معركة القادسية

حدثت في المحرم سنة 14هـ قرب القادسية في العراق. قائد جيش المسلمين: سعد بن أبي وقاص ومعه أكثر من ثلاثين ألف مقاتل. قائد جيش الفرس: رستم جاذويه في مائة وعشرين ألفا ويصل عددهم مع خدمهم وتابعيهم إلى مائتي ألف ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلا منهم فيل سابور الأبيض. ما قبل المعركة: بعد هزيمة الفرس في معركة البويب، استاء أهل فارس من قادتهم واتهموهم بأنهم الذين أوصلوهم إلى هذه النتيجة بسبب اختلافهم وتفرقهم ، فاجتمع قادتهم وبحثوا عن ملك من سلالة كسرى يدير البلاد فتوصلوا إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى، ونصبوه ملكا وهو ابن إحدى وعشرين سنة واجتمعوا عليه وتبارى القادة والرؤساء في طاعته واطمأنت فارس، وعين يزدجرد القادة ووزعهم على الثغور، فعند ذكل نقض أهل السواد من الفرس الذين كان المسلمين قد فتحوا بلادهم صلحهم مع المسلمين خوفا من الفرس ورهبة، وأملا في ا لانتصار على المسلمين وعودة الحكم لهم، وكتب المثنى بن حارثة وهو قائد المسلمين في تلك البلاد في ذلك الوقت إلى عمر يخبره بذلك فكتب عمر إلى المثنى: أما بعد، فاخرجوا ولا تدعوا أحدا من أهل القتال ولا فارسا إلا اجتلبتموه، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم فلتلقوا جدهم بجدكم فانسحب المثنى ونزل في مكان يقال له ذي قار ونزل الناس على شكل مجموعات مسلحة يغيث بعضهم بعضا متناثرين إلى قريب من البصرة ويجتمعون إذا دعت الحاجة، ونادى النفير، وأعلن الجهاد وكان ذلك في ذي القعدة سنة 13هـ، وأمر عمر الناس بالتجهز للغزو وأعلن أنه سيقود الجيش بنفسه فتسارع الناس إلى الجهاد ووفد على المدينة أعدد من القبائل المجاورة ومن غيرهم رغبة في ا لجهاد وفي أول المحرم من سنة 14هـ خرج عمر بن الخطاب بالجيوش خارج المدينة يريد الغزو، فأشار عليه عبد الرحمن بن عوف بعدم الخروج بنفسه ، وأن يولي على الجيش قائدا ماهرا وبين له أنه إن هزم هذا الجيش فإنه سيؤثر جدا في المسلمين وأما إذا أرسل قائدا للجيش فهزم فإن ا لمسلمين سيرجعون إليه ، فوافق عمر على ذلك بعد أن استشار كبار الصحابة واختار لقيادة الجيش سعد بن أبي وقاص وكان سعد في قبائل هوازن يجمع الصدقات فبعث إليه عمر وولاه قيادة الجيش في العراق وسيره في أربعة آلاف وأرسل إلى المثنى لكي ينضم إليه. وقد صادف ذلك اجتماع أهل فارس وتوحيد صفوفهم ضد المسلمين، ولم يكتفوا بذلك بل حركوا أهل السواد ضدهم فكأن الفتح السابق لم يكن، ومع ذلك فقد استفاد سعد ممن سبقوه من القادة، خالد بن الوليد، وأبي عبيدة والمثنى لأن انتصاراتهم السابقة أضعفت الفرس وأخافتهم رغم تظاهرهم بالجلد كما أنها أنقصت كثيرا من جيشهم ففقدوا ما لا يقل عن مائة وخمسين ألف مقاتل إن لم يكن أكثر، وهذا الحشد الفارسي الكبير كان بمثابة الصحوة قبل الموت في معركة فاصلة ولم يعد في مقدور الفرس إن هزموا أن يحشدوا مثل هذا الجيش لا كما ولا نوعا فالمعركة مصيرية والآمال متعلقة بنتيجتها. واجتمع لسعد في القادسية أكثر من ثلاثين ألف مقاتل وترك المثنى لسعد وصية قبل وفاته لسعد بن أبي وقاص حيث كان المثنى قد جرح جراحة بالغة في إحدى المعارك. ولم يكتف عمر بذلك بل أخذ في جمع الجموع ومخاطبة القبائل المسلمة لتقدم عليه ليوجههم إلى الجهاد ليقاوموا الفرس وقواتهم وقال قولته المشهورة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسا ولا ذا رأي أو شرف ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رمى بهم في المعركة فكان كل من يريد الجهاد يوجهه للعراق لذا كان المدد يأتي إلى سعد أرسالا أرسالا. نزل سعد كما قلنا في مكان يقال له القادسية فأتاه كتاب من عمر، وكان عمر على صلة دائمة بمخاطبته ومعرفة تحركاته وأحواله وأحوال جند المسلمين ، وطلب منه في ا لكتاب أن له الموقع الذي فيه وقال : صف لي موقعك صفة كأني أنظر إليها واجعلني من أمركم على الجلية فوصف له سعد منزله بالقادسية كما وصف له جيش الفرس وقائدهم وذكر له أهل السواد ونقضهم ما كان مع المسلمين، فرد عليه عمر بكتاب يثبته فيه فقال: فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنها خرابهم إن شاء الله أما الفرس فإنهم بعد أن جمعوا الجيوش وما يحتاجون إليه من أسلحة وعتاد اختلفوا فيمن يولونه قائدا على هذا الجيوش الضخم الذي علقوا عليه آمالهم واتفقوا بعد ذلك أن يجعلوا عليه رستم وهو من أشهر قوادهم شدة وبطشا. تفقد رستم الجيش وربت قواده وجعل له مقدمة عليها قائد مشهور يقال له الجالينوس وأمره بالمسير أمامه فكان يأمره فينتقل مرحلة ثم يسير خلفه وهكذا، كان يتقدم بحذر فكانت مدة خروجه إلى أن لقي سعدا بأربعة أشهر وهدفه من ذلك أن يمل المسلمون من اللقاء ثم ينصرفوا. أرسل إلى سعد أن يرسل إليه من يفاوضه فأرسل إليه عدة مرات مفاوضين، منهم ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة وغيرهما وكان كلما ذهب إليه من يفاوضه لا يسمعه إلا قولا واحدا الإسلام أو الجزية أو القتال. وكان رستم يحاول أن يغريهم بالمال ليرجعوا وأن تحسن فارس علاقاتها بالعرب وهم يحلمون بماضيهم المتغطرس على العرب فكان الجواب من المسلمين دوما: الإسلام أو الجزية أو القتال. ولما كان لابد من الحرب أرسل رستم إلى سعد يقول: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم فقال سعد: بل اعبروا إلينا ثم طلبوا منه التنحي عن القنطرة ليعبروا فلم يوافق وقال: هذا شيء غلبناكم عليه فلن نرده عليكم ثم تكلفوا معبرا آخر غير القناطر فعبروا ونزلوا خنفة العتيق (أحد فروع الفرات) واستعمل يزدجرد رجالا يخبرونه عن تحركات رستم ومنازله ومصافه وقتاله مع المسلمين حيث يقول الأول فيسمع الثاني والثالث .. إلى باب إيوان يزدجرد وهذا ليقف على أخبارهم أول بأول. وقد استمرت المعركة أربعة أيام عرف كل يوم منها باسم معين في التاريخ الإسلامي لما كان لهذه المعركة من شراسة وقوة وهي على النحو التالي: اليوم الأول، يوم أرمات في المحرم 14هـ: أقام سعد في القصر وأمامه الجيش على مصافه عليه قادته وكان سعد قد أصيب بالدمل فلا يستطيع القعود ولا الركوب وهو على صدره تحته وسادة ويدير المعركة وهو على هذه الحالة ومعه خالد بن عرفطة يبلغه أوامره وهو يبلغها إلى الأجناد وبدأت المعركة باختطاف عدد من جنود الفرس وقتلهم ثم كبر سعد وتلاحم الجيشان وتقدم نحو بجبلة (قبيلة) ستة عشر فيلا فنفرت خيلهم وكادوا أن يهلكوا بمن معهم فأرسل سعد إلى بني أسد أن ساعدوا بجيلة فخرج طليحة الأسدي وقوم من بني أسد في كتائبهم إلى الفيلة فردوها، وكان على كل فيل منها عشرون رجلا وأمرها إلى قائد يقال له ذو الحاجب فلما رأى وقوف بين أسد إلى جانب بجيلة كثف الهجوم عليهم وقصدهم من دون العرب فكانوا في محنة وكبر سعد الرابعة فزحف بقية جند المسلمين ونادى سعد عاصم بن عمرو وقال له: اكفني شر الفيلة فأمر عاصم رجاله أن يتدبروا أمر الفيلة ويقطعوا السيور التي تحمل التوابيت ثم ليرموا من فوقها، ففعلوا وحسرت الفيلة وقتل من عليها من الجند ثم تحاجز الناس في الليل وأصيب من قبيلة أسد خمسمائة وكانوا هم الدرئية للمسلمين في هذا اليوم حيث تلقوا الصدمة الأولى عن غيرهم واحتووا هجوم الفرس. اليوم الثاني يوم اغواث. وصل مدد من الشام وهم الذين كانوا مع خالد فعادوا بناء على أوامر عمر بن الخطاب وفيهم القعقاع بن عمرو بن هشام بن عتبة وكانوا في ستة آلاف مقاتل وكان وصول القعقاع في صبيحة يوم أغواث، وخرج القعقاع من فوره ونادى للمبارزة وخرج له ذو الحاجب بهمن جاذويه فأخرج له البيرزان والبندوان فخرج مع القعقاع الحارث بن ظبيان فبارزهما وقتلاهما ونشط المسلمون واقتتل الجيشان حتى المساء وكانت الغلبة للمسلمين في هذا اليوم ولم يقاتل الفرس بالفيلة هذا اليوم لتكسر توابيتها في اليوم الأول حيث لم يتمكنوا من إصلاحها لذلك خرجت من المعركة وقاتل المسلمون بمعنويات كبيرة في غيابها. اليوم الثالث: يوم عماس: في هذا اليوم جهز الفرس الفيلة وصدموا بها المسلمين كاليوم الأول ولقوا منها عناء كبيرا فتطوع القعقاع بن عمرو بن عاصم فشدوا مع جماعاتهم على الفيل الأبيض، وهو أكبرها ويسمى فيل سابور، وكانت الفيلة تقدي بها وتتبعه أينما توجه، ففقئوا عينه بالرماح ثم قطعوا خرطومه وشد آخرون من بني أسد على الفيل الأجرب وفعلوا فيه مثل ما فعل القعقاع وعاصم فارتد الفيلان على جيش الفرس وتبعهما بقية الفيلة فعبروا العقيق هربا وسقط من على ظهورها من الجنود واستمر القتال شديدا طيلة هذا اليوم ثم تواصل حتى الليل فسميت هذه الليلة ليلة الهرير، وكانت شديدة على الطرفين وانقطعت الأصوات إلا من صوت السلاح وفقد الاتصال مع القيادة فلا سعد يعلم ما جرى للمسلمين ولا رستم يعلم ما جرى للفرس وعند الصباح انتهى الناس وكانت الغلبة للمسلمين وسميت بهذا الاسم لأن الجميع فقدوا النطق وكان كلامهم الهرير. اليوم الرابع، يوم القادسية: هذا اليوم كان صبيحة ليلة الهرير حيث استمر القتال في الصباح وقال القعقاع: اصبروا فإن صبرتم ساعة كان النصر لكم بإذن الله فصبر المسلمون صبرا عظيما وخالطوا جيش الفرس وجالدوهم فما ارتفع قائم الظهيرة حتى انفرج القلب وتوغل فيه المسلمين وهبت عاصفة فقلعت خيمة رستم عن سريره وحملتها إلى النهر، فانتهز القعقاع هذه الفرصة وشد ومن معه من جنود على الجند وقصدوا سرير رستم فتنحى رستم واختبأ بين بغال محملة بالأموال ووصل إليه هلال بن علقمة فقطع حملا فسقط فوق رستم وكسر فقارا من ظهره فهرب وألقى بنفسه في النهر فتبعه هلال فجذبه من رجله وأخرجه للشط وقتله ثم صعد سريره وقال: قتلت رستم ورب الكعبة وكبر المسلمون فلما سمع الفرس ذلك فتد في عضدهم وسارعوا بالهروب واتجهو إلى النهر يريدون العبور فسقط المقترنون منهم بالحديد في النهر والمسلمون يطعنونهم بالرماح، ونادى سعد جنوده لاتباعهم والإجهاز عليهم وألا يفلت منهم أحد، فطاردهم المسلمون في كل مكان حتى آخر اليوم في البوادي والقرى. استشهد من المسلمين زهاء ثمانية آلاف وخمسمائة مقاتل وقتل من جنود الفرس ما يزيد على خمسين ألفا وشرد جيشهم فلم يصل منهم إلى المدائن إلا القليل. وكانت هذه المعركة هي بداية النهاية لملك الفرس ومنها انطلقت سائر ا لفتوحات الإسلامية في تلك المنطقة .