أحمد بن أبي أصيبعة .. عين الأنباء في طبقات الأطباء!!

تناقلت علم الطب أسر عرفت في تاريخ الطب، فكان منها مثلا: أسرة الاسكلابيين عند اليونان، وأسرة بختيشوع في أوائل الدولة العباسية، وأسرة زهر في الأندلس، ومن هذه الأسر أسرة ابن أبي أصيبعة، عرف منها عدة أطباء وخليفة وولدان له هما: قاسم وعلي، وحفيد هو أحمد بن قاسم المعروف بإبن أبي أصيبعة. هو موفق الدين أحمد بن قاسم، وكني بأبي العباس قبل أن يطلق عليه لقب جده ابن أبي أصيبعة، وبصرف النظر عن الأسرة فعند ذكر ابن أبي أصيبعة يكون موفق الدين هو المقصود. ولد ابن أبي أصيبعة في دمشق سنة 1203م زمن الملك العادل شقيق صلاح الدين، ويعتبر من أهم المؤرخين لتاريخ الطب عند العرب، فقد عاش في بيئة حافلة بالدرس والتدريس وبالطب والمعالجة، تتلمذ على يد أئمة العلم في دمشق والقاهرة، ومنهم والده قاسم وعمه رشيد الدين علي والشيخ مهذب الدين الدخوار والحكيم عمران بن صدقة والعالم النباتي الشهير ابن البيطار. تلقى علومه النظرية والعملية في بيمارستان (مستشفى) النوري بدمشق متخصصا بطب العيون بشكل أساسي، ثم انتقل إلى القاهرة لمتابعة علومه والاستزادة من مدارس القاهرة، فالتقى بأفضل الدين أبي عبد الله محمد بن ناماوار سيد العلماء والحكماء في زمانه، وناقش كتابه الأقربذين مع سديد الدين بن أبي البيان، وعمل في البيمارستان الناصري في القاهرة ونال شهرة عالية في علم الطب، وبعد دعوة من الأمير عز الدين أيبك المعظمي عاد إلى صلخد جنوب دمشق وانخرط في خدمته وبقي فيها حتى توفي سنة 1269م. عيون الأنباء في طبقات الأطباء كان ابن أبي أصيبعة طبيبا ناجحا، لكن شهرته الأساسية تعود لكتابه الذي سماه عيون الأنباء في طبقات الأطباء الذي يعتبر من أهم مراجع تاريخ الطب عند العرب، فقد أرخ هذا الكتاب لما يزيد عن خمسمائة طبيب، منهم أربعمائة طبيب عربي، فذكر فيه أخبارهم وأشعارهم ونوادرهم وتفاصيل شخصية عنهم، فكان كتابه من أمتع وأصدق ما كتب عن أطباء العرب، فقد اتبع فيه منهجا خاصا به اعتمده في التأليف، يبدأ أولا بتعريف الطبيب، ثم يذكر مؤلفاته مع تفصيل لأهم تلك المؤلفات، ثم يذكر نبذات عن أقواله وآرائه محددا نظرياته في الطب وتجربته وأسلوبه في المعالجة، ثم يدون أشعاره ونوادره من خلال حياته العملية بأسلوب ممتع وشيق، وبهذه المنهجية يؤرخ لحوالي خمسمائة طبيب في عصور مختلفة من تاريخ البشرية الطبي، ومن هنا تأتي أهمية كتاب ابن أبي أصيبعة. قال العالم مايرهوف: إن لابن أبي أصيبعة الفضل الأكبر في معرفة التاريخ الطبي والعلمي للقرون الوسطى في الشرق خاصة، وإنه كتب عن الطب الهندي واليوناني، ولولا كتابه المذكور لما تمكنا من معرفة هذا الكم الهائل من المعلومات. ? قسم ابن أبي أصيبعة كتابه إلى عدة أبواب مبتدئا بتاريخ نشأة الطب، ثم يتطرق إلى تاريخ الطب اليوناني ثم إلى أطباء فجر الإسلام، ويفرد بابا خاصا للأطباء السريان وبابا لأطباء العراق وآخر لأطباء ديار بكر، ثم ينتقل إلى أطباء فارس وبلاد الهند، ثم إلى أطباء مصر والمغرب، وأخيرا يتوسع بذكر أخبار أطباء بلاد الشام فيصل إلى أوج مقدرته وفنه. ? في هذا الكتاب من الفوائد والحكم ما لا يحصى، ومن الأخبار القديمة ما لا يستقصى، خصوصا وأنه جمع فيه ما وجده في الكتب الطبية والتاريخية الموجودة في ذلك الوقت والتي لا أثر لها الآن، لذلك أصبح كتابه من أفضل ما كتب في هذا الموضوع حتى يومنا هذا، فهو أثر جليل وعمل جبار لا يستغني عنه أحد من المؤرخين لأنه مرجع شامل، يقدم صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية والعلمية للعالم العربي في تلك الحقبة من الزمن، ويعتبر مصدرا هاما لدراسة تاريخ الحركة الثقافية وتطور الحضارة العربية الإسلامية. ? والجدير ذكره ما تضمنه الكتاب من نكات أدبية ونوادر وأبيات شعر وقصائد مما يجعل قراءته ممتعة حتى لعامة الناس من غير المختصين في التأريخ، خصوصا حين تتجلى به أمانة الطبيب وتنعكس من خلاله أخلاق المؤلف الحميدة وثقافته الرفيعة وعلو شأنه في العلوم والمعرفة وحبه الدائم لتقدم العلوم الطبية بجميع فروعها، فالكتاب حقا عين للأنباء كما سماه، تتدفق منه المعلومات التاريخية مما رفع مؤلفه إلى مراتب العلماء والأطباء المؤرخين المرموقين، ومثلا صادقا للأطباء العرب القدامى وآدابهم ومفاهيمهم لرسالة الطب والطبابة. ? راجع مخطوطات هذا الكتاب النفيس المستشرق الألماني الشهير مولر (Muller) الذي دعا نفسه امرأ القيس ابن الطحان وطبعه بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1882. ? ألف ابن أبي أصيبعة ثلاثة كتب أخرى لكنها للأسف غير موجودة، وهي: حكايات الأطباء في علاجات الأدواء إصابة المنجمين التجارب والفوائد. خاتمة بفضل ابن أبي أصيبعة وزملائه الذين كتبوا في تاريخ الطب العربي، يمكننا اليوم التعرف إلى أحوال الطب والتطبيب في عصور النهضة العلمية العربية، وإلى أخبار المشاهير من الأطباء العرب وتطور المستشفيات عندهم، وأسماء كتبهم الطبية ومضمونها وكثير من دقائق مآثرهم التي تجعلنا نقر لهؤلاء العلماء بفضلهم في حفظ هذا التراث الثمين ونقله من جيل إلى جيل، مما يجعله مهمازا لجياد الحاضر وفرسان المستقبل يدفعهم للقيام بدورهم في مسيرة الحضارة الإنسانية، أسوة بمن سبقهم من فطاحل الأطباء ومشاهير العلماء العرب الذين تركوا أثرا لن يمحى أبدا مهما أهمل المهملون منا ومهما تآمر الحاقدون علينا.