قصة قصيرة .انفصام

وسط زحام الخارجين من الصلاة يوم الجمعة، وتصافح الأكف للسلام، يغافل الولد الصغير أباه. يهرب من يديه إلى أول البلدة بجلبابه الأبيض وغطاء رأسه المخرم، يختال كالمهرة. وهناك يمسك بالحجارة، يقذفها في المدى، تسقط قريبة منه، ويتراءى له الطير، يتابعه بعينيه حتى يختفي. فيدرك لا نهائية الأرض من حوله، ويدرك أن هناك بلادا أخرى لا محالة غير تلك التي يسكن. على الصخرة يجلس ينتظره، تمر القطارات السريعة ذات النوافذ الزجاجية المغلقة، يحرك الولد لها ذراعه، تهيل عليه التراب وتمضي. يقوم بقذفها بالحجارة، ثم يعود ينتظره، حتى يلمحه آتيا من بعيد، الساند دوما ظهره إلى مؤخرة آخر عربة في القطار الحديدي الذي يمر من أمام بلدته كل حين، يشاور له بكفيه، يبادله السلام، يضحك الولد محركا كلتا ذراعيه. يعدل الساند ظهره من جلسته، يهز ذراعيه ورأسه، يبتسم حتى تبين أسنانه الصفراء. يجري الولد أمامه، يناشده أن يحمله لتلك البلاد البعيدة التي تصب القطارات الناس فيها، تلك البلاد التي يحكي المسافر عنها كل عودة. يرجوه الساند ظهره أن يعود لأهله، لكنه يجري ويجري. فإذا انقطع نفسه ووقع على الأرض، انتصب الساند ظهره واقفا حتى يقوم الولد، ينفض ثوبه، ويمسح عن شفتيه التراب فيتلطخ كفه بالطين، وتتقلص عضلات وجهه. وقبل أن تطل أول دمعة من عينيه يرمي له الواقف منتصبا من عيدان القصب الحلوة المسكرة التي تضج بها عربات القطار. يعود الولد للبيت متقافزا، وعيدان القصب بين ساقيه، يسوقها ويضربها من حين لآخر لتسرع به. تصرخ أمه ستمزقك القطارات المسرعة ذات مرة وتعاتب أباه فيضربه. يجيبهما بأنه لا يحب تلك المسرعة التي لا يجيب الناس فيها تحيته. يضربه أبوه لكنه يغافله كل جمعة ويذهب ينتظره حتى يجيء. وسط زحام الخارجين من الصلاة يوم الجمعة وتصافح الأكف للسلام، يودع الولد الكبير أباه ويهرب من أحضانه إلى أول البلدة. يجرجر ساقيه، وينظر إلى البيوت القصيرة المسند بعضها إلى بعض وكأنها صفحة قديمة من كراسة رسم عبث بها طفل. وهناك تتراءى له أسراب الطيور في كل اتجاه، يتابعها بعينيه حتى تختفي، فيعرف كل البلاد التي خبأت كل سرب. وتضيق عليه الأرض بما رحبت. يرتمي على أحد المقاعد. يمر ذو اللحية البيضاء المستند دوما إلى مؤخرة آخر عربة في القطار الحديدي الذي يمر ـ كالسلحفاة ـ من أمام بلدتهم كل حين، ويشاور له بكفيه، يجاهد الولد الكبير في رسم ابتسامة، يعدل ذو اللحية البيضاء من جلسته، يبتسم حتى تبين لثته، ويهم بأن يرمي له من عيدان القصب لكن الولد الكبير بسرعة يرفع حقائبه تلبية لنداء القطار السريع الذي هو آت من بعيد.