قصة قصيرة لقـاء

تسمرت مكاني.. شهقت شهقة عميقة... توقفت عيناي في المآقي، تحدقان صوبه متأملة تفاصيل وجهه.. اقترب مني بتؤدة... توقف لحظة تأملني خلالها بدقة... ساد الصمت من الطرفين وسط زحام الشارع وضوضائه... كان الموقف دقائق خلتها دهرا... ارتجفت أطرافي... انزلقت كتل من الجليد في مفاصلي فسرت قشعريرة باردة في كياني، حركت يدي بصعوبة أمامي عيني لعلها غمامة أو أضغاث أحلام أستفيق منها... لكن الأمر كان حقيقة... تمالكت نفسي المتهالكة... استعدت شيئا من رباطة جأشي... تقدمت نحوه ببطء... تحرك لساني بصعوبة وتمتمت شفتاي بكلمات متقطعة أذكر منها معلمي... العزيز هز رأسه مبتسما فبدت لي ذكريات الفصل والمدرسة كشريط سينمائي مر في ذاكرتي... نعم... إنها ذكراه التي لا تمحى من جدار الذاكرة... كنت يومها ابنة أحد عشر ربيعا ـ في الصف الخامس الابتدائي تحديدا ـ حين غادر إلى دولة عربية ليدرس هناك... كنت أحلم برؤيته ليل نهار... أستذكر ضحكاته كل يوم... أحس بلمساته الأبوية الحانية على رؤوسنا الصغيرة الصاخبة التي تعج بآلاف الرؤى والأفكار البريئة... أستذكر تحيته الصباحية عندما يدخل غرفة الصف... أستذكر عظاته اليومية التي كانت تبذر في نفوسنا الأمل والتفاؤل بالمستقبل المشرق... ومن مواعظه التي ما زالت عالقة في ذهني: عليكم يا أبنائي أن تكونوا جادين في دروسكم، وألا تهملوا واجبكم البيتي لتكونوا في المستقبل أعضاء فاعلين في المجتمع. كان يشرع في الدرس بشيء من المرح والدعابة الموجهة ليهيئ نفوسنا كي تقبل الأفكار فيشرح لنا بجد وعناية فائقين حيث لا يخلو الأمر من فسحة للضحك البريء والدعابة الجميلة للترويح عنا من جفاف المنهاج، وعناء الدرس. كنت أستعرض تلك الصور والذكريات، وأتقدم نحوه ببطء حتى لم يعد بيني وبينه سوى مسافة قصيرة جدا... أشار بإصبعه نحوي قائلا: أنت... فلانة... تلميذتي المهذبة النشيطة... ولكنك الآن أكثر بهاء وتألقا... ها قد غدوت صبية في الثامنة عشرة من العمر تقريبا... أليس كذلك؟!... هززت رأسي مبتسمة.. نعم يا أبا لم ينجبني... لقد كنت بديلا عن أبي الذي افتقدته منذ نعومة أظفاري... وهنا تملكتني رغبة في البكاء حين مرت صورة أبي بمخيلتي كالطيف الخاطف. رجعت بذاكرتي سبعة أعوام مضت حين كنت طفلة واعدة بعمر الورد... طفلة تمشي بثقة مطلقة بنفسها، رافعة رأسها بشموخ وعزة... ترسل شلالات شعرها الذهبي على كتفيها لتداعب نسمات الصباح بعناد وكبرياء... رمشت عيناي فسالت منها دموع ساخنة قلت له: أما زلت تعتبرني ابنتك يا أبي ومعلمي الغالي...؟ أجاب: نعم. فأنا كذلك ما دامت عروقي تنبض بالحياة... فهل تقبلين ذلك؟... نعم... وكيف لا أقبل وأنت بحر الحنان الذي غمرني حين افتقدت مصدره الحقيقي عندما كنت طفلة صغيرة...؟... كيف لا وأنت الذي غرس في نفسي معنى الحب وإرادة الحياة؟!... كيف لا وأنا التائهة الحيرانة التي تبحث عن ملاذ تأوي إليه... تبحث عن أب افتقدته قبل أن تفرح بمعنى كلمه بابا...؟! عندئذ أطرق قليلا... ثم رفع رأسه فقرأت ملامح الحزن على وجهه حيث كان لكلماتي وقع مؤثر في نفسه... دنا مني... مرر يده على شعري بحنان شعرت معها بالطمأنينة والراحة، والأمان... أحسست بالدفء يتخلل مفاصلي وبالفرح يملأ جوارحي... أحسست لحظتها أنني لا زلت في نظره تلك التلميذة الصغيرة ابنة الأحد عشر ربيعا... نعم... إنها الحياة بحلوها ومرها... إنها الحياة بمفارقاتها العجيبة.. تفقد من تشاء أعز ما يملك... وتمنح من تشاء أغلى وأجمل ما يحب ويبتغي.. إنها إرادة الله في خلقه.