الفصل الخامس عشر من كتاب مخطط الانحدار وإعادة البناء

الفصل الخامس عشر:نظرة تأملية في جراحة إليزارو تأليف الدكتور خالص جلبي لقراءة الفصول السابقة انظر أسفل الصفحة. ??(أمل جديد في جراحة جديدة)?? القزم يطول والمشوه يستقيم والمعند يشفى والكسيح يتحرك. أصيب جراح العظام الإيطالي (كارلو مونري) بكسر في ساقه، تطور بعد المعالجة إلى اختلاط كريه، هو اندمال معيب متقيح مزمن، مما خلق لجراحي العظام الإيطاليين تحديا في معالجته، وكادت الحالة أن تفضي إلى البتر. وعندما حمل الجراح الإيطالي شكواه إلى زميله، أشار عليه بجراح للعظام، صعب الاسم، غامض الشهرة، يعيش في صقيع سيبيريا، ويقوم بجراحات جديدة مثيرة، اسمه (اليزاروف - ELIZAROW). استطاع (اليزاروف) أن يسيطر على الحالة، ويصل بها إلى شاطئ السلامة، فزال القيح، واستقامت الساق، واندمل الكسر. هذه القصة كانت السبب في خروج (اليزاروف) و (طريقته) من الشرنقة السوفييتية، والتدجين الإيديولوجي للعلماء، كما حصل من قبل مع أفيلوف وليزانكو في قصة علم الوراثة والإيديولوجية الماركسية (1). خرج (اليزاروف) من الشرنقة الضيقة، ليطير إلى العالم بجناحي فراشة جديدة، وبذلك ولد علمه في العالم، وكتب له النماء، وسادت طريقته، وأصبحت منهجا قائما بذاته في المعالجة. والآن ما هي الإثارة في طريقة (اليزاروف)؟ ما هو الجديد فيها في فن جراحة العظام، أية أفكار تسيطر على نواتها؟ أية منهجية توجه حركتها بل لنقل أين الإبداع في هذه الطريقة؟ في جو الصقيع والبرد الرهيب في (كورجان)(2)جلس (اليزاروف) لفترة تزيد عن ربع قرن وهو يتأمل الواقع البيولوجي، محاولا اكتشاف أسرار جديدة، وقوى مجهولة، ومعادلات غامضة وآليات لا تطفو على السطح!! كان عليه قبل كل شيء كسر المسلمات السابقة، والأيديولوجيات الدوغمائية في المعالجة الجراحية لأن مشكلة المشاكل، وجوهر الإعاقة العقلية هو ما أشار إليه القرآن، عن عقدة الآبائية (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)؟! إن جوهر حركة التاريخ هو التطور الفكري، هو حركة المجتمع من خلال أفكار ورؤى جديدة، ومعالجات جديدة، من خلال تنمية روح المبادرة، تلك التي أشار إليها عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) في كتابه (روح الرأسمالية) (3) عندما اعتبرها إحدى عناصر انطلاق النهضة الأوربية. إن الحياة مليئة بالأسرار، والسر يحرك شهية المعرفة، ويفتح روح الفضول للاكتشاف، ولو أرسل خشب أشجار المعمورة إلى المصانع لاستخراج الأقلام، ولو أن بحار الدنيا السبعة تحولت إلى مداد، ثم سخرت الأقلام لتكتب هذه الأسرار، لفنيت الأقلام، وجفت البحار، ولم تنته هذه الكلمات: ((ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله))(4). كان (اليزاروف) يرصد الواقع البيولوجي لاكتشاف كلمات الله التي هي قوانينه، والتي سخر الكون كله بموجبها، فالكون يتسخر، أي يخدم مجانا في اللحظة التي يتم الكشف عن القانون الذي يسيطر عليه، وهو ما أشار إليه القرآن: ((وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه)) . هل تأملت السحلية الصغيرة عندما يحاول الطفل العبث بذنبها كيف تطرح ذنبها متخلصة منه وهاربة إلى الحرية؟! ليتراكم بعد ذلك على الذنب المفصول حشد من النمل في وجبة شهية؟! لماذا لا تمتلك أجسادنا هذه القدرة؟ فإذا انقطع إصبع نما آخر مكانه؟؟ ما الذي يجعل الخلايا السرطانية، سرطانية؟؟ لماذا يعلن السرطان التمرد العام في البدن، ويقود حملة عصيان مدمرة لكل أجهزة الجسد؟؟ إن لعنة مرض الإيدز باعتبارها إحدى آليات التسرطن فجرت عتبة اكتشافات جديدة، للدخول إلى الكنز المقدس في الخلية، لكشف اللثام عن تركيب ثلاثة مليارات من الجينات ترقد فيها خواص الإنسان، في أعظم مشروع عرفه الجنس البشري هو أعظم من ثورة المعلوماتية، ومشروع ناسا لارتياد الفضاء، لأنه مشروع (اكتشاف الإنسان)(5) لقد قبع (اليزاروف) هناك في الصقيع يفكر بعقل فيلسوف، وهمة طبيب، وروح رائد مكتشف وبعبقرية نفاذة، لقد وصل إلى فهم ثوري جريء، يعتبر قلبا لكل مفاهيم جراحة العظام، بل هي تقنية تتجاوز جراحة العظام لتطبق في فضاء الجراحات الأخرى. في التصور القديم يبقى القزم ضئيلا، لا يرفع رأسا، ويطلب العون، ويستدر الشفقة، تتعثر قدماه في المشي ولسانه في النطق؟!. من أصيب بالتشوه أضحى قدرا لا يمكن تغييره، ولا أحد يفكر في تغيير ما استقر عليه الانحراف؟! الاندمال المعيب والتقيح المزمن الكريه مصيره إلى البتر ولو بعد حين؟!. المشلول كتب عليه أن يبقى مقعدا مدى الحياة، يتجرع الغصص، ويزدرد الحسرات. وعلى صاحب الكسر أن يجر طرفه الثقيل لأشهر طويلة بجبس أبيض يذكر بالقبور التي يصفر فيها الريح، حتى يلتئم الكسر، وتتكلس الحواف، ويتشكل الدشبذ (CALLUS) (6). وبذا فهمت العضوية على نحو جامد ثابت لا يتغير، ولكن هل الوجود كذلك والله يقول (يزيد في الخلق ما يشاء)(7)؟؟ إن فهم الوجود على أنه كم ثابت يمثل نصف الحقيقة، ذلك أن الحياة تسبح بين الجمود والحركة، بين الثبات والتطور، بين الوجود والصيرورة، وعندما يتدخل الجهد البشري ليمط قصيرا، أو يصلح تشوها، أو يقيم معوجا، فإنه يعالج في الواقع قدر الله بقدر الله، وضمن سنته التي تسيطر على الوجود المادي والبيولوجي والنفسي والاجتماعي والحضاري والبشري برمته ((ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ))(8). دخل دماغ (اليزاروف) إلى مخ العظام لفهم آلية نمو العظام وعلاقتها بالأنسجة المحيطة، فقلب المفاهيم السائدة، فقال : إذا كان الكسر ينشط النمو فيندمل الكسر، أي أن الكسر هو الذي يحرض آلية النمو، فما المانع أن أسخر هذه الآلية، وأضع يدي على سرها؟؟ ليس أن أرد كسرا، بل أكسر عظما سليما، كي أضع تحت تصرفي هذه (الآلية - الميكانيزم) فأوجه النمو بالوجهة التي أراها سليمة، وبذا - طالما أن مستودعات النمو موجودة - أستطيع أن أطيل عظما، أو أقيم معوجا، أو أقاوم تقيحا معندا بأسلحة النمو هذه. هذه هي جوهر فكرة (اليزاروف)، هي بسيطة ولكنها رائعة وانقلابية. هي جميلة وساحرة، وجمالها يأتي من بساطتها، لأن أهم عناصر الجمال البساطة. فكرة (اليزاروف) تقوم ليس على تجبير العظام ورد الكسور، بل كسر العظام، وتحريض النمو في العظم والأنسجة المتصلة به، من عصب، وشريان، ووريد، وعرق لمفاوي، وعضلات، وفي النهاية الجلد الذي يتمطى؟! (9). إن هذا الشق والكسر للعظم يتولى القسم الخارجي فقط، أي قص القشرة الخارجية وتثبيتها من الخارج بحلقات، ومسامير، وأعمدة، بشكل ميكاني مدروس في الاتجاه المزمع إنشاؤه، ثم شد الطرفين المكسورين بعيدا عن بعضهما البعض لتحريض آلية النمو، وبذا أمكن إطالة العظم، ومد الشريان، ومط العصب، وزيادة الأوردة ، وترميم الأنسجة المهددة، وتقويم الأعضاء المعوجة. فهي كما نرى فكرة رائدة تعتمد أن يرمم الجسم نفسه بنفسه. فيتم بها تحسين التروية الدموية، وتنشيط السيالة العصبية، ونمو العضلات، وتطويل الأوتار، وردم القيح، ومط الجلد، وزيادة الجمال في الأطراف والتخلص من التشوهات. تتيح طريقة (اليزاروف) للمكسور الساق أن يمشي على كسره مباشرة، وللمشلول أن يبدأ في الأمل في الحركة _ هناك تجارب الآن على نخاع الظهر عند المشلولين، لتنشيط نموه وهو من مستحيلات العلم اليوم، لأن الطب الحالي بت فيه بلا عودة ؟؟!! -، وفي فقر التروية الدموية بضخ الدم وتحسين الدوران، وفي الأقزام أن يمنحهم بسطة في الجسم _ تم ضرب رقم قياسي بتطويل وصل إلى 30 سم، بل إن اليزاروف دفع الرقم إلى 90 سم ( طول إنسانا يابانيا من 90 سم الى 180 سم ) ؟! بمعدل زيادة 1 ملم يوميا -، وللمشوهين أن يستعيدوا عافيتهم، وجمال شكلهم، وللمقعدين أن يتفاءلوا بدخول عتبة جديدة في المعالجات. قال صلى الله عليه وسلم - : (( ما أنزل الله من داء إلا وجعل له دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله)) فهذا الحديث يفتح الباب أمام فكرة الشفاء لأي مرض مهما استعصى واستفحل. وبعد فإن طريقة (اليزاروف) ليست سحرا ولا ألغازا، فلا توجد أسرار في العلم، كما أنها ليست فوق النقد ولا دون الخطأ، بل هي فهم لسنة الله في خلقه، والقوانين التي تحكم البيولوجيا، وإذا كان الحديد ثقيلا ومن طبيعته أنه يسقط إلى الأرض، فإن الذكاء الإنساني حوله إلى طيارة تحلق في الأجواء، وصاروخ يخترق الجاذبية، ليس بخرق القانون، بل باستخدام قانون جديد يتخلص به من قانون الجاذبية، فالتشوه، والشلل، والعجز، والصمم، والضعف، والتردي، حدث بفعل قانون (سقوط) ، ونحن نعالجه بقانون (صعود). إن العبرة في الانقلاب الثوري في جراحة اليزاروف ذات ثلاث نواح، الأولى في دلالة علاقة العلم بالفلسفة، فالعلم غصن من شجرة الفلسفة، والفلسفة هي رحم العلوم التي تضخ بها وتنتجها وتصنعها وتولدها بدون توقف، والثانية أن الإبداع يأتي وفق قفزات نوعية يقوم بها أناس إما من خارج ذلك الحقل، حينما يرون الأشياء بنور جديد، كما حصل مع النمساوي (كورت سيم_ KURT SEMM) الذي قام بتثوير جديد في علم الجراحة، من خلال تطويره جراحة المناظير الجديدة، التي تشق طريقها الآن إلى قفزة نوعية أخرى هي الجراحة بدون جراح من خلال وسيط الروبوت، والتي ستكون جراحة القرن الواحد والعشرين، أو أناس خرجوا بأرواحهم من روتين وسطهم الممل إلى نسمات العبقرية وإلهامات التأمل العميق. وأما الثالثة وهي أحزنها فهي نكسة الجراحين بتحولهم إلى مهنيين مع الوقت، وانزلاقهم عبر (قمع الزيت) التخصصي وكأنه الامتصاص داخل ثقب أسود، حيث تضيق ساحة الاهتمام، ويزداد الظلام مع قوة العبور في اتجاه عمى الاختصاص اللوني، وإذا كانت نهاية القمع ثقب ضيق، فإن الاختصاصيين يفقدون حاسة التمييز في النهاية أن الوجود أكبر من العمليات الجراحية، وأرحب من التشريح والفيزيولوجيا، وأهم من ترقيع شريان أو استئصال ورم أو رد كسر. وأما صاحبنا ( اليزاروف) فقد أبحر إلى فلسفة الطب فرآه بنور جديد، فاكتشف علاقات جديدة، وفتحت أمام عينيه أسرارا خفية بضوء ليزر الفلسفة، وباح الوجود له ببعض حكمه القريبة المحجوبة. إن الإبداع له وسطه، وأعظم شرط فيه هو عشق المعرفة، والتجديد، وكسر جمود التقليد ورتابة الروتين، وإعادة النظر في المسلمات هل هي فعلا بديهيات عقلية لا تقبل المراجعة؟ وتحريض ملكة النقد الذاتي، وتوليد روح الدهشة والفضول لرؤية العالم من حولنا دوما جديدا ناميا متطورا، ورؤية العلم بدون حدود، لأنه من علم الله الذي أحاط بكل شيء علما، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم الذي لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله تعالى )) . المراجع والهوامش : (1) يراجع في هذا كتاب الأيديولوجية الانقلابية لنديم البيطار، حيث اصطدم علم الوراثة مع الأيديولوجية الشيوعية وتفسيراتها النهائية فما كان من ستالين إلا أن دجن العلم لصالح الأيديولوجية فأزاح العالم ووضع الحزبي مكانه (2) مدينة كورجان تقع في سيبيريا من الاتحاد السوفييتي (3) يراجع في هذا كتاب الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية - ماكس فيبر وأشار إلى ثلاثة عناصر في روح النهضة الغربية التي انتشرت في المناطق البروتستانتية روح المبادرة وتقدير الكسب والروح العملية (4) سورة لقمان (5) ينطلق العلماء في هذا المشروع الجديد تحت اسم مشروع المورثات البشرية ( يرمز له باللغة الانكليزية _ HGP _ وهي اختصار ثلاث كلمات _ HUMAN GENOM PROJECT _ حيث يفكك يوميا آلاف الجينات ويطمحون أن يصلوا بواسطة الكمبيوترات المتقدمة إلى فك مليون جين يوميا، فإذا وصلوا إلى هذا المستوى استطاعوا فك حجر الأساس في الخلية الإنسانية في مدى يتراوح بين 15 و20 سنة، والجينات هي المسؤولة عن الصفات الوراثية عند الإنسان وعددها حوالي ثلاث مليارات (6) الدشبذ هو نقطة التحام العظم المكسور (7) سورة فاطر وبذلك يطرح القرآن فكرة أن الكون ليس ( كما ) ثابتا ستاتيك، بل بالأحرى (حركي) ديناميك، ومتطور ونامي، وهو ما اكتشف في علم الكوسمولوجيا من ظاهرة تمدد الكون (8) والسنة أو كلمة الله في آية أخرى هي القانون الذي ينتظم الوجود من الذرة إلى المجرة، فالكون يقوم على النظام وليس الفوضى، والآية هنا تستخدم الثبات ضد التبديل أو التحويل وهما العمليتان اللتان تدخلان في إيصال الخلل إلى الثبات، إما برفع القانون أساسا باستبداله بغيره، أو بتحويل مجراه أثناء عمله (9) من أجمل التأملات في ظاهرة اليزاروف أن الجدل الداخلي فيها يحدث بالتناقض حيث تعالج العظام بكسرها وليس تجبيرها وهو ما لم يخطر في قلب طبيب عبر العصور، وكأننا ولدنا الخير من الشر لو صح التعبير، وهو مغزى فلسفي عميق فآلة الكسر تستخدم للإصلاح وبالعكس، وبنفس الطريقة سخر ( برايت ) المسلة التي أصابته بالعمى إلى اكتشاف طريقة تعليم العميان.