قصة قصيرة..الكل يحترق..!

أنين المدفأة يعلو شيئا فشيئا وصراخ الريح في الخارج يشتد.. تقترب الجدران منه هربا من البرد... والأنين أصبح الآن حشرجة الموت لكائن آخر يشبهه ويشاركه وحدته... وآخر أنفاس المدفأة تشبه أنفاسه الأخيرة إثر كل قضية، يحترقان معا ويخرج في جنازة المدفأة إلى آخر قطرة مازوت، يودع الدفء عند النافذة الباردة ويفتحها لتضربه أقدام سريعة للمطر كانت تتجه نحو أحد أقطاب الأرض تاركة إياه في برده وثلوجه: أن يتنفس هذا الجسد القليل من الدفء يشعره بشدة البرد خارجا.... لذلك كان عليك أن تعتاد البرد هكذا حدث نفسه، ثم ثارت الريح في وجهه ودفعه الباب إلى الخلف. أصبح الآن خارج خارطة جسده وداخلها واحد... لا فرق بينهما... تماما كداخل الغرفة وخارجها... أو كداخل المدفأة وخارجها... أحس أنه يحترق ولانار ولا دخان بل إن الكل يحترق ولا نار ولا دخان... أم محمود تنتظر ولدا خرج ولم يعد: ـ يابني أرجوك كل ما تحتاج إليه اطلبه مني.. إنك كولدي... وأكاد أحترق شوقا لرؤيته... ـ انتظر سأعد لك الشاي إنه يدخل الدفء إلى جسدك الرقيق. ألا تأكل... سوف أحضر لك القليل من الطعام. وبصمت حزين كان يراقب تقاسيم وجهها الذي يشبه أخاديد الأرض العطشى للخصب والعطاء، لا تلبث أن تبتسم عندما ينهمر المطر ويغوص في رحم الأرض. ـ يقولون إنهم قد يمسحون ذاكرة الإنسان هناك، قليلا من القهوة يابني.. لقد كان محمود يحب القهوة كثيرا... انتظر سأعدها لك. تذكر إحدى رسوم الأولاد التي سقطت منه عندما خرج من المدرسة. كان في اللوحة مدفأة تنفث سحب دخانها إلى السماء المشرقة بالشمس. لقد ترك اللوحة في الوحل.. قهوة أم محمود تذكره بالفيلسوف الذي قال: الوطن أن أشرب قهوة أمي محمود لم يعد فيلسوفا. ألذلك لم يعد....؟! عندما كان في المدرسة أراد أن يشرح للأولاد مزج الألوان إلا أن عيونهم الصغيرة كانت تحدق فيه تارة ثم تسترق النظر أحيانا إلى النافذة. لقد أيقن أن عقولهم الصغيرة قد تجمدت من البرد.. أراد أن يدفئها... أخرج بعض الطباشير وبدأ يرسم مدفأة، ألسنة اللهب فيها كانت تشبه رؤوسا صغيرة لمجموعة من الناس... ضحك التلاميذ وعلت أصواتهم: هل توجد رؤوس للبشر تحترق داخل المدفأة يا أستاذ؟! استيقظ فجأة وهتف دون وعي: أنا الأخضر في النار. ضحك الأولاد وتهامسوا... قال لهم: ارسموا شيئا عن المطر أو الشمس أو التراب. وقف أحدهم: ماذا نرسم يا أستاذ... هل يمكن أن أرسم كل هذه الموضوعات دفعة واحدة؟ أعجبه الصغير وكان كمن يكتشفه لأول مرة... هل تستطيع يا علي. ـ أجل يا أستاذ... سترى.... هجمت الريح التي دخلت من النافذة على رسوم الصغار وشردتها... كانت الرسوم تبدو مضحكة لمن لا يدركها... لقد حزن للرسم الذي تركه في الوحل، ولكنه تذكر أن المطر كان يغسله، لذلك تركه. استجمع شجاعته وأشعل المدفأة... كانت آخر قطرات المازوت قد نفدت وقد نسي ذلك عندما شرد في أم محمود والأولاد في المدرسة... استجمع شجاعته مرة أخرى وقرر أن يستمر حريق المدفأة. ألقى برسوم الأولاد عن المطر والشمس والتراب عن الفرح والشتاء داخل المدفأة كانت تحترق بلهب مشرق يبعث النور فيما حوله.... وكان يرى كلا منها وقد أصبح طيفا مشرقا... امتزجت الألوان مع النار... وأيقن أن الأوراق لم تحترق... كان هو من يحترق داخل مدفأته ليدفئ نفسه، أما الرسوم فقد تحولت إلى فراش ملون لا يخاف اللهب.