السعادة.. ذلك الكنز المفقود !!

السعادة كنز يبحث عنه الكثيرون، ويمضي وراءه الأغنياء والفقراء والكبراء والأمراء والأجراء، الكل يأمل أن يأخذ منه بنصيب أو يحصل منه على ما يريد. لكن الكثيرين أخفقوا في الوصول إليه أو العثور عليه، مع سلوكهم لذلك مسالك شتى وطرقا متنوعة وأساليب ملتوية. فالبعض ظن أن السعادة عبارة عن مال وفير يجمعه الإنسان ليمتلك بعد ذلك من خلاله ما يشاء ويحوي ما يريد، فجرى وراء المال بكل قوة وعزم، ليله ونهاره لا يفتر ولا يكل ولا يمل، فلما حصل له ما أراد وجمع من المال أصنافا، وجد نفسه لا يزال يبحث عن السعادة وينظر إليها من خلال كنوزه فلا يعثر عليها. وآخرون تأملوا وتكفروا ثم وضعوا أسسا للسعادة بزعمهم فهي عندهم إعطاء النفس ما تريد، وعدم لجمها عن شهوات تتشوق إليها ونزوات تتعلق بها، فهي لا ترعوي عن محرمات وهتك أعراض، ولا عن منكرات وأخذ أموال، فنفوسهم تلهث وراء كل شهوة وخلف كل نزوة، ومع ذلك يتوقفون بين الفينة والأخرى ليبحثوا عن السعادة. وهذا صنف ثالث في نظره أن السعادة تتمثل في زوجة حسناء وحديقة غناء في وسطها بيت جميل يملؤه الأطفال، لكن بين حين وآخر ينظرون من خلال النافذة أمامهم محاولين البحث عن السعادة. وأصحاب تطلع وقيادة أيقنوا أن السعادة لا تكون إلا في منصب كبير وقيادة عليا، واجتماعات ولقاءات وتوصيات وقرارات وفي زحمة الأوراق يتذكرون أنهم فقدوا السعادة، فيعيدوا البحث عنها بين الملفات والدفاتر فلا يعثرون لها على أثر. حقيقة السعادة عجيب أمر هذا الكنز، الكل يبحث عنه فلا يجده إلا القليل ولا يشعر به إلا النذر اليسير، فما هو السر وأين يمكن أن يعثر عليه. السعادة أيها الأخوة شيء لا يشترى بالمال، ولا يكتسب بالشهادات، ولا يؤخذ بالتوصيات والقرارات، ولا تنضجه زوجة حسناء ولا أطفال وشباب. إنما هو شيء يستقر في القلوب من فيض علام الغيوب، فتظهر آثاره على من أعطيه حتى ولو كان فقيرا معوزا أو مريضا متألما أو عاملا مستضعفا. سر السعادة هو الإيمان بالله والتعلق به والتوكل عليه بصدق ويقين وإخلاص، فتجد بعد ذلك صفاء الصدور وطيب النفوس وطمأنينة القلوب وراحة الضمائر وسكون الجوارح. إنها شيء ينبغ من داخل الإنسان، ويسري في أعماقه فيهدأ باله، وتصفو نفسه، ويذهب حزنه، ويظهر الإشراق والسرور على الوجه وتعلوه البشاشة والابتسامة، ولا بد من أخذ الأسباب الموصلة إلى ذلك ومنها: قوة الإيمان بالله والتعلق به إن من يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده يجد أنهم كانوا أسعد الناس، فلا شكوى ولا تذمر ولا توجع ولا تسخط، وإنما رضا وثقة في الله وتوكل عليه عجيب، مع فقرهم وحاجتهم وقلة ما بأيديهم. وكلما كان المرء أقرب إلى ربه متبعا لهديه كان إلى السعادة أقرب وبها أجدر، ولذا يقول سبحانه فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وفي المقابل ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول أرحنا بالصلاة يا بلال فهي سر من أسرار السعادة، وهذا هو الذي عناه سيعد بن المسيب رحمه الله -أحد التابعين الصالحين العابدين العالمين- بقوله لو يعلم الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف والسر في ذلك أن السعادة بيد الله فلا يعطيها لأوليائه وعباده الصالحين المتقين فتجدهم مع فقرهم وحاجتهم سعداء. يروى أن زوجا غاضب زوجته، فقال لها متوعدا : لأشقينك. قالت الزوجة في هدوء : لا تستطيع أن تشقيني، كما لا تملك أن تسعدني. فقال الزوج: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة: لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو زينة من الحلي والحلل لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون!.. فقال الزوج في دهشة وما هو؟ قالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي!.. رضا العبد بما قسم الله له السعادة تكون في رضا العبد بما قسم الله جل وعلا له في هذه الدنيا وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، تحقيقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم انظروا لمن هو أدنى منكم ولا تنظروا لمن هو أعلى منكم فإنه أحرى ألا تزدروا نعمة الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وكلما قنع ا لمسلم بما قسم الله له كلما هدأت نفسه واجتمع شمله وصفا فكره، وكلما تطلع إلى غيره كلما تفرق شمله وتوزع همه وانشغل فكره واضطربت نفسه، فهي تريد تحصيل ما في أيدي الناس والوصول إلى ما معهم وأنى لها ذلك. الرضا بقضاء الله وقدره ومن أسباب السعادة الرضا بقضاء الله وقدره وعلمه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والابتعاد عن التحسر على الماضي والتلهف على الفائت، فإن التحسر على الماضي من أسباب قلق النفس المذهب للسعادة، والخوف من المستقبل يجعل الإنسان دائما مضطربا في حياته يحمل الهم بين جنبيه، فأي سعادة يمكن له أن يجنيها. السعادة في التوكل على الله والسعادة تتحقق عندما يثق المسلم بربه، ويتوكل عليه حق التوكل، ويلجأ إليه في سرائه وضرائه، ويقدم مرضاته على هوى نفسه، ويعلم يقينا أن الله جل وعلا لن يضيعه ولن يسلمه، وعند ذلك تتحقق له السعادة، فهو لا يقلق من مستقبل ولا يخاف على أولاده وزوجه قد وضع أمام عينيه وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا وتأمل تلك الطمأنينة التي ألقيت في قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم عاد من الطائف، دامي القدمين، مجروح الفؤاد من سوء ما لقي من القوم، فما كان منه إلا أن رفع يديه إلى السماء، يقرع أبوابها بهذه الكلمات الحية النابضة، فكانت على قلبه بردا وسلاما: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. البعد عن معاصي الله السعادة تكون عندما يبتعد المسلم عن معاصي الله ويجتنب حرماته فلا يقع فيها، فإنها سرور لحظة يعقبه ندم وقلق واضطراب نفسي وذهني، وهذا أمر مشاهد معروف وفي الأثر إن للمعصية لظلمة في الوجه وضيقا في الصدر... مصداقا لقول الله جل وعلا ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى والمعاصي تذهب الخيرات وتزيل النعم وتمنع الرزق وتغلق الأبواب قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة وفي الحديث إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه تلك بعض أسرار السعادة وكلما مضى الإنسان في هذا الطريق وسلكه كلما ظهرت له آفاق السعادة أمام عينه واضحة جلية، وكلما استطاع التمكن منها والحصول عليها على حقيقتها لا الحصول على سراب خادع ولا متاع زائل.