أبو الوفاء البوزجاني.. برع في الهندسة والجبر!

هو أبو القاسم محمد بن يحيى من علماء القرن العاشر، ومن أعظم رياضيي العرب، ومن الذين لهم فضل كبير في تقدم العلوم الرياضية والفلكية في تاريخ البشرية. ولد في قرية بوزجان عام 940 وانتقل إلى بغداد في العشرين من عمره وقضى حياته فيها بالتأليف والرصد والتدريس إلى أن توفي في سنة 998. يعتبر أبو الوفاء أحد الأئمة المعدودين في الفلك والرياضيات، وله فيهما مؤلفات قيمة جدا اعترف بفضله معظم المحققين في تاريخ العلوم. برع أبو الوفاء في الهندسة وله فيها استخراجات لم يسبقه إليها أحد، وكتب في الجبر، كما أنه زاد في بحوث الخوارزمي زيادات تعتبر أساسا لعلاقة الهندسة بالجبر، وكذلك حل هندسيا معادلات من الدرجة الرابعة، وأوجد حلولا تتعلق بالقطع المكافئ، ولا يخفى علميا أن هذه الحلول وغيرها مهدت السبيل لعلماء الغرب لأن يتقدموا بالهندسة التحليلية خطوات واسعة أدت إلى التكامل والتفاضل وهو أروع ما وصل إليه العقل البشري وعليه اعتمدت الكثير من الاكتشافات والاختراعات. اطلع (سمث ودي فو وسارطون) وغيرهم على بحوث البوزجاني في المثلثات، فأقروا بالسبق والفضل، واعترفوا بأنه أول من وضع النسبة المثلثية ظل، وهو أول من استعملها في حلول المسائل الرياضية، وهذا عمل مهم جدا لا يدرك أهميته إلا المختصون بالرياضيات، ولهذا أصبح البوزجاني من الخالدين لأنه بوضعه ظل في عداد النسب المثلثية يكون قد وضع أحد الأركان التي قام عليها علم المثلثات، خاصة وأنه هو الذي أدخل القاطع والقاطع تمام، ووضع الجداول للمماس، وهو من أوجد طريقة جديدة لحساب جداول الجيب التي امتازت بدقتها، حتى أن جيب الزاوية 30 درجة كان صحيحا إلى ثمانية أرقام عشرية، كما أنه وضع بعض المعادلات التي تتعلق بجيب زاويتين، كما كشف بعض العلاقات بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها، وكذلك استعاض عن المثلث القائم الزاوية من الرباعي التام بنظرية منالاوس مستعينا بما يسمى قاعدة المقادير الأربعة ونظرية الظل واستخرج من هذا كله قانونا جديدا فكان لجميع هذه المعادلات الأثر الكبير في تقدم المثلثات وكانت فتحا جديدا في عالم الرياضيات. أكد البيروني بأن الفضل بهذا الاستنباط يعود إلى أبي الوفاء البوزجاني بلا منازع، وكذلك يقول العالم الطوسي في كتابه الشهير شكل القطاع بفضل البوزجاني في المثلثات. وتظهر عبقرية البوزجاني في نواح أخرى كان لها الأثر الأكبر في فن الرسم من خلال كتابه: كتاب في عمل المسطرة والبركار والكونيا، ترجمه الغربيون تحت اسم Construction Geometriques ويعني بالكونيا المثلث القائم الزاوية، وبهذا الكتاب طرق خاصة ومبتكرة لكيفية الرسم واستعمال الآلات اللازمة لذلك، مما يحتاجه الصانع من أعمال الهندسة، وفيه أيضا طرق لإنشاء الأجسام المنتظمة كثيرة السطوح حول الكرة مستعملا طرقا مختلفة لحل عملية واحدة، ويجمع كبار العلماء في الغرب على أن هذه الطرق قد دفعت بأصول الرسم خطوات هامة إلى الأمام، وجعل كتابه هذا من ثلاثة عشر بابا: 1. في عمل المسطرة والبركار 2. في عمل الأشكال في الدوائر 3. في عمل الدائرة على الأشكال 4. في عمل الأشكال بعضها في بعض 5. في الأصول والكونيا 6. في عمل الأشكال المتساوية 7. في قسمة المثلثات 8. في قسمة المربعات 9. في عمل مربعات من مربعات وعكسها 10. في قسمة الأشكال المختلفة الأضلاع 11. في الدوائر المتماسة 12. في قسمة الأشكال على الكرة 13. في عمل الدائرة في الأشكال، ومن استعراض أبواب هذا الكتاب يلاحظ الأهمية التي قدمها من خلاله إلى فنون الرسم. ولأن أبحاث البوزجاني قد سحرت الغربيين فراحوا يدعون محتويات كتبه لأنفسهم، فمثلا ادعى ريجيومونتانوس بعض النظريات والموضوعات لنفسه وأدخلها في كتابه المثلثات، كما اختلف العلماء في نسبة الخلل في حركة القمر وجرى حول هذا الموضوع نقاش واسع في أكاديمية العلوم الفرنسية في القرن الماضي وبقي المؤرخون مختلفون وفي حيرة من أمرهم إلى أن ثبت لدى الباحثين وبعد تحريات دقيقة بأن الخلل الثالث في حركة القمر هو من اكتشاف البوزجاني وأن الفلكي الدانماركي الشهير تيخوبراهي ادعاه لنفسه أو نسب إليه، ولهذا الاكتشاف أهمية قصوى تاريخية وعلمية لأنه أدى إلى اتساع نطاق الفلك والميكانيك. وما يمتاز به أبو الوفاء عن غيره من العلماء وضعه مؤلفات للخاصة ومؤلفات لمختلف الطبقات، فنجد بعض مؤلفاته تبحث في الرياضيات والفلك وتتضمن أبحاثا لا يفهمها إلا المتخصصون بهذه العلوم الدقيقة، ونجد قسما من كتبه قد وضعها لغير الرياضيين، ويستفيد منها العمال وأصحاب الصناعات والتجار، فكتاب ما يحتاج إليه العمال والكتاب من صناعة الحساب قد ضمنه فصولا في المساحة وأعمال الخراج والقياسات ومعاملات التجار واشتهر هذا الكتاب باسم منازل في الحساب وهو سبعة منازل وكل منزلة سبعة أبواب: 1. في النسبة 2. في الضرب والقسمة 3. في أعمال المساحات 4. في أعمال الخراج 5. في أعمال المقاسات 6. في الصروف 7. في معاملات التجار، وقدم هذا الكتاب فائدة عظيمة وكان له أهمية كبرى إذ بقي أساسا لمعاملات الماليين في العصور الماضية. كما وضع أبو الوفاء كتاب ما يحتاج إليه الصناع من أعمال الهندسة بناء على أوامر بهاء الدولة ليتداوله أرباب الصناعة ويكون معينا لهم، فجعله سهل الفهم وخاليا من البراهين الرياضية المعقدة، ويوجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبة آيا صوفيا بالآستانة. ولأبي الوفاء شروح لمؤلفات ديوفنطس والخوارزمي استفاد منها الذين أتوا من بعده واستناروا بها وأعانتهم على فهم جبر الخوارزمي. وفي الفلك له مؤلفات في غاية الأهمية ككتاب الكامل وهو مقسم إلى ثلاث مقالات: المقالة الأولى في الأمور التي ينبغي أن تعلم قبل حركات الكواكب، والثانية في حركات الكواكب، والثالثة في الأمور التي تعرض لحركات الكواكب، وله كذلك كتاب الزيج الشامل و كتاب المدخل إلى الارتماطيقي وكتاب فيما ينبغي أن يحفظ قبل كتاب الارتماطيقي وكتاب معرفة الدائرة من الفلكوكتاب استخراج الأوتارو كتاب المجسطي وهو من آثاره المشهورة ومنه نسخة ناقصة في مكتبة باريس الوطنية. وخلاصة القول فإن البوزجاني من ألمع علماء الحضارة العربية والاسلامية الذين كان لبحوثهم ومؤلفاتهم التأثير الكبير في تقدم العلوم ولا سيما الفلك والمثلثات وأصول الرسم، إضافة إلى أنه من الذين مهدوا لإيجاد الهندسة التحليلية بوضعه حلولا هندسية لبعض المعادلات والأعمال الجبرية العالية، وما يدعو لشديد الأسف بأن البوزجاني وغيره الكثير من العباقرة العرب والمسلمين الذين قدموا للبشرية عصارة أفكارهم وساهموا مساهمة فعالة في تطور الحضارة الإنسانية أن تبقى أسماؤهم وأعمالهم مغيبة من ضمير أبناء هذه الأمة وأجيالها.