قصة قصيرة.المــهــاجــر

تراءت لها أصداء الماضي في صوره المتعددة أشكالا وألوانا تثير في نفسها كوامن الحزن والشجن.. فذكريات الماضي أشبه برذاذ المطر المتساقط على أوراق الشجر وهي تتناثر في خفة وليونة، حتى إذا ماظهر نور الشمس الباسمة أخذت تبث بريقها على وريقات الزهور القابعة في أكنان الأرض تنظر إلى الأفق وكأنها تستلهم السماء القدرة على الصبر والجلد على مالاقته من ابن عمها حامد.. بعد كل ماصنع، ترى أيمكن لإنسان أن يرفع راية النسيان في وجهها بهذه القوة والصلابة؟! طالما هو كذلك فإنه الابن البار لأبويه ولأسرته في إشكالاته المتعددة، وهل تكفي كل تلك الكلمات التي بعثتها إليه في آخر رسالة عن حاجتها للقياه هناك لأقل فترة ممكنة؟! أم أن هناك امرأة أخرى وراء كل هذه الرغبة المتحتمة في البقاء في الغربة؟! لقد قرأت كثيرا عن أولئك الذين اقترنوا بزوجات أجنبيات يساعدن أزواجهن في الثبات في تلك البلاد. ليتها سمعت كلام عمها، ووافقته عندما طلب حامد الاقتران بها قبل السفر، والرحيل إلى أمريكا سوية، لكنها رفضت ذلك وكان شرطها الوحيد هو السفر ثم العودة بشهادة الدكتوراه.. وهو أيضا كان أمله الحصول على شهادته العليا ولكن؟ هل تنفع كلمة ليت في هذه المصيبة التي تحس بأنها تزلزل كيانها وتزرع في نفسها كل هذا الرعب وتلك الآلام.. هل يمكن أن يفرط بكل مثله أو قيمه ومبادئه؟! ينساها أو يتناساها فجأة؟! لقد كتبت إليه أكثر من رسالة ذكرته فيها بأرضه وبيته وأصدقائه، وكم هي بحاجة إليه وحاجة بلاده إلى أمثاله. وكتبت وكتبت لكن مامن مجيب على كل تلك الرسائل، وكأنه استغنى بكتابة رسالة عن الإجابة على رسائلها التي بعثتها إليه. وهل يمكن أن تدعه يمضي إلى خطوته التي اقتنع بها دون أن تفعل شيئا حيال ذلك العزم؟! إلا أن دوامة الشك في صرف نوايا حامد تجعلها تعتقد أن بقاءه في أمريكا ليس فترة، وإنما هي أعذار واهية اتخذها مدخلا لحياته التي أرادها ورسمها لنفسه.. ولكنه أنكر في رسالته الأولى الارتباط بفتاة غيرها. ألا يذكر هذا الغادر أن أباه أو أمه وحبيبته ينتظرونه بفارغ الصبر، أو أنه نسي كل هذا في غمرة الحياة التي عاشها أكثر من ثمانية أعوام على التوالي إلى أن جاءت منى إلى عمها في بيته لتتحدث إليه، فهي تعرف رجاحة عقله وقدرته على التفكير في هذه الأمور الصعبة، ولهذا استأمنته على مايجول في خاطرها، فلربما يستطيع أن ينير لها الطريق بنور النصيحة. - عمي إن الحديث الذي جئتك من أجله هو تلك الرسالة التي تلقيتها من ابنك حامد. - أعلم يابنتي، لقد استلمت رسالة منه أيضا، وأعرف مايجول في خاطرك. - أعتقد أن في الأمر فتاة أخرى. - نعم أعلم هذا، أخبرني برسالته أنه متزوج من أمريكية اسمها سارة، ولها من حامد ولد عمره ست سنوات وبنت عمرها ثلاث سنوات، وأنه سيبقى هناك بحكم عمله.. آه يامنى، ذلك يوحي بأنه سيبقى هناك زمنا طويلا دون أن نراه جميعا، ولكن لابد أن يحن يوما لبلده ويضطر للعودة إلينا بشوق وحنين إلى أهله وأصدقائه. - أطرقت منى رأسها إلى الأرض من هول هذا الخبر الذي هوى عليها كالصاعقة. - قالت لقد أرسل إلي رسالة ولم يخبرني أنه كان متزوجا.. لقد أخبرني أنه أراد أن يبقى لفترة، وهذا يوحي لي بأنه لايريدني. - قال عمها: ربما لايريدك أن تنزعجي منه في مثل هذا الخبر السيئ، فلا تقلقي، فإنني كفيل في إعادته إليك فأنت أحق به مهما كان الأمر. فاستدارت منى مخفية ملامح وجهها، ثم قالت بصوتها المتحشرج وهي تمسح دمعه.. انحدرت على وجنتها وكأنها تترجم أحاسيسها كلها في تلك الدمعة: سأدع الأيام تدمي جراح هذا القلب المسكين.. أنا التي رفضت منذ البداية بحجة ذلك الشرط.. لقد وقع قدر الله بالفراق بيني وبينه إلى الأبد.