العربيــة بين لغــة الفصـحى.. ولغــــــــــة البـتــاع !!

بدأت الحرب المعلنة ضد اللغة العربية، مع وفود جيوش الاحتلال الأوربية إلى مشرق الوطن العربي في نهايات القرن الماضي. فاستطاع الإنجليز في مصر -مثلا- تغيير نظام التعليم، جاعلين اللغة الرسمية له هي الإنجليزية؛ لأن العربية أداة غير صالحة للتعليم الحديث! وقد ناضلت مصر نضالا مريرا مدة عشرين عاما، حتى أعيد التعليم باللغة العربية لبعض المواد المدرسية، على يد سعد زغلول عام 1907م. وبعد ذلك، توالت الهجمات المتعددة على هذه اللغة في البلاد العربية المختلفة، فكان أظهرها في الفترة نفسها، حملة الاتحاد والترقي على التعليم بالعربية في بلاد الشام والعراق، وقد كان للشعوب العربية ردود فعل عنيفة ضد هذه المحاولات الغربية التي كانت مفهومة الأسباب تماما. وقد تلت الحملات على التعليم معارك مختلفة، يعرفها المثقف العربي، فهي جزء من تاريخه، ويعيش بعضها حتى الآن؛ كمعركة تعريب المصطلحات، ومعركة تغيير رسم الحرف العربي وما صاحب ذلك من دعاوى عجز اللغة العربية عن مواكبة احتياجات العصر وتطوراته، ومشكلات الكتابة العربية، وعدم إمكان طباعة حروفها برسمها المعروف، ثم دعاوى أخرى؛ كصعوبة تعليمها، وما اشتهر باسم مشكلات الخط العربي. وكذلك محاولات تقعيد العاميات، وجعلها نوعا من اللغة؛ لتحل تدريجيا محل (هذه اللغة الصعبة المهجورة). وقد استخدمت، في سبيل ترويج تلك الدعاوى وغيرها، شتى الوسائل، بما فيها العقل العربي المفرنج المبهور بالحضارة الوافدة السائدة. أيهجرني قومي عفا الله عنهم إلى لغة لم تتصل برواة؟! وإذ ينظر الناظر إلى واقع اللغة العربية الآن، وحالها بعد كل هذا الكفاح، فلا يجد كثيرا من الضوء. - فما زال التعليم العلمي كله في الوطن العربي -عدا سورية- باللغة الأجنبية، (رغم أنه في إسرائيل بالعبرية، وفي فيتنام بالفيتنامية). - وما زال المثقفون العرب لا يجيدون التحدث بلسانهم العربي. - وما زالت منابر الجمع في البلاد العربية تهتف كل أسبوع بحكم ومواعظ مصوغة في لغة عربية غريبة هي مزيج من عامية أهل البلد، وفصحى سقيمة. - وما زال الإعلام العربي ناطقا بالعاميات، اللهم إلا نشرات الأخبار التي تتخللها عثرات اللسان وتلعثماته، والبرامج التي يراد بها نشر الثقافة الدينية، برامج ثقيلة الظل، يقدمها رجال ونساء لا تسلم ألسنتهم كذلك من العي والعجمة. - وما زال المعلم العربي في الجامعات العربية والمدارس العربية عاجزا عن التعبير عن نفسه بالعربية، فالمحاضر في الجامعة ناطق بالعامية، مباه باصطلاحات غربية شارحا بها ما في كتبه من ألغاز الفصحى، وأستاذ اللغة العربية في المدرسة نفسه لا يقيم جملتين فصيحتين متتاليتين. - وما زال يصدق على لغة الإنسان العربي قول الشاعر منذ عشرات السنين: فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات إلى معشر الكتاب والجمع حافل بسطت رجائي.. بعد بسط شكاتي.. q انعقد في ماليزيا، في جنوب الشرق الأقصى، حيث الشعب مسلم القلب أعجمي اللسان، مؤتمــر تحـــت عنــــوان: قضايا اللغة العربية وتحدياتها في القرن الحادي والعشرين، اجتمع فيه حشد من المهمومين بهموم العربية تعليما وتعلما، محاولين بسط رجائهم وشكاتهم في هذا الطريق الوعر، طريق نشر العربية بين أهلها من المسلمين، وحمايتها. وكان لانعقاد المؤتمر في ماليزيا إشارات ومعان كثيرة، بعضها مثير للشجن، وبعضها باعث للأمل. فقد كان القلب العربي يتمنى أن يكون مثل هذا الحدث الثقافي على أرض عربية، وأن يكون الأبناء الأوائل للسان العربي هم أول من يغار عليه ويهب لنجدته، أو على الأقل يصرخ طالبا العون. لكن هذه الفكرة لا تخلو من رومانسية، فالحقيقة الغائبة -أو المغيبة عمدا- هي أن اللغة العربية أصبحت منكوبة في بلاد العرب، أو أنها كما قال شاعرها على لسانها: ولدت فلما لم أجد لعرائسي رجالا وأكفاء، وأدت بناتي!! والوجه المشرق لهذه الحقيقة المؤلمة، هو أنه لا يزال على هذه الأرض من يحب العربية ويخلص لها أشد مما يفعل أهلها، وهو ما يذكر بحكمة توحيد الإسلام العربي والأعجمي، وبأن الدافع الفعال لتطور المسلمين هو دائما الدافع الديني لا القومي. وهذا أحد المعاني الرائعة، القائمة وراء انعقاد المؤتمر في ماليزيا. وقد اشترك في تنظيم هذا المؤتمر جهات ثلاث، هي: مركز اللغات في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وهي مؤسسة تعليمية كبرى، تضم طلابا من شتى بلاد المسلمين، وأساتذة كذلك، وهي مؤسسة ذات أهداف دينية لا قومية، يحركها فكر واع بالحقائق الروحية التي ينبغي أن تكون من وراء التعليم العلمي والنظري؛ لئلا يسقط الإنسان المسلم في الشرك الذي سقط فيه الإنسان الغربي في القرن الماضي، ولكي تتفادى عيوب التعليم في المؤسسة العربية الحالية. هذا بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في ماليزيا والمملكة المتحدة، وأكاديمية أكسفورد للدراسات العليا في بريطانيا، وهما مؤسستان علميتان، تحركهما أفكار مشابهة، وتقف وراءهما عقول متحررة ناشطة لتوحيد الفكر الإسلامي بواسطة التعليم الديني المستنير. ومنكم وإن عز الدواء أساتي.. واجتمع في هذا المؤتمر العالمي حوالي مائة باحث من البلاد الإسلامية ومن الغرب كذلك، وشارك في تقديم الأبحاث (عرائض الشكوى) نحو ثلاثين باحثا عربيا وغير عربي وكانت جميع الأبحاث المقدمة من غير العرب حول قضايا التعليم والتعلم وإشكالاتهما. وهذا كان المحور الرئيسي للمؤتمر، وكان ثمة محوران آخران، حول إشكال المصطلح، وإشكال العامية في صراعها مع الفصحى. وحظيت إشكالات التعليم بنصيب الأسد، سواء في الأبحاث المقدمة، أو في المناقشات الدائرة حول الأبحاث الأخرى. وليس ذلك بالأمر العجيب، فالعامية رواجها وسطوتها عائق يواجه المعلمين، فيحول بينهم وبين أداء مهمتهم في نشر الفصحى، وهو عائق موجود داخل عقول المتعلمين؛ لأنهم لم يعودوا أبناء الفصحى؛ بل أبناء عامياتهم المختلفة، المباعدة مباعدة شديدة للفصحى الأم. وهو من جهة أخرى، عرقلة في طريق الطلاب المسلمين الذي يأتون إلى البلاد العربية ظانين أنهم يذهبون إلى المحيط اللغوي الأصيل، الذي سيضطرون فيه إلى استعمال الفصحى، فتنطلق بها ألسنتهم، ويتكلمونها في النهاية كأهلها. والمأساة الحقيقية هي أنهم في النهاية يتكلمونها حقا كأهلها ! فتجد الطالب الذي تعلم في مصر، يردد دائما بعض مفردات العامية المصرية، من قبيل: (أيوه- ماشي - معلش - بس - بتاع - يعني) وغير ذلك، وتجد الطالب الذي تعلم في الأردن أو السعودية أو السودان، يستعمل كذلك بعض مفردات عاميات تلك البلاد، وتجد طريقته في نبر الأصوات وتنغيمها مماثلة تماما لطريقة أهل البلد الذي تعلم فيه، حتى أن المعلم المتمرس يستطيع بعد جلسة قصيرة مع أي طالب، أن يحدد مصدره اللغوي (جغرافيا)! ويعود الطلاب بعد ذلك إلى بلادهم معلمين حاملين هذه اللهجات إلى طلابهم، ويعلمونهم إياها على أنها فصحى. هذا في أفضل الحــــالات. أمــا فـــي الحالات الأكثـــر شيوعــــا فإنهــــم لا يستطيعون أن يتكلموا مدة دقيقتين -مثلا- بفصحى سليمة خالية من عامية البلد الذي تلقوا تعليمهم فيه. فالعامية تقاوم الفصحى إذن! هذا كان المحور الثاني للمؤتمر، حيث عرضت أبحاث حول تقريب العامية إلى الفصحى والإفادة من العامي فصيح الأصل، وكذلك عن إمكانات تحويل لغة الإعلام إلى الفصحى، وآثاره. فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات.. ولم يكن المحور الثالث بدوره بعيدا عن هموم التعليم، فإشكال المصطلح؛ توليده وتعريبه من عوائق عملية التعليم كذلك. وأكثر المعلمين جاهلون بإمكانية تعريب مصطلحات العلم، وإن أقروا بها نظريا، فهي ليست مستقرة في قلوبهم، ولا توجد في مصر -مثلا- حتى الآن، محاولة جادة مخلصة لتعريب التعليم تعريبا كاملا حقيقيا. وهناك تعريب المصطلحات اللغوية الحديثة. ولعل البحث الذي قدمه أ.د عبد القادر الفاسي الفهري (أحد علماء المغرب العربي) في توليد المصطلح، يفيد كثيرا من يخلص في محاولة من هذا القبيل. ولربما يوجد في ساحة العمل اللغوي من يجاهد في هذا الطريق، ونحن لا ندري، كحال العلامة الدكتور هيثم الخياط (نائب المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية)، وبحوثه في سبيل العربية، لكن جهوده لا يعرفها إلا خاصة الخاصة. والمثير للدهشة على كل حال هو أن إشكال التعريب قد أثير في الساحة العربية منذ بدايات القرن، وعقدت فيه عشرات المؤتمرات (كما ذكرها بالتفصيل الدكتور عبد الله الدنان في بحثه القيم عن تعليم الفصحى بالفطرة)، ونحن مازلنا نناقش إلى اليوم: هل يمكن التعريب؟ هل ينبغي علينا أن نعرب التعليم؟ كيف يمكن أن نعرب التعليم العربي؟!. ربما لا تتسع هذه المقالة القصيرة لأناقش كيف يمكن هذا، لكنها تتسع لأنبه على حقيقة وهي أن التعليم في إسرائيل معبرن، وأن اللغة العبرية كانت لغة ميتة، غير مستعملة إلا في صلوات اليهود في المعابد، إلى عهد قريب جدا، لكن أهلها المتعبدين بها عندما أرادوا إحياءها.. فعلوا. أما إشكالات التعليم، المحور الأساسي، تلك التي قدم فيها حوالي ثمانية عشر بحثا جادا، فقد يمكن تلخيصها في أمرين رئيسيين: ?الأول: افتقاد المنهجية الدقيقة في تعليم العربية للناطقين بغيرها، وغياب المنهج الملائم سواء لظروف الطلاب البيئية أم لحاجاتهم ودوافعهم التعليمية. وقد نوقشت في هذا الموضوع معظم المناهج الموجودة في هذا المجال الآن، وطرحت أسئلة كثيرة وانتقادات للبرامج المقررة الجاري تدريسها في مراكز تعليم العربية في بلاد شتى، منها: نيجيريا، وجنوب أفريقيا وبروناي، وهولندا، وماليزيا، والمملكة العربية السعودية، ومصر. وقد أغنى هذا النوع من المناقشات جلسات المؤتمر، وأثراها، وولد فاعلية قوية نرجو أن تجني ثمارها في المستقبل القريب. وإذ ابتعدت الأوراق المقدمة -أو أكثرها- عن الكلمات الرنانة والأسلوب الخطابي، فقد قاربت مستوى تطبيقيا ونقديا عمليا عميقا، باحثا في حقيقة المخاطر والعقبات التي تواجه معلمي العربية في بلاد المسلمين، وغطت أهم الكتب المدرسة فعلا وأكثرها شيوعا بين طلاب العربية في العالم. - ومن ذلك كان الخروج إلى الأمر الآخر في إشكالات التعليم وهو: نتائج هذه البرامج، هل هي نتائج جيدة؟ وإلى أية درجة؟ وهل ينبغي التغيير؟ وكيف السبيل؟. وقدمت اقتراحات عديدة لحل مشكلات الطلاب، سواء تلك الناتجة عن تأثير اللغة الأم أم عن عيوب المنهج. ونحن نرجو ونتمنى كما تمنينا دائما، وكما يتمنى جميع محبي العربية والمخلصين لها أن تصل هذه الأبحاث الجادة إلى أيدي المختصين والمهتمين، وأن يوجد مخرج ما.. وإننا على يقين من أن ثمة مخرجا، وأنه لا شك معلوم لبعض الناس، وإلا لما استمر تعليم العربية حتى الآن. فهو مستمر، وناجح لكن ليس كما ينبغي أن يكون، وليس ناجحا أو منتشرا بالدرجة التي يتحتم أن يكون عليها. العربية اللسان.. وهذا واجب العرب على كل حال، والعربية ليست من أحد منكم بأب أو أم، إنما العربية اللسان. فإن كان الباحثون المخلصون لهذا اللسان قد رفعوا شكواهم في هذا المؤتمر، وتبادلوا خبراتهم في البلاد العربية وغير العربية، واقترحوا ما يرون من حلول، أبرزوا ما فيها من مزايا، وما تصبو إليه من أهداف.. إن كان كل هذا قد حدث، فأظن الوقت قد حان لبدء العمل. وإني أقول بدء العمل لا مواصلته؛ لأنني أظن أن ثمة طريقا جديدا يمكننا أن نشرع في شقه، خروجا من الحلقات المفرغة، ومن التجارب غير المجدية، ومن التأملات النظرية.. خروجا من كل هذا الماضي الطويل الكئيب المشتجرة تفاصيله.. ولوجا في عالم عمل جاد شاق مخلص لخدمة هذا اللسان. فلا تكلوني للزمان فإنني.. أخاف عليكم أن تحين وفاتي.. ونحن على كل حال لا نخشى على العربية وفاة أو مماتا كما كان شاعرها رحمة الله عليه، لكننا مؤمنون.. مؤمنون بأن علينا الزرع ومنها لنا الثمر، وإلا فلا هناء لجيلنا أو أجيالنا بعز لغتهم، وسيأتي الله بقوم غيرنا، ثم لا يكونون أمثالنا، وسيحفظون لغتهم ويحفظ بهم الله كتابه، شئنا نحن ذلك أم أبيناه. فإذا كان هذا المجد والشرف حاصلين لا محالة، فلم لا نسعى أن نكون أهله؟!. وكم عز أقوام بعز لغات.