أسباب رفض الحق كما يراها ابن القيم

مما يعاني منه كثير من الناس قضية رفضهم للحق واستنكافهم عن العمل به، بل ومحاربته أحيانا ومقابلته بالباطل أحيانا كثيرة، متناسين في ذلك أو غافلين عن الحقيقة الهامة وهي أن رفض الحق من الكبر الذي توعد الله به صاحبه بأن لا يدخل الجنة، فقد جاء في الحديث لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ... ثم فسر الكبر بقوله الكبر بطر الحق وغمط الناس وكما هو معلوم فإن اكتشاف الداء طريق إلى الدواء، وإذا عرفنا الأسباب التي تؤدي إلى رفض الحق وعدم الانصياع له، استطعنا أن نتجاوز تلك العقبة ونتلافى هذه المشكلة. وموضوع رفض الحق ليس بالشيء الجديد، بل هو أمر ملازم للبشرية منذ القدم، ولا أدل على ذلك من رفض مشركي قريش الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع قناعتهم بأن ما جاء به هو الحق، بل قبل ذلك عدم استجابة الشيطان لأمر ربه مع تيقنه بأن الله جل وعلا حكيم عليم، ولذا كان لزاما أن نتعرف على هذا الداء العظيم الذي لازم البشرية طول هذه المدة من الزمن والذي سيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها والإمام ابن القم رحمه الله يعرض لنا بعض الأسباب التي تؤدي إلى رفض الحق بأسلوب سلسل واضح فيقول رحمه الله: الجهل وعدم العلم من أول هذه الأسباب الأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا، فمنها الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئا عاداه وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق ومعاداته له وحسده كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه ومن يحبه ويعظمه قوى المانع، فإن انضاف إلى ذلك توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه قوى المانع من القبول جدا، فإن انضاف إلى ذلك خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبين له الهدى كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى . الحسد من أعظم الأدواء ومن أعظم هذه الأسباب الحسد، فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه وأوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد، فإنه لما رآه قد فضل عليه ورفع فوقه غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان، بعد أن كان بين الملائكة، وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهاد والقضاة والأمراء، هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة يخالفها، ولم يقاتلهم وإنما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفا ورحمة وإحسانا، وجاء مكملا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان، فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتا لهم بقبائحم ومناديا على فضائحهم، ومخرجا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه وهم معه دائما في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم، وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم . هذا السبب جعل كفار قريش لا يؤمنون وقد قال المسور بن مخرمة وهو ابن أخت أبي جهل لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختي والله لقد كان محمد فينا وهو شاب يدعى الأمين فما جربنا عليه كذبا قط. قال: يا خال فما لكم لا تتبعونه؟ قال يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي. فمتى ندرك مثل هذه. وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش.