فهمي هويدي... فشلت في النقد الأدبي!!

ربما يكون الفارق بين أن يحكي بعضنا عن الفشل في حياته وبين أن يحكي البعض الآخر عنه أنه يبدو لدى البعض نوع من النفس العميق واستدعاء الماضي في هدوء وبدرجة عالية من الرضا والقبول، ولكنه لا يبدو كذلك عند الآخرين ممن باتوا مقتنعين بوحشة الحاضر وخطأ الطريق. وحين يسألني البعض الآن.. ماذا عن الفشل في حياتك؟ أجدني جاهزا ودون عناء لاستحضار مفردات فشل لا أنساها، وأجدني بالقدر ذاته مجهدا في استدعاء مفردات أخرى تبدو أبعد في قاع المخ عن تلك التي لا تعرف الترسيب أو الانزواء.. لقد عشت حياتي بطريقة أكثر جدية مما عاشها الكثيرون.. فالحياة عندي مسؤولية، هي ليست مجرد متعة أو إشباعا للرغبات، بل هي فعل وحركة ومسؤولية. واليوم.. وبعد 44 عاما من العمل أجد أن الكلمة الصادقة.. كلمة الحق، هي جوهرة ثمينة، كانت عماد حياتي وهي الأفق لها فيما هو آت. الكلمة عندي أقوى من القنبلة الذرية.. أحيانا، هي تعني في آن كل ما هو جميل ونبيل، وتعني في آن آخر كل ما هو شرير. وإجمالا فالكلمة دعوة للانقلاب.. الكلمة محاولة انقلابية! وبالنسبة لي شخصيا فإن ما تستهويني هي الكلمة المدببة.. الكلمة التي تسبب وخزا، وهناك مقولة لأستاذي زكي نجيب محمود الفيلسوف المعروف يجب أن تخرج من المقال أفضل مما دخلت. والواقع إن إيماني وتقديري للكلمة قد بدأ عندي منذ الصغر، وإن كان التقدير قد تجاوز إلى الاحتراف والمسؤولية فيما بعد.. للكلمة.. أثر ودور. كان والدي أحد مؤسسي حركة الإخوان المسلمين، وكانت لدينا مكتبة إسلامية فتعودت عيناي القراءة منذ سني الطفولة الأولى. وحين كنت في المرحلة الابتدائية كان هناك نظام بارع تتبعه أغلب المكتبات العامة لبيع الكتب بالتقسيط المريح بحيث يكون مبلغ القسط الشهري بحد أقصى خمسة وعشرين قرشا. ولأنني كنت طفلا في بيت يعشق القراءة، فقد شجعتني أسرتي وظروف نشأتي على أن أحوز الكتب باستمرار.. إما في شكل استعارة وإما في شكل كتب مشتراة بالتقسيط. وعلى الرغم من تلك الأجواء الثقافية والمعرفية المحيطة بي، وهي الأجواء التي تهيئ بطبيعتها لخلق حس إبداعي أو بث الرغبة في إكمال مسيرة المعرفة والفكر.. فإنه لم يخطر ببالي قط أن أكون كاتبا! لقد كنت أكتب بالفعل منذ فترة مبكرة من حياتي، فعملت بالمجلات المدرسية والجامعية فيما بعد.. ومجلة الإخوان بعد التخرج في كلية الحقوق.. وكل ما كان في ذهني بعد تخرجي أنني سأنتهج نهجا منطقيا بالعمل كمحام في القاهرة. وهكذا فإن الهدف الطبيعي الذي فكرت فيه لحياتي لم يتحقق، وأما حياتي التي جاءت فيما بعد فلم أكن أفكر فيها كما أتت.. وفي عام 1954 عملت رساما للكاريكاتير في مجلة الإخوان المسلمين، وكنت أتقاضى مبلغا خرافيا وقتها (خمسون قرشا) على اللوحة، بحيث كان إجمالي ما أحصل عليه ثلاثة أو أربعة جنيهات في الشهر، وهي ثروة لا يمكن التقليل من أهميتها! وكانت محطة الإخفاق الأولى في حياتي.. فلم أكمل طريق الكاريكاتير رغم أنني كنت مقتنعا بنفسي تماما كرسام للكاريكاتير! بعد هذا الفشل.. قررت أن أتجه إلى النقد الأدبي، وبدأت أتابع مجلة الآداب اللبنانية، وكانت إخفاقة أخرى.. فلقد سجنت عام 1954م ولم أتمكن من تحقيق النجاح المرجو في النقد الأدبي. إنني مؤمن جدا بقول الشاعر: مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها على أي حال.. فقد توقفت الخطى داخل السجن، غير أن الوقت كان يمضي، إلى أن كان عام 1956م فخرجت من السجن.. متجاوزا فشلي السابق في أن أكون رساما للكاريكاتير ثم فشلي اللاحق في أن أكون ناقدا أدبيا. وعندما خرجت من السجن دخلت إلى الصحافة، كان رجاء مكاوي زوج أختي صحفيا في أخبار اليوم، وكان صديقا لصلاح جلال الذي انتقل من أخبار اليوم إلى الأهرام.. وعملت مع صلاح جلال في القسم العلمي بالأهرام. ولم يكن عملي هذا في الصحافة العلمية حبا في الصحافة، كما لم يكن رغبة في وظيفة أعمل بها أو مهنة أمارسها.. وإنما كانت محاولة إنسانية لشاب يحاول استعادة ما فاته في عامين من السجن! ثم كان التحول المهم في حياتي في منعطفين.. أولهما.. عندما قرر أحمد بهاء الدين إصدار صفحة للفكر الديني في جريدة الأهرام عام 1972م. ولم تكن هذه الصفحة للفكر الإسلامي وحده، بل كانت صفحة فكر ديني.. للإسلام والمسيحية.. وكان يشترك في تحريرها صحفيون مسلمون ومسيحيون، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أكتب فيها في قضايا الفكر الإسلامي. قبل التحاقي للعمل بصفحة الفكر الديني بالأهرام كنت قد مررت من القسم العلمي إلى الديسك كمراجع للأخبار دون أن أعمل محررا خبريا. ولما انتهيت إلى الفكر الديني.. كان ذلك تحولا في حياتي المهنية من العمل الصحفي العام إلى العمل الصحفي الأقرب للتخصص. ومنذ ذلك الحين بدأت أهتم بالكتابة في الموضوع الإسلامي.. بعد انقطاع دام فترة طويلة من عام 1958م إلى عام 1972م أي بعد ما يقرب من 14 عاما.. لم أطرق خلالها هذا الباب على الإطلاق. ثم كان ثاني أهم منعطفين في حياتي عام 1976م، عندما أوقفني الرئيس السادات عن العمل: كتبت مقالة أنتقد فيها وزير الأوقاف، وكان وقتها الشيخ أحمد حسن الباقوري، كان الشيخ الباقوري قد قال إن الإسلام ليس فيه انتخاب، وإن علينا أن نبايع السادات مدى الحياة. وقد قمت بالرد عليه من وجهة نظر الإسلام، وكان عنوان مقالي الرد على الباقوري وقلت فيه ما معناه.. بايعوا السادات أو انتخبوه ولكن لا تنسبوا للإسلام ما ليس فيه. وتم منعي من الكتابة، واستدعاني السيد مرعي وقتها وطلب مني البحث عن عمل آخر. في هذه الأثناء كان أحمد بهاء الدين مديرا لتحرير مجلة العربي ومقرها الكويت، وطلبني للسفر معه، وفي خلال أسبوع واحد كنت في الكويت، وهناك انتقلت من الصحافة اليومية إلى المجلات الثقافية الشهرية. وعلى الرغم من أن إبعادي عن الأهرام وصفحة الفكر الديني وقتها كان إخفاقا بدرجة ما، فإن الفترة التي قضيتها في الكويت يعود لها الفضل في منحي فرصة القراءة أكثر وإنتاج كتب أكثر. كان التجول في العالم الإسلامي محطة مهمة تزامنت مع عملي في مجلة العربي وكانت هذه هي المرة الأولى التي أنتقل فيها إلى الساحة الفكرية، وكانت بداية مشروعي الفكري الذي نبت بداخلي واستمر بعد ذلك. عقب هذه المحطة ذهبت إلى إنجلترا، وعملت هناك في مشروع يسمى وكالة الصحافة الإسلامية، ولم يستمر المشروع أو بمعنى أدق فإنني لم أستمر معه! وتقديري ـ من هذه التجربة ـ أن أي شخص راغب في العمل في مجال الصحافة الإسلامية لن يصل إلى نتيجة مثمرة إلا إذا بدأ عمله في مصر.. ومن هنا قررت العودة إلى مصر.. ومن ثم إلى الأهرام. وإذا كانت هذه محطات المهنة في حياتي.. إخفاقا ونجاحا، فإن كل مراحل حياتي تمثل طريقا موازيا ومتداخلا لحياتي الأخرى.. حياتي الشخصية، فلقد تزوجت عام 1968م أي منذ 34 عاما.. ولي ابنتان وابن واحد، إحدى الابنتين تعمل صحفية بـ (الأهرام ويكلى) والثانية في إدارة الأعمال، والولد متخرج في الجامعة الأمريكية ولديه شركة خاصة. وكل مرحلة في حياتي مرتبطة بهم.. ميلادهم وتعليمهم ونجاحهم وعملهم وزواجهم.. وإذا كانت لي أمنية الآن فهي أن يكون لي أحفاد، وإذا كان من اعتراف فإنني في مرات عديدة.. لا أقاوم ضعفي الإنساني.. فلا أحبس دموعي ومشاعري.. وإذا كان من قول أخير.. فإن المحطة الأخيرة في حياتي لن أتمكن من اللحاق بها!