في خريف عام 1988 م قامت مراكز البحث في الجيش الأمريكي بتقصي أماكن تواجد الفصائل الفيروسية الجديدة واستطاعت أن تعثر _ حذاء المساقط المائية في منطقة ايلجون (ELGON) الواقعة بين أوغندا وكينيا- على كهوف تأوي إليها الفيلة وتعزل فيروسا قريبا من فصيلة الأيبولا، ولكن لم يتم التأكد من أن هذا المكان هو مصدر توريد هذا الفيروس الخطر، ونظرا لأن الغابات الاستوائية الرهيبة هي مصدر هذا الفيروس فإن رحلة البحث تعني تفقد نصف حيوانات وطيور العالم وحشراته وعجائبة الموجودة هناك؟! أين أنت يا فيروس الأيبولا، هل تستحم في بول جرذ أم دم قرد؟ هل أنت غاطس في جلد خفاش أم وبر عنكبوت؟ هل تدب مع نملة أم تطير مع نحلة؟؟ إلى أخطر مركز بيولوجي في العالم!! عندما تلقى الدكتور كليرنس جيمس بيترز ( CLARENCE JAMES PETERS ) ومساعده ستيفن أوستروف ( STEVEN OSTROFF ) العينات الــ (16) من دم المصابين في زائير، التي أرسلت بواسطة الدكتورة جوليا ويكس (JULIA WEEKS) هرعا إلى المركز البيولوجي المخصص للكشف عن هذه الفيروسات الخطرة في مركز مراقبة انتشار الأمراض في أتلانتا، المعروف بــ (CDC) حيث يتم الكشف عن هذه الفيروسات في قسم مخصص معروف بــ (مركز الأمن الحيوي مضروب أربع مرات) (BIOSAFTEY LEVEL 4 - BL4) حيث يقوم قسم يسمى بالكابينة الزرقاء (BLUE SUIT) ذات جدران رهيبة من الخرسانات المسلحة عديمة النوافذ، تحرس على مدار الساعة برجال أشداء غلاظ، مستعدين للتدخل السريع وبالقوة المسلحة إذا تطلب الأمر عند الشعور بخطر التسرب لهذا المركز دخولا وخروجا، ولا غرابة لأن بضع أطنان من السلاح البيولوجي كافية لإنهاء الجنس البشري فهو أخطر من السلاح النووي. دخل الدكتور بيترز فلقن كلمة السر المكونة من كلمتين فانفتح الباب إلى غرفة نزع الملابس حيث استبدل كل ملابسه بملابس معقمة كتيمة، واعتلت رأسه خوذة زجاجية شفافة، ثم أقحم يديه في ثلاث قفازات معقمة فوق بعضها بعضا استعدادا لدخول الحجرة الزرقاء. في داخل الغرفة امتدت خراطيم الأكسجين المعلقة إلى السقف، ويتم شفط وتجفيف الجسم بشكل دوري، بعد أن زود اللباس ببطارية لذلك، وتخضع الغرفة كلها لضغط سلبي حتى لايفلت ولو بطريق الخطأ أي فيروس أثناء فتح الأبواب. ثم بدأ الدكتور بيترز يخرج (الجني من القمقم) حيث كان قد أودع الفيروس في قوارير مبردة بالنشادر السائل، وللكشف عن الفيروس هناك طريقان: فأما الطريق الأسرع فهو اختبار (إيلايسا - ELISA) حيث يتم تتبع آثار أقدام غوريلا الغابة أو جني سندباد، وهي الطريقة المعروفة باكتشاف (مضادات الأجسام) فحيث يمشي المجرم يترك وقع أقدامه، فنأتي نحن الأطباء لنأخذ مقاسات (دعسة القدم) هذه وتحديد صاحبها وأنه مر من هنا!! وأما الطريقة الثانية فهي المواجهة المباشرة لهذا الفيروس المرعب ولكن وهو مشدود بالسلاسل تحت سيل التيار الإلكتروني في المجهر المكبر ما يزيد عن مائة ألف مرة. كانت الإجابة واضحة وسريعة فــ ( 14 ) عينة من أصل 16 حملت الخبر اليقين عن فيروس الغابة أنه قام بهجمة جديدة بعد أن غفا ونام لمدة 15 خمسة عشر عاما، وظن الناس أنه كان وحشا تائها ضمن الغابة ضل سبيله ثم عاد إلى مثواه، ولكن يبدو أن هناك من أقض مضجعه، وعكر غفوته، أو أنه جاع فقام يطلب الافتراس من جديد. وهكذا قفز الآلاف من الكيلومترات من جنوب السودان، من مدينة الناصر والماريدي ليضرب ضربته أولا في مدينة (يامبوكو) ثم ليزحف مقتربا من العاصمة الزائيرية، إلى 400 كم في مدينة (كيكويت) شرق العاصمة كينشاسا. واقعة مرعبة لسطو جرثومي (فيروس الماربورغ): في الثامن من آب - أغسطس عام 1967 م تقدم المخبري (كلاوس. ف) _ الذي يعمل في معامل البيولوجيا لاستخراج اللقاحات في مصانع (بهرنجر) في مدينة ماربورغ الألمانية _ بطلب إجازة قصيرة بسبب صداع لم يستطع معه متابعة العناية بقرود المخبر، التي كان ينشر جماجمها بعد موتها لاستخراج الدماغ وزراعة خلايا الكلية من أجل تحضير أمصال اللقاحات لشلل الأطفال والحصبة، ولكن كلاوس المذكور لم يعد مطلقا لمكان عمله، وتم توديعه إلى مثواه الأخير بعد 15 يوما، وحين تم الكشف عن القرد الذي كان يعمل عليه وهو من نوع قرود البحر الخضراء، والتي تجلب في العادة من أوغندا، تبين أن دمها غاطس في مليارات المليارات من الفيروسات المرعبة والتي هي من فصائل الأيبولا، وأصيب مركز البحث العلمي في ماربورغ بالرعب في عدة مستويات، وشكر المصادفة الجميلة التي راح ضحيتها أحد المخبريين والتي لولاها لربما تم نشر اللقاح إلى ملايين الأطفال في العالم ومعه السم الزعاف محمولا على ظهر فيروسات القتل، وبذلك تبرز فكرة في منتهى الخطورة عن عدة إمكانيات لقتل شعوب بأكملها، من خلال قتل أطفالها بخطأ أحمق من هذا الحجم، وإذا كانت هذه الفيروسات تظهر على السطح بسرعة، فإن فيروس الإيدز يعس لفترة طويلة بحيث يكون العالم قد وقع في كارثة جمعية رهيبة قبل أن يستطيع أن يفعل لها أي شيء!! ولنتخيل حدوث شيء من هذا القبيل في الستينات من هذا القرن قبل كشف اللثام عن كل تحدي الإيدز، وهذا كله يوحي بمدى التحديات والمطبات التي تواجه الجنس البشري. وفي نوفمبر من عام 1989م حصلت واقعة جديرة بإثارة الخيال العلمي، هذه المرة في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما لاحظ تاجر للقرود يأتي بها من الفيليبين في مدينة ريستون ( RESTON ) وهي ضاحية للعاصمة واشنطن، بأنها بدأت تمرض وتنزف، وكان انتقال المرض من قفص لآخر ليس عن طريق التلامس المباشر أو المفرزات أو الدم، بل عن طريق الهواء، والأنكى من ذلك أن العمال المعتنين بالقرود ظهر عندهم مضادات الأجسام في اختبارات الدم عندهم، مما يوحي بانتقال الفيروس إليهم بدون مظاهر سريرية. إن العلماء يلتقطون أنفاسهم عندما يتصوروا أن فيروس الأيدز أو الايبولا بدأ يغير طبيعته؛ فبدأ ينتقل عن طريق الهواء بالسعال والرذاذ والتنفس والعطاس، عندها لن يبقى مكان واحد آمن على وجه البسيطة. مراجع وهوامش : (1) تأمل الآية من سورة البقرة (26) ((إن الله لايستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟؟)) فالآية وضعت عمليا البعوضة في قاع السلم الإحيائي تماما، ونحن نكتشف هذه الحقيقة فقط أثناء المعاناة منها، ويبقى سرها مربوط بدورة الطبيعة الكاملة مع كافة أشكال الحياة. (2) فيلسوف يوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد يعتبر هو و(لوقيبوس) من أوائل من أشاروا إلى أن مكونات الكون الأربعة (الماء والنار والهواء والتراب) تتكون بدورها من عناصر أبسط، وكل الكون ينطلق من عناصر أولية بسيطة هي الذرات، راجع كتاب الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 196 (3) تعتبر الذرة اليوم أنها تشكيل معقد من العناصر (دون الذرية) مثل البروتون والإلكترون، بل حتى البروتون يعتبر أنه مشكل من عناصر (دون دون ذرية) هي الكواركز، ولكن لا يمكن كسر البروتون في الوقت الراهن لإخراج (لب الجوز) منه (4) يمثل الحامض النووي السر العجيب في كل خلية ففيه سر الخلق والشيفرة السرية للهندسة الكاملة الحيوية للحي ويرمز له بحروف (د ن ا) أو (ر ن ا) والنوع الثاني هو الذي تحمله مجموعات الفيروسات (5) تأمل الآية القرآنية من سورة آل عمران رقم 27 ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) فالآية طرحت إمكانية انبثاق الحياة من الموت وبالعكس وتمثل ظاهرة الفيروس قضية محيرة في هذا الصدد (6) ذكرت القصة بالكامل في مجلة المرآة الألمانية (الشبيجل) عدد 20 / 1995 م ص 154 . موعد نشر الفصل الثامن عشر سيكون يوم 9 رجب لعام 1423هـ الموافق 16 سبتمبر 2002