الفصل الثاني عشر من كتاب: مخطط الانحدار وإعادة البناء

&# 1645;الفصل الثاني عشر من كتاب: مخطط الانحدار وإعادة البناء &# 1645;تأليف الدكتور خالص جلبي لقراءة الفصول السابقة انظر أسفل الصفحة &# 1645;&# 1645;انطفاء العقل وأثره في تدهور الحضارة الإسلامية&# 1645;&# 1645; &# 1645; إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي (الابستمولوجيا) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه (الوظيفة النقلية). وترتب على حرمان العقل من الطاقة النقدية التحريرية ثلاث نتائج هامة: الأولى : تحول العقل إلى (حاو فوضوي) لــ (كم) من المعلومات بدلا عن تشكيل عقلية ذات نظام ( SYSTEM ) وتركيب ( STRUCTURE ) معرفي، فنمت ملكة الحفظ وتوقفت الوظيفة (التحليلية التركيبية) والنقدية للعقل، بل نسف أي مشروع لبناء معرفي مستقبلي. الثانية: بحرمان العقل من وظيفة المراجعة؛ من خلال قتل ملكة النقد الذاتي أمكن تكريس الأخطاء وتراكمها بل وزحزحتها باتجاه الآخرين؛ بإحياء آلية تبرئة الذات (فكرة كبش الفداء) وبذلك توقفت النفس عن العمل تماما في الحقل المفيد، فتوقفت عن تصحيح الذات، فوقف النمو، فجمدت الحياة.وبتوقف العقل توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض الحي في التاريخ. الثالثة: ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد إلى كارثتين: انتفاخ الذات المرضي بأن المسلمين خارج القانون الإلهي، فلا ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم، وعدم الاستفادة من تجربة التاريخ الضخمة التراكمية (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل: فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ؟!!) يعاني العالم الإسلامي اليوم من مشكلة (تحد) ثلاثية الأبعاد، وكل تحد يعتبر مشكلة عويصة بحد ذاتها، وكأنه لا أمل في حلها، بحيث يصبح مشروع النهضة مشكوكا فيه. الأولى: عظمة الماضي وهزال الحاضر، فالمسلمون أبناء حضارة ضخمة، وكان دورهم في التاريخ قياديا ورائدا، واليوم يمثلون ليس مركز العالم، بل دول الأطراف العاجزة عن حل مشاكلها، فالألم عميق بين الهدف والواقع، بين الإمكانيات والإرادات، وما يحدث في البوسنة اليوم دليل على عجز مروع، وشلل مخيف في الجسم الإسلامي الممتد من طنجة حتى جاكرتا. والثانية: هي في الفجوة المعرفية التراكمية بين قمة العالم الحالي وبين الواقع (المعرفي) في العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي لم يدخل المعاصرة تماما ويتمكن من أسرارها، بل هو في حالة (فقد توازن) مع إعصار الحداثة الذي دخل بيته، وأدخل معه الفوضى إلى ترتيب بيته السابق، كما نسف كل الطمأنينة السابقة التي كان يحياها. والثالثة : إننا عقليا (دون مستوى القرن الثالث الهجري) ففي الوقت الذي كان العقل المسلم فيه يتألق في حلقات المسجد العلمية، ويدرس آخر الفكر السائد في عصره، ويصدر نتاجه العلمي، فنحن لا نستطيع حتى بناء مناخ عقلي يشابه ذلك الذي ترعرع في تلك القرون. فهم بنوا المعاصرة وعاشوها ونحن تغزونا المعاصرة وتقتحم علينا عقولنا. فعجزنا ثلاثي المستوى: بين ما نريده ولا نملك إمكانياته، بين الغياب عن التاريخ وما حدث فيه، وبين فقدان الذاكرة التاريخية كالمصدوم الذي نسى شخصيته فلا يعرف من هو؟ فنحن لا نعرف حتى ذاتنا!! والسؤال كيف حدث هذا، ولماذا حدث وفي أي ظرف تاريخي؟؟ لا يمكن معرفة واقع العالم الإسلامي المريض ما لم يفهم ضمن قانون (الصيرورة التاريخية). فالسقوط والتمزق الحالي هو ثمرة لأفكار تشكلت عبر القرون، ولذا لابد أولا من الغوص في بطن التاريخ لملاحقة الأحداث وتتابعها وترابطها وتأثيرها في بعضها البعض، فلا يمكن فهم الحدث وحده معلقا في الهواء. فعلينا إذن أن نتتبع المسارات التاريخية لفهم أفضل لواقع الكارثة في العالم الإسلامي اليوم. عندما كنت في زيارة لمدينة طليطلة ( TOLIDO ) في أسبانيا كنت مهتما برؤية نهر (التاجه) والسبب في ذلك هو الانطباع الذي أخذته من كتب التاريخ عن مناعة البلدة، وأثناء الجولة السياحية تأملت المنحدر الجرانيتي العميق للنهر، والذي يطوق البلد وكأنه (التاج) الذي أخذ النهر منه اسمه. كما تأملت الحصون الثلاثية المرتفعة التي شكلت مناعة خاصة للبلد، كلفت الأسبان يومها حصارا مديدا، قبل أن تسقط (العاصمة التقليدية) لشبه الجزيرة الايبرية عام &# 1633;&# 1632;&# 1640;&# 1637; بأيديهم، ولكن مع سقوط طليطلة حصل تطور خطير في مصير الأندلس برمته، وهو انكسار التوازن الاستراتيجي في شبه الجزيرة الايبرية لحساب الأسبان ضد المسلمين، الذين لم يدركوا يومها تطور المنحنى البياني التاريخي ضدهم، لأن خلافاتهم الداخلية وصراع العروش الهزيل أنساهم حتى هدير الطوفان المزمجر حولهم. جاء في كتاب دول الطوائف ما يلي: ((وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد .. بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاما. ومنذ ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو قصرها منزلا للبلاط القشتالي بعد أن كان منزلا للولاة المسلمين. وقد كانت بمنعتها المأثورة، وموقعها الفذ في منحنى نهر التاجه حصن الأندلس الشمالي وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها. وانقلب ميزان القوى القديم، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة، بعد أن استطاعت أن تحافظ عليه زهاء أربعة قرون، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمرا لاشك فيه، ومنذ ذلك الحين تدخل سياسة الاسترداد الأسبانية ( لا .. ري كونكيستا LA RECONQUISTA ) في طور جديد قوي، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة منذ الفتح الإسلامي عبر نهر التاجه إلى أراضي الأندلس تحمل إليها أعلام الدمار والموت، وتقتطع أشلاءها تباعا في سلسلة لاتنقطع من الغزوات والحروب)(&# 1633;) كان سقوط طليطلة عام &# 1633;&# 1632;&# 1640;&# 1637; م الموافق عام &# 1636;&# 1639;&# 1640; هـ، ويوافق أيضا مرور &# 1640;&# 1632; سنة على تفشي مرض (دول الطوائف) في الأندلس، فبعد أن غابت الدولة الأموية عن الوجود عام &# 1635;&# 1641;&# 1641; هـ، بدأت عملية التفسخ الحضاري تأخذ مداها في الجسم الإسلامي ولمدة جيلين بالكامل، وعاصر الإمام ابن حزم هذه الفترة وذكرها بسخط شديد، وخلد الشعر العربي تلك المرحلة بالتعبير: ( أوصاف مملكة في غير موضعها ..... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد) ولكن سقوط (طليطلة) بوجه خاص أدخل الفزع بشكل جدي إلى مفاصل ملوك الطوائف، فهرعوا إلى الدولة الفتية الناشئة في المغرب (دولة المرابطين) مع علمهم أن هذا هو نهايتهم على كافة الأحوال سواء على يد (الفونسو السادس) أو على يد (يوسف بن تاشفين) فقال المعتمد بن العباد قولته الشهيرة (إن كان ولابد من أحدهما: فرعي الجمال أحب إلي من رعي الخنازير !!).وكانت معركة (الزلاقة) على حدود (البرتغال الحالية) بين نهري (جريرو) و (جبورة) من جانب ونهر (الوادي) من الأسفل في سهل الزلاقة الذي يأخذ اسم (ساكراخاس) اليوم، وكان ذلك يوم الجمعة &# 1633;&# 1634; رجب سنة &# 1636;&# 1639;&# 1641; هـ الموافق &# 1634;&# 1635; اكتوبر تشرين الأول سنة &# 1633;&# 1632;&# 1640;&# 1638; م أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة المفجع. وفيها تم تمزيق الجيش الأسباني بمجموعة من تكتيكات حربية استخدمها العجوز المحنك والبالغ من العمر ثمانون عاما (بن تاشفين). إلا أن هذا النصر في الواقع لم يكن أكثر من كابح مؤقت لمعارك الاسترداد الأسبانية، فالمرض في المجتمع الإسلامي كان أفظع من أن يعالج بمعركة هنا وهناك، لأن العفن كان قد وصل إلى مخ العظام، وهذا الذي أدركه ابن تاشفين الذي حام حول مدينة طليطلة التي كانت هدفا استراتيجيا لحملته التي جاء بها إلى الجزيرة، فأدرك استحالة استردادها، واكتفى بمسح دول الطوائف الهزيلة، وبناء دولة مركزية مرتبطة بدولة المرابطين. كانت معركة الزلاقة ذات حدين، فهي فلت حد الأسبان، ولكنها أعلنت بنفس الوقت أن الأندلس انتهت منذ ذلك اليوم ككيان مستقل.وأصبحت الأندلس منذ ذلك الوقت عالة على المغرب في حمايتها والحفاظ على وجودها، لذا لاغرابة أن كان الملوك الموحدين (دولة الموحدين جاءت بعد دولة المرابطين) يسمونها بـ (اليتيمة) كما هي اليتيمة الجديدة اليوم (البوسنة)؟!.هذه الضربة عام &# 1633;&# 1632;&# 1640;&# 1637; م كانت حلقة في سلسلة، لابد من معرفة ما قبلها وما بعدها، حتى يمكن فهم الواقع المريض الذي يعيش فيه العالم الإسلامي، فبين معركة الزلاقة عام &# 1636;&# 1639;&# 1641; هـ الموافق &# 1633;&# 1632;&# 1640;&# 1638; م ومعركة العقاب عام &# 1633;&# 1634;&# 1633;&# 1634; م الموافق &# 1638;&# 1632;&# 1641; هـ (&# 1633;&# 1634;&# 1638;) عاما فقط، فمعركة (الزلاقة) التي فرملت الزحف الأسباني، انتهت بمعركة (العقاب) التي فتحت الباب لسقوط الأندلس النهائي (&# 1634;) الذي سيختم مع نهاية القرن الخامس عشر للميلاد (&# 1633;&# 1636;&# 1641;&# 1634; م) ومن الجدير بالذكر أن معركة العقاب جاءت بعد &# 1633;&# 1636; عاما من موت الفيلسوف (ابن رشد) الذي نفي في السبعين من عمره ليعيش في قرية الليسانة اليهودية منبوذا محطم القلب، فعوقب المجتمع الأندلسي برمته فمسحت مدينة قرطبة مدينة ابن رشد من خارطة العالم الإسلامي بعد معركة العقاب بـــ (&# 1634;&# 1636;) سنة فقط (&# 1633;&# 1634;&# 1635;&# 1638; م)!! وكانت مدينة ( سرقسطة) -ZARAGOZA قد سقطت قبل ذلك عام &# 1633;&# 1633;&# 1636;&# 1633; م، ثم تتالى مسلسل السقوط، فسقطت (بالنسيا) - BALENCIA عام &# 1633;&# 1634;&# 1635;&# 1640; م وتوج الانهيار بسقوط مدينة المعتمد بن عباد عام &# 1633;&# 1634;&# 1636;&# 1640; م ( اشبيلية) -SEVIA وهكذا سقط الجناح الغربي للعالم الإسلامي، وانزوى المسلمون في الزاوية الجنوبية حول (غرناطة) - GRANADA ينتظرون مصيرهم في كف القدر، حسب الوضع الأسباني وكيف يتطور، ذلك أن المجتمع الأندلسي كان قد فقد منذ سقوط طليطلة القدرة على تقرير المصير. وإذا كان الجناح الغربي للعالم الإسلامي قد سقط في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (&# 1635;) فإن كارثة أشد ترويعا حلت بالعالم الإسلامي في جناحه الشرقي، وبفارق أقل من عقد واحد من السنين !! فبعد ثماني سنوات فقط من سقوط اشبيلية، التهمت المحرقة المغولية الرهيبة الزاحفة من الشرق (بغداد) رأس الخلافة الإسلامية عام ( &# 1633;&# 1634;&# 1637;&# 1638; ) م، فاغتصبت لؤلؤة الشرق، ودمرت المدينة، وذبح مليونان من السكان، وأحرقت المكتبات، وضاعت العلوم والكنوز التي جمعها العالم الإسلامي في أربعة قرون على يد البرابرة في أربعين يوما من الاستباحة الكاملة؟! وبذلك سجل التاريخ سقوط (جناحي) العالم الإسلامي في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وسجل ابن خلدون هذه الظاهرة، عندما قرر أن الخمول والانقباض قد حل بالمشرق كما حل بالمغرب ((وجاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة؛ فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث)) (&# 1636;) مع هذا نريد أن نضع مخططا بيانيا مفيدا لــ (صيرورة) الحضارة الإسلامية عبر التاريخ لنرى أين يصبح مكاننا على ضوء هذا المخطط؟؟ يمكن أن نستعير تشبيه المفكر الجزائري (مالك بن نبي) في المخطط البياني الذي رسمه للعام الإسلامي (&# 1637;) ويعتبر أن نقطتين تسيطران على مجرى صيرورته: الأولى: ويعتبرها نقطة (توقف) وهي المتوافقة مع معركة (صفين) عام &# 1635;&# 1636; هـ . والثانية: وهي بداية (الانهيار) وهي المتوافقة مع فترة ابن خلدون، في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، المتوافق مع نهاية القرن الثامن الهجري. في الأولى توقفت فيها الروح عن الصعود وسيطر فيها العقل، فاستمر العالم الإسلامي في اندفاعه بزخم الوثبة الروحية الهائلة التي فجرها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية، وفي الثانية تحررت الغريزة من إسار الروح والعقل بالكلية فتدمر العالم الإسلامي، لأن هناك بالعادة تناقض بين الروح والغريزة، حتى في حديث البيولوجيا، فسن اليأس عند المرأة - ويصاب به الرجل بالمناسبة أيضا مثل المرأة - يترافق بظاهرتين مزدوجتين: نمو عالم الروح ونضج العقل وانخفاض عتبة الجنس، وإن كان البعض يحاول جاهدا مصارعة لغة البيولوجيا التي لا ترحم ولا تفقه إلا بمفردات لغتها بالذات. يرى مالك بن نبي أن معركة (صفين) لم تكن مجرد معركة عسكرية بسيطة حقق فيها طرف انتصارا على طرف أو بالعكس، بل كانت (انعطافا) في مسيرة الحضارة الإسلامية، وانقلابا لسلم القيم. ويشهد لانقلاب (منظومة القيم) هذه قول عقيل ابن ابي طالب: ((إن صلاتي خلف علي أقوم لديني، وحياتي مع معاوية أقوم لحياتي)) في حين أن (منظومة القيم) كانت قبل ذلك أن الحياة كلها لله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (&# 1638;).فهنا نلاحظ حدوث (فصام) في شخصية الإنسان المسلم ( ظاهرة الشيزوفرينيا) (&# 1639;) SHIZOPHRENIA التي لم يعافى منها حتى اليوم. وهذا الانشقاق المروع في عالم صفين أفرز ثلاثة عوالم: عالم عقلاني، وآخر انتهازي، وثالث دوغمائي، العقلاني يخسر معركة تقرير المصير بالتدريج، والانتهازي يملك مقود التوجيه، والدوغمائي يدمر نفسه ومن حوله بآليتي العنف والجمود العقلي. وسوف يكتب مصير العالم الإسلامي بعدها أن يتشرب العنف، فيعجز عن حل مشكلة نقل السلطة السلمي بعد فترة الحكم الراشدي، الذي اتفق العالم الإسلامي كله على منحه هذا اللقب، فلم يعد (رشد) بعد الحكم الراشدي، بل تحول التاريخ الإسلامي برمته إلى مسلسل لا ينتهي من قنص السلطة الدموي؛ ففقد العالم الإسلامي الرشد، وفقد الأمانة والأمن الاجتماعي، وتحول إلى مذهب الغدر. وسوف نرى نتائج ذلك، في التحولات العقلية الكبرى بعد ذلك عندما توقفت الحضارة الإسلامية عن النبض والخفقان. إذن فكارثة التحلل في العالم الإسلامي لم تبدأ في طليطلة وسرقسطة، في اشبيلية أو بغداد، لم يدشن بهجوم خارجي، بل بتحلل داخلي بالدرجة الأولى. بدأ المرض منذ معركة (صفين) فالانشقاق الرهيب صدع العالم الإسلامي من يومها، وترك بصماته على العقلية الإسلامية حتى اليوم، وكانت هذه الجرعة السمية في عروق ضمير المسلم مدعاة لاختلاجات ونوافض وتشنجات لم تنته حتى الآن، فكل مظاهر المرض الإسلامي بدأت من تلك المعركة التي أصابت الضمير بالعطب، فأتلفت العديد من الأجهزة النبيلة، والخلايا الحية، والأعضاء الاجتماعية الحيوية، ففي رحم التاريخ، وفي تلك الظروف المشبوهة كتبت معظم ثقافتنا، التي يجب أن توضع تحت صرامة التحليل والعقل النقديين الآن، فالكثير الكثير من الأفكار (القاتلة) و(الميتة) مازالت تفعل فعلها فينا وبدون شعور منا، لأنها مختبئة تعمل في الظلام ومن خلال آليات (اللاوعي) الاجتماعية. إن المريض عندما تبدأ الحرارة عنده في الارتفاع لا يسقط طريح الفراش، لأنه يكون عندها في مرحلة (المعاوضة) - COMPENSATION وليس في المرحلة (السريرية) - CLINICA أي لا يحتاج لإدخال المستشفى للعلاج في السرير، وهذا الذي حدث مع العالم الإسلامي وبالتدريج، الذي أصيب (التجرثم الدموي) - SEPTICEMIA مع معركة صفين، ليبدأ بالنوافض SEIZURES المجنونة مع الخوارج، والنزف BLEEDING العباسي، والحرارة FEVER الأندلسية، والغيبوبة COMA المملوكية، والدخول في الصدمة SHOCK والانهيار البونابرتي، وأخيرا (السرير) الاستعماري مع نهاية القرن التاسع عشر، ثم (التشريح) في قاعة العمليات، حيث تجرى عمليات البوسنة (استئصال الأعضاء) أو زرع الأعضاء (زراعة إسرائيل)، ولا أدري هل انتهت العمليات ونقلنا إلى العناية المشددة _ اللهم إذا أكرمنا بعناية مشددة ونحن الأيتام في مأدبة اللئام _ أم إلى ثلاجات الموتى، لا نستطيع أن نقول شيئا، لأننا لا نعرف ماذا يجرى لنا، ولا نعرف ماذا يفعله سحرة الأمم المتحدة وقوى الاستكبار العالمية، ولا نملك العقل الخلدوني التحليلي. إذا كان هذا التحليل الخطير صادقا، فإن العالم الإسلامي انحدر في الواقع إلى مادون السلبي في المخطط البياني، أي تحت خط الصفر، كما نرى ذلك في مخطط القلب الكهربي، حيث ينحدر الخط إلى ما تحت الخط الأفقي، الذي هو خط الصفر. إن المؤرخ الأمريكي باول كينيدي في كتابيه (صعود وسقوط القوى العظمى) و(التحضير للقرن الواحد والعشرين) يؤرخ لـ (المعجزة الأوربية) التي أمسكت بمقود التاريخ وبالتدريج في مدى القرون الفارطة، كما أنه يرى أنه ليس لنا مكان في القرن الواحد والعشرين، حسب الخانات التي يوزعها. ففي الوقت الذي كان الغرب ينهض كان العالم الإسلامي يغط في أحلام وردية على رقصات (الدراويش)، وازدراد الأساطير، وقصص ألف ليلة وليلة، وأخبار الجن والعفاريت، فإذا قيل للسلطان العثماني أن شيئا جديدا يدب في الغرب فهل لك في الزيارة والتعرف على ما يحدث كان يجيب: سلطان المسلمين لا يدخل بلاد الكفار إلا فاتحا!! ولكن بفعلته قصيرة النظر هذه لم يدرك، أنه سيحول أولاده بعد فترة من (فاتحي) أوربا إلى (متسولي) أوربا، وراجعوا قصة (علي التركي) - ALI تعطيكم الخبر اليقين (&# 1640;) وهذه هي سنة التاريخ الصارمة. يتساءل باول كينيدي في كتابه القوى العظمى: ((لماذا قدر لتلك السلسلة، التي لا تتوقف عن النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، أن تحدث بين هذه الشعوب المتفوقة والضحلة، التي تقطن الأجزاء الغربية من الكتلة الأرضية الآسيوية الأوربية، التي تحولت إلى الريادة العسكرية والتجارية في الشؤون العالمية؟ هذا سؤال شغل العلماء والمراقبين لقرون عديدة ... ففي سبيل فهم مسار السياسة العالمية يجب تركيز الاهتمام على العناصر المادية طويلة المدى، لا على الأهواء الشخصية والتقلبات التي تميز الدبلوماسية والسياسة)) ويضع كينيدي مجموعة من عناصر التفوق، ولكن العنصر البارز هو السيطرة على البحار، فبواسطته تم السيطرة على الثروة العالمية، وتحويل قارات بأكملها إلى المسيحية، وأما الانفجار العلمي فجاء كنتيجة جانبية لكل هذا التطور الجديد، فقاد بالتالي إلى بداية تشكيل نظام عالمي جديد، للغرب فيه اليد العليا (&# 1641;) وهكذا ففي الوقت الذي كان نجم الغرب يتألق عبر الأفق، كان شمس الحضارة الإسلامية يغلفها شفق المغيب، وهذا الليل كان (منظومة الأفكار) بالدرجة الأولى، وتوقف العقل عن النبض كان بسبب مجموعة انتحارية من الأفكار، ونظم معين من (العقلية) المتشكل. إذا كان (طنين الذبابة) عند أذن ديكارت أوحى له بـ (الهندسة التحليلية) (&# 1633;&# 1632;) في مجالس (مارين ميرسين) في بورت رويال في باريس، وسقوط (التفاحة) أوحت إلى نيوتن بقانون (الجاذبية) وأبريق الشاي الذي يغلي إلى دينيس ببان بفكرة (قوة البخار)، وعضلات الضفدع إلى غالفاني بفكرة (الكهرباء)، فإن العقل الإسلامي كان قد ختم على نفسه بالشمع الأحمر، وأقفل عقله بأكثر من مفاتيح قارون على خزائنه، وإن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من الرجال ؟!! (&# 1633;&# 1633;).وفي الوقت الذي كان الانكشارية يحاصرون فيينا كان نيوتن يكتب (الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية) - PHILOSOPHY NATURALIS PRINCIPIA (MATHIMATICA وكان غاليلو يقوم بتجاربه على السرعات، ويطور التلسكوب والبارومتر والمجهر على يد آخرين، في الحين الذي كان العقل المسلم قد أصيب بحالة (استعصاء تاريخية) لم يتعاف منها حتى الآن، وهي حالة الشلل العقلي الذي أدخله الليل الحضاري، ليدخل في (دارة معيبة) يؤثر كل طرف على الآخر سلبا، بين (العطالة) العقلية و(العجز) الحضاري. إن الفوضى الاجتماعية في العالم الإسلامي هي (فوضى عقلية) قبل كل شيء، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكيك العقلية الإسلامية، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها، والتي أعطبتها العطالة. لذا كان الكاتب المغربي (الجابري) موفقا للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في (بنية العقل العربي) (&# 1633;&# 1634;) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض (الآبائية) (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (&# 1633;&# 1635;) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي. يذكر ابن كثير في تفسيره واقعة ملفتة للنظر عن صحابي أصيب بالدهشة عندما أخبره صلى الله عليه وسلم عن حدث مروع سوف يطال المجتمع الإسلامي فيتبخر منه (العلم)!! فلم يستطع الصحابي تصور ذلك، طالما كان القرآن بين يدي الناس يقرؤه كل جيل، وينقله إلى الآخر، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا ممكن مع وجود القرآن (&# 1633;&# 1636;) بسبب العقل المتعطل، فلا يستفيد من أعظم الكنوز، وأن أعظم الكتب يمكن أن تتحول إلى مجرد أوراق ميتة على ظهر حمار (كمثل الحمار يحمل أسفارا) حينما تفقد وظيفتها الإحيائية للعقل (&# 1633;&# 1637;) وهذه الواقعة إن دلت على شيء؛ فهو أن العقل حينما يتعطل لا يستفيد من كل عجائب الأرض التي تحيط به، ويمر على الآيات (وهو عنها معرض) لأن الإنسان عندما يخسر نفسه فلن يربح شيئا. وأن ما حدث في يوم لأمة سوف يحدث لغيرها في يوم لاحق. فالقانون الإلهي يطوق عباده جميعا. هوامش ومراجع : (&# 1633;) دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي _ تأليف محمد عبد الله عنان _ مكتبة الخانجي بالقاهرة _ ص &# 1633;&# 1633;&# 1637; - &# 1633;&# 1633;&# 1638; (&# 1634;) هزم فيها الموحدون راجع نفس لمصدر السابق جزء عهد الموحدون (&# 1635;) يراجع في هذا كتاب الإسلام الأمس والغد - لوي غارديه ترجمة علي المقلد - دار التنوير - ص &# 1639;&# 1640; - تراجع فكرة نقطتي التحجر (&# 1636;) مقدمة ابن خلدون ص &# 1635;&# 1635; (&# 1637;) شروط النهضة - مالك بن نبي - ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين - نشر دار الفكر - ص &# 1641;&# 1641; (&# 1638;) الأنعام &# 1633;&# 1638;&# 1634; (&# 1639;) يواجه الأطباء النفسانيون مرض الفصام (الشيزوفرينيا) في شخصية مرضاهم حيث تتفكك شخصية الإنسان، فحسب تعريف لويس يمتاز بأمرين : أولا التكسر في المقومات المكونة للعقل : (الشخصية) وهي الفكر والعاطفة والسلوك.وثانيا: فقدان التوازن (الترنح) في العمليات النفسية الداخلية، جاء في مذكرات فتاة مصابة بالشيزوفرينيا مايلي : (( كان الجنون .. على نقيض الواقع .. حيث ساد حكم ضوء ظالم .. لم يترك مكانا للظل ... فلاة شاسعة لا حدود لها .. هذا الفراغ الممتد .. إني خائفة .. إني في وحدة مرعبة ...)) راجع كتاب فصام العقل - الدكتور كمال علي - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - ص &# 1634;&# 1636; (&# 1640;) كتبها رجل ألماني تزيا بزي تركي، وعمل لمدة ثلاث سنوات، وهو يتظاهر أنه تركي في ألمانيا ورأى العجائب وحقائق القلوب فكتب كتابه هذا الذي حقق له ريعا زاد عن عشرة مليون مارك !! (&# 1641;) القوى العظمى - التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من &# 1633;&# 1637;&# 1632;&# 1632; حتى &# 1634;&# 1632;&# 1632;&# 1632; - باول كينيدي - مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية -ترجمة عبد الوهاب علوب - ص &# 1635;&# 1640; و&# 1636;&# 1641; و&# 1637;&# 1632; (&# 1633;&# 1632;) جاء في كتاب عندما تغير العالم (( ومن الطريف والمثير أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد عند راهب فرانسيسكاني يدعى مارين ميرسين .. فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتماع، أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي والآخر من أسفل، هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضي هو ما نسميه اليوم (الخط البياني) - عالم المعرفة &# 1633;&# 1640;&# 1637; - تأليف جيمس بيرك - ترجمة ليلى الجبالي - ص &# 1634;&# 1632;&# 1633; (&# 1633;&# 1633;) سورة القصص &# 1639;&# 1638; (&# 1633;&# 1634;) أصدر المفكر المغربي عابد الجابري تحت نقد العقل العربي جزأين بنية العقل العربي وتكوين العقل العربي - مركز دراسات الوحدة العربية (&# 1633;&# 1635;) الزخرف &# 1634;&# 1635; (&# 1633;&# 1636;) الحديث : ((ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال : وذاك عند ذهاب العلم. قلنا يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ فقال : ثكلتك أمك يابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة.أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء)) ذكره ابن كثير في تفسير الآية &# 1638;&# 1638; المائدة وصححه (&# 1633;&# 1637;) تأمل الآية القرآنية (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) سورة الجمعة آية &# 1637;. موعد نشر الفصل الثالث عشر يوم الاثنين &# 1634;&# 1637; محرم &# 1633;&# 1636;&# 1634;&# 1635;هـ الموافق &# 1639; أبريل &# 1634;&# 1632;&# 1632;&# 1634;