الاعتدال في الدعوة إلى الله

ا يشك أحد من المسلمين في فضل الدعوة إلى الله جل وعلا وعظم ما فيها من الأجر والثواب والفضل والمنزلة عند الله جل وعلا، فهي وظيفة رسل الله الذين اصطفاهم الله من بين خلقه وفضلهم على العالمين، بل وامتدحهم بقيامهم بهذا الأمر العظيم. ولا عجب بعد ذلك أن ترى الآيات والأحاديث ترد في فضيلة الدعوة إلى الله وعظم منزلتها، ومن أعظم الأدلة قوله تعالى ومن أحسن قولا من دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين فالله جل وعلا ينفي نفي تحد أن يكون هناك قولا أحسن من الدعوة إليه والعمل الصالح وقول إنني من المسلمين. بعض الداعين إلى الله بين طرفي نقيض ومع حرص كثير من الشباب إلى الدعوة إلى الله واهتمامه بها، إلا أننا نجد أن البعض منهم بين طرفي نقيض، بين إفراط وتفريط، بمعنى آخر بين مغال ومشدد وبين متساهل ومفرط. ومن تتبع منهج الإسلام في الدعوة والذي سار عليه نبينا صلى الله عليه وسلم يجد أن الاعتدال في الدعوة إلى الله أمر هام وملح، بل واجب لا بد من الاعتناء به، فلا إفراط ينفر الناس من الدعوة، ولا تفريط يقر أهل الباطل على باطلهم، بل هو أمر وسط يشتمل على تبليغ الإسلام وأحكام الله ورسوله إلى الناس كافة بوضوح تام، مشتملة على التبشير وإظهار يسر الإسلام وسماحته، وفي نفس الوقت لا يسمح بالتنازل عن أحكامه وشرائعه والمجاملة فيها أو إقرار المنكر والسكوت عنه بحجة عدم تنفير الناس، كذلك لا يرضى بإقرار الناس على باطلهم وانحرافاتهم بحجة جمع كلمة المسلمين ولم شملهم. الغلو في الدعوة إلى الله إن بعض الناس تجده يدعو الناس إلى فعل السنن مثلا دعوة من يعتقد أنها واجبة بالإجماع، بل ربما يصل بعضهم إلى تكفير بعض لتركه تلك السنن، كما ذكر فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله يقول كنت في الحج فرأيت خلافا حادا بين طائفتين من الشباب فنظرت فإذا كل طائفة تكفر الأخرى، وحجتهم واحدة والمسألة هي هل يضع الإنسان يديه على صدره في الصلاة أو يسبلهما، فطائفة تقول إنه يضع يده على صدره في الصلاة، ويقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فمن رغب عن سنتي فليس مني وأنتم رغبتم عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلستم بمسلمين، والطائفة تقول إن اليد في الصلاة تكون مسبلة ويستدلون بنفس الدليل. أقول هذا هو الغلو في الدعوة إلى الله، فالمستحبات والسنن الرواتب سواء كانت قولية أو فعلية، تبقى في حدود حكمها الشرعي، ولا تنتقل إلى الوجوب مهما كان، ويجب أن يكون الداعي إلى الله على بصيرة من أمره فيدعو إليها في حدود حكمها الشرعي دون مبالغة تحولها إلى الوجوب. والبعض الآخر يفترض أن يكون كل الناس على علم بدين الله وفهم لتفاصيل أحكامه، ولذا فإنه لا يستخدم في دعوته إلا أسلوب الإنكار والتشهير والشدة والعنف، ظنا منه أن الناس لا يستجيبون إلا بهذا الأسلوب، وهذا هو الجهل بعينه وهو الذي يجعل الكثير من الناس ينفرون من الدين. التساهل والتفريط في الدعوة وبينما تجد هذه الطائفة في هذا الغلو في الدعوة إلى الله، تجد على العكس من ذلك تماما طائفة فرطت في أمر الدعوة بأشكال متعددة من التفريط، فالبعض يتقاعس عن الدعوة مع أن المجال مفتوح له والجو مهيأ والنفوس مستعدة، ولكنه الإعراض وعدم الاهتمام والظن بأن الدعوة إلى الله خاصة بالعلماء فقط وطلبة العلم أو من يحلمون الشهادات الشرعية. ونسي أو يتناسى أن الدعوة إلى الله مسؤولية الجميع، كل بحسب طاقته وجهده. وطائفة أخرى جعلوا همهم جمع كل من يشهد أن لا إله إلا وأن محمدا رسول الله تحت لواء واحد، بغض النظر عن انحرافاتهم في العقيدة وضلالهم في عباداتهم وغير ذلك، فهو من أجل ذلك لا يتعرض لإظهار الدين الصحيح والمعتقد الصافي النقي، بدعوى أن ذلك مما يفرق الجماعات، ونسي أن واجب الداعية إلى الله توضيح الدين الحق والمعتقد الصحيح، والدعوة إلى هجر البدع والمنكرات حتى يتميز الخبيث من الطيب. وآخرون ظنوا أن مجاملة الناس وعدم الإكثار عليهم في الدعوة نوع من السياسة وحسن التعامل، فتركوا دعوتهم إلى الدين الصحيح مع ما يجدونه ظاهرا عليهم من التقصير والتفريط. منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسط بين الأمرين ولو تفكر الطرفان في منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وتأملوا كيف كان يدعو إلى الله لعلموا بطلان ما هم عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف الأعرابي الذي جاء وسأله عن فرائض الله، فلما أخبره بها قال: والله لا أزيد ولا أنقص لم يعنفه على تركه للنوافل والسنن والتطوع، وإنما قال أفلح إن صدق فلا غلو إذ في الدعوة. وهو في نفس الوقت لم يقر أصحابه حين حاولوا إطراءه مثلا بحجة عدم تفريقهم في الدين، وإنما قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ... ولما جاءه الأعرابي يستأذنه في الزنى، لم يأذن له بحجة أن هذا يرغبه في الإسلام، ولما جاءه أحد وفود العرب يستأذنه في ترك بعض الأحكام الشرعية، لم يأذن لهم في ذلك بحجة السلم والمسالمة وكسبهم إلى الدين، كل هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلم التفريط إذن؟! ومن تأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على واحد وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة لو تأمل هذا الحديث لعلم أن قضية سكوت الداعية على انحرافات المسلمين العقدية والتعبدية بحجة توحيد كلمتهم أمر يرفضه الإسلام ولا يقبله أبدا، وإلا لما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالنار على الفرق المنحرفة المخالفة لنهجه. والخلاصة أن المنهج القويم في الدعوة إلى الله هو الاعتدال فلا إفراط ولا تفريط لا غلو ينفر الناس ويبعدهم عن الدين ولا تفريط يقر الناس على بدعهم وضلالهم.