تحرير المفاهيم

تعاني كل الأمم والشعوب من تهجين التصورات والمفاهيم، حيث يعمل الخيال الشعبي على صياغة رؤى الناس عن الماضي والمستقبل، وعما هو كائن وماينبغي أن يكون على نحو يجعلها قريبة مما يطفو على سطح الحياة الاجتماعية. إن المخيال الشعبي يهمه دائما أن يسك المفاهيم والرؤى والأفكار التي تحمل خاصية الذيوع والانتشار، أي تلك التي تكون قريبة المأخذ سهلة الحفظ؛ ولو كان ذلك لايتم غالبا إلا على حساب صحتها وعمقها. إن تجربتنا الثقافية عبر التاريخ تجعلنا نتوجس خيفة من المفاهيم الأكثر انتشارا ، ففي خلال عملية الانتشار تتعرض للكثير من الانتهاك والتحريف والتسطيح؛ وتمارس بالتالي دورا مفضلا لمعظم الناس. ولهذا فإننا اليوم في أمس الحاجة إلى مراجعة الكثير من المفاهيم السائدة في حياتنا؛ لأننا من غير ذلك لانستطيع أن نحرر ذواتنا من الأوهام، كما لانستطيع أن نهتدي إلى الطريق الحضاري الصحيح. ولعلي هنا أمارس دور المراجعة للمفاهيم الأربعة التالية: 1- قدرة أم إرادة؟ العبارة التي لايمل الناس عندنا من تكرارها، هي نحن لانستطيع أن نقول كذا، نحن لانستطيع أن نفعل كذا.. وهم في حقيقة الأمر يقدرون، لكنهم لايريدون. هل يستطيع أحد أن يصدق أن أمة الإسلام بطولها وعرضها غير قادرة على حماية نسائها وأطفالها في فلسطين، وعاجزة عن تقديم الدعم لإخواننا هناك حتى ينتزعوا حقهم بأيديهم؟! إن الذي يحاول ويجرب ثم لايستطيع هو وحده الذي يمكنه أن يقول: أنا لاأستطيع. أما الذي لم يحاول فإنه لايريد أن يصنع شيئا. وهذا ماعلمنا إياه القرآن الكريم: إنما يستأذنك الذين لايؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون، ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين. إن ترك المنافقين للاستعداد بالسلاح والزاد والراحلة من أجل الخروج للجهاد دليل على أنهم أرادوا التخلف وعدم الخروج. 2- ذكاء أم عمل؟ إذا رأى الناس شخصا متفوقا فسروا تفوقه بالذكاء والموهبة. وهذا التفسير أيضا مما صنعه المخيال الشعبي، حيث يقول الناس: الديك الفصيح من البيضة يصيح! وهو تفسير غير دقيق. لاأحد ينكر قيمة الذكاء والموهبة في التفوق والنجاح، لكن تلك القيمة أقل بكثير مما نظن؛ وذلك لأن البارئ- جل وعلا- أعطى الذكاء للأمم بالتساوي وتقدم الشعوب التي تقدمت لم يكن بسبب الإمكانات الذهنية، ولكن بسبب التثقف والتدريب والتنظيم والعمل والمثابرة. أما الأمم المتخلفة فإنها لم تتخلف بسبب انخفاض مستوى ذكائها، ولكن لأن معظم أبنائها لم يمتلكوا العادات العقلية والنفسية والسلوكية التي يمتلكها الناجحون. 3- نجاح أم انحراف؟ الناس اليوم مفتونون بالنجاح والناجحين، ويعدون ناجحا كل من استطاع تكوين ثروة عريضة وإقامة علاقات واسعة، وامتلاك شخصية جذابة. ولايتساءلون: كيف تم ذلك وما الأدوات والأساليب التي استخدمها ذلك الناجح للوصول إليه؟ وهذا مصادم للرؤية الإسلامية الواضحة إلى حد التألق، والتي تقول: كل نجاح لايصب في النجاح الأخروي ويساعد عليه هو نجاح مؤقت وصغير. وكل نجاح لايتم عن طريق مشروع هو خسران مبين في الدنيا يجعل المرء ينقسم على ذاته، وخسران مبين في الآخرة يوم يعود لكل ذي حق حقه. 4- هدف أم أمنية معظم مايداعب خيال الناس أمنيات وتطلعات وطموحات، وقد تعودوا تسميتها أهدافا. مع أن الهدف لايكون هدفا إلا إذا كان واضحا محددا، وكان لدى صاحبه برنامج وخطة للوصول إليه. ولو أن 10? فقط مما يسميه الناس أهدافا كان فعلا كذلك لتغير حال العالم!! تحرير المفاهيم وتصحيح التصورات جزء من تكاليف الريادة الثقافية، وعلى المثقفين الرواد أن يدفعوا تلك التكاليف عن طيب خاطر. والله الهادي.