سيف الدولة الحمداني

ولادته ونشأته: ولد سيف الدولة بن حمدان في عام 301هـ. أما عن طفولته فقد تحدث عنها أحد المحدثين حيث قال: أنه عندما ابتدأ الأمير سيف بالمشي عرف الناس أنه سيكون الأكثر جمالا في بني حمدان.. وكان ذكاؤه حادا مستغربا، ولهذا دفعه والده بين أيدي حكماء الموصل لقنوه العلوم والشعر وكان يريد أن يجعله عالما يفوق كل العلماء، إنما الله وحده يعرف كل شيء.. وما قدر يكون، هذا بالإضافة إلى ما كان يحيط به من مظاهر الحياة الحربية.. فقد تربى في بيئة عسكرية وأسرة عريقة في الحرب والدب، فنشأ شابا أديبا فارسا شجاعا طموحا.. فقد رأيناه كيف وقف إلى جانب أخيه الحسن، فكان سنده الأول دائما في كل حروبه وغزواته وما إن بلغ العشرين من عمره حتى أوقع بعمرو بن حابس الأسدي هزيمة ساحقة عند رأس العين، وببني ضبة ورياح التميمي. ومرت الأيام والأعوام بسيف الدولة بن حمدان وأخيه الحسن يدفعه في وجه الروم حيث خاض معهم المعارك الضارية وانتصر عليهم وطاردهم وعاد منتصرا، فلم يلبث أن يعود إلى الموصل حتى يرجع لمطاردتهم مرة أخرى، ويفتح الحصون والقلاع ويسبي القرى ويحرق البساتين، ثم رأيناه مرة أخرى وفي ميدان آخر في بغداد، فقد رأينا أن البريديين تقدموا وطاردوا الخليفة وأمير أمرائه ففروا إلى الموصل حيث استنجدوا بالحمدانيين في الموصل، فاستجابوا له.. وبعث ناصر بأخيه سيف الدولة حيث تمكن من إيصال الخليفة إلى أخيه بالموصل فأكرمه بنو حمدان ثم عادوا معه بجيوشهم، وكان على رأس هذه الجيوش سيف الدولة بن حمدان الذي خاض المعارك الضارية ضد البريديين حتى أخرجهم من واسط ثم انه أراد أن يتعقبهم إلى البصرة لولا أن الظروف حالت دون تحقيق ذلك لغرض، فاستقر سيف الدولة في واسط. مناقب سيف الدولة: نصره الله، ولا كان فيهم من يشق في الشرق غباره، ولا يقاربه في رتبة ولا يدانيه في منزلة، لأن الله تعالى فضله عليهم بدينه وحسبه ونسبه وعز جانبه وسعة ملكه وثروتهن وشرف نفسه عن أفعال دنية أسفوا إليها وحلق عنعا، وخلال ذميمية تباعد عن أمثالها ودنوا إليها. وهو على الأولياء غيث وعلى الأعداء سيف فاصل إذا نقم على قوم ملأ فجاج الأرض عليهم بجحافله، وأخذ مسلكها عليهم بكتائبه وقبائله، وحتى إذا ضاق الخناق وخرجت عليهم الآفاق ولم يجدوا منه معقلا يلجئهم ولا مهربا ينجيهم عادوا بعفوه عائذين وحلمه لائذين، واستسلموا إليه وألقوا نفوسهم بين يديهن واعتذروا فكان عذرهم عنده مقبولا، وطلبوا الأمان فكان مبذولا، وأوسعهم عفوا لا يكدره تثريب مقرونا ببشر لا يشوبه تنكر ولا تقطيب.. وأضاف إلى الصفح الجباء وإلى العفو جزيل العطاء يتكبر عن التكبر وتعلو همته وشرفه عن الخيلاء والتجبر، يأمر عليه علو خطره، وينهاه جلالة قدره وتشرف عن الدنايا نفسه، ويقضي عليه عدله.. تواضعه ثقة منه بشرفه الذي لا يدانى ومجده الذي لا يسامى.. طلب الإمارة وولايته لحلب: بلغت الأسرة الحمدانية أوج مجدها فقد أصبح ناصر الدولة أميرا للأمراء وأخوه سيف الدولة أصبح من أعظم قادة الخلافة وحامي ذمارها ضد أعدائها لدرجة أنه حاز على رضى الخليفة ثم رضى الشعب الذي أخذ يدعو له في الطرقات والمساجد. وما إن استقر سيف الدولة في الموصل حتى حدثته نفسه بأن أخاه لابد أن يكافئه بإمارة أو ولاية له يحكمها نظير ما قدمه له من خدمات جليلة، ولكن قد خاب ظنه حين ولى أخوه ابن عمه الحسين بن سعيد إمارة الثغور والعواصم مما كان له أثر سيئ في نفس سيف الدولة، وبدأت الوحشة بين الأخوين واضحة، ورحل سيف الدولة مع غلمانه حتى وصل إلى بلد ثم رحل عنها وأصبح على بعد فرسخين من بلد فإذا بجيش وأعلام لاحقه.. ويحدثنا سيف الدولة عن نفسه فيقول: فلم اشك أن أخي أنفذهم للقبض علي، فأخذت للأمر أهبته ودعوت غلماني بالاستعداد للحرب وعدم المبادأة، إلا أن أحد الأعراب لحق بي واخبرني أن رسالة من أخي ناصر الدولة يحملها دنحا أحد عبيدي، فانتظرت حتى سلمني دنحا رسالة مضمونها إنك قد كنت جئتني تلتمس طلبك للولاية فصادفت مني ضجرا وأجبتك بالرد، ثم علمت أن الصواب معك، فكنت منتظرا أن تعاودني في المسألة فخرجت من غير معاودة ولا توديع، والآن إن شئت فاقسم سينجار بنصيبين فإني منفذ إليك ما التمست من المال والرجال لتسير إلى الشام.. فقلت لـ دنحا تشكره وتجزيه الخير.. فإذا كان قد رأى هذا فأنا ولده وإن تم لي شيء فهو له، وأنا مقيم بنصيبين لا ننتظر وعده.. وما هي إلا أيام حتى جاءني دنحا ومعه ألف رجل قد أزيحت عللهم وأعطوا أرزاقهم ونفقاتهم وعرضت دوابهم وبغالهم، ومعهم خمسون ألف دينار، وقال هؤلاء الرجال وهذا المال فاستخر الله وسر فسرت إلى حلب فملكتها. سيف الدولة الشاب يحارب البيزنطيين: ولا يكاد سيف الدولة في الخامسة والعشرين من عمره حتى ينطلق على رأس جيش كبير مقتحما بلاد الروم البيزنطيين ويتوغل إلى حصن زياد في قلب بلاد الأعداء ويفتحه ويقيم عليه ليالي عديدة فيخرج إليه ملك الروم في مائتي ألف مقاتل، وهو عدد لا قبل للأمير المغامر الصغير بملاقاته، فيعمل فكرهن ويلجأ إلى المراوغة والتقهقر المنتظم حتى يطمع فيه الجيش المدافع، حتى إذا سحب جيش الأعداء إلى الأرض التي يريدها بين حصن زياد وسلام انقض الأمير الفارس عليهم فأعمل فيهم الضرب والقتل، وأنزل بهم شر الهزائم وأسر منهم سبعين بطريقا، كما أخذ سرير الدمستق وكرسيهن وكان ذلك موافقا لعيد الأضحى لسنة 326هـ. ولا يكاد يمضي عامان على غزوته حتى اتجه إلى قاليقلا وكان بالقرب منها مدينة جديدة تحت الإنشاء، أطلق عليها الروم هفجيج .. ولا يكادون يحسون بمسير الأمير حتى خربوها وولوا الأدبار.. ثم توغل سيف الدولة في أرض البيزنطيين في مناطق لم يصل إليها أحد من المسلمين قبله، وفي تلك الأثناء يصل كتاب إلى سيف الدولة من ملك الروم بالتهديد فيرد عليه سيف الدولة بالمثل، فيغضب الملك، ويبلغ القول مسامع سيف الدولة فيمضي متوغلا إلى قلونية البعيدة الحصينة المتأبية فيفتحها ويحرق بساتينها، ويكتب إلى ملك الروم من هناك مستهزأ به وبمنعه بلاده. وحاول الدمستق أن يتحرش بسيف الدولة فيوقع به سيف الدولة ويقتل من الجنود البيزنطيين مقتلة عظيمة، ويصل بجيشه سليما إلى أرض العرب بعد أن أوقع بالروم الفزع والرهبة، وبعد أن أسقط من مدنهم أكثرها حصانة وأشدها منعة. سيف الدولة في بغداد: انطلق البريديون من البصرة متجهين إلى بغداد سنة 330هـ فيستولون عليها ويخربون عمائرها، ويسلبون قصر الخليفة الذي يرسل الحسن بن حمدان مستنجدا به، ويعز الأمير على الحسن فيكتب إلى أخيه القائد الشاب على سيف الدولة.. فينطلق الأمير إلى الدرب ميمما وجهه شطر بغداد ولكن البريدي يكون قد تم له الظفر على الخليفة الذي هرب في طريقه إلى الموصل في موكب من العراة الراجلين، ويلتقي بسيف الدولة في الطريق فيمهد وسائل الراحة له ولحاشيته واتباعه. ويصطحب الأمير الحمداني الخليفة على رأس جيش متجهين إلى بغداد لاستردادها من البريديين، ويلحق بهم الحسن بن حمدان، ولا يكاد البريديون يحسون بمقدم الأمير الشاب حتى يتركوا بغداد ويولوا الأدبار نحو الجنوب، فيدخل الخليفة إلى عاصمته وقصوره ويخلع على الحسن بن حمدان لقب ناصر الدولة ويخلع على الشاب علي بن حمدان لقب سيف الدولة ويأمر أن تكتب أسماؤهم على الدنانير والدراهم. مضى سيف الدولة في مطاردة البريديين ويلتقي بهم قرب المدائن وترجح كفتهم أول الأمر غير أن ناصر الدولة يشعر باتجاهات المعركة فيسارع بإرسال المدد إلى أخيه وهناك جرت معركة دامية ينزل فيها سيف الدولة بالبريديين هزيمة نكراء ويأسر عددا كبيرا من قوادهم وجنودهم. معارك سيف الدولة ضد الروم: إذا ما حاولنا أن نتتبع سيف الدولة في كل غزوة من غزواته أراضي الروم فقد يكون ذلك من الأمور المملة التي ليس مكانها هذه الصفحات، وإنما يمكن الرجوع إليها في ابن الأثير أو زبدة الحلب أو مسكويه أو غيرها من كتب التاريخ التي تهتم بالجزئيات، ذلك أن سيف الدولة قد قام بحوالي أربعين غزوة ضد البيزنطيين ولعله من الأفضل أن نتابعه في حروبه الكبرى التي اشتبك فيها معهم بعد ملكه لحلب سواء أكانت نتيجتها نصرا أم هزيمة. معركة بغراس ومرعش سنة 333هـ 944م: كان سيف الدولة مشغولا بحرب الإخشيديين لاستخلاص حلب وجعلها مملكة يلي أمرها فانتهز البيزنطيون هذه الفرصة وأغاروا على الثغور ظنا منهم أن الأمير العربي غير قادر حتما على الحرب في جبهتين في وقت واحد ولكن سيف الدولة الذي كان يرى أن رسالته تنحصر في حماية الثغور وتأمينها قبل إنشاء الملك سارع إلى أرض المعركة في بغراس ومرعش وكمن لجيش العدو في بعض المضايق والشعاب وأنزل بهم هزيمة منكرة واستنقذ الأسرى من المسلمين وغنم غنائم كثيرة ثم عاد أدراجه ثانية لمتابعة إنشاء مملكته العتيدة. فتح حصن برزويه سنة 336هـ : كان الروم قد ملكوا حصن بروزيه وهو أحد الحصون الحربية الهامة فانطلق سيف الدولة سنة 336هـ إلى الحصن وأطال حصاره فانتهز القائد الرومي الفرصة وحاصر الحدث ونجح كل من القائدين في مهمته.. استرد سيف الدولة حصن بروزيه وفتح لاون بن بردس الحدث وخرب سورها فلم يلتق الجيشان وجها لوجه وانصرف سيف الدولة إلى ميافارقين. معارك سنة 339هـ 950م ووصوله قرب القسطنطينية: في هذه المعارك تقدم سيف الدولة في الأرض البيزنطية فاتحا مكتسحا وقد أخذته نشوة النصر فظل يضرب أكناف الأرض والحصون تتساقط أمامه وتحت سنابك خيله حصنا بعد حصن وأسر كثيرا من جنود الروم وفتح سمندو وخرشنة وظل يتقدم حتى وصل إلى صارخة وهي غير مجيدة عن العاصمة القسطنطينية ففزع الروم من هذا النصر التي احتشد له سيف الدولة واشترك فيه كثير من أهل الثغور خاصة فرسان طرسوس فانهزم البيزنطيين أقبح هزيمة. معارك سنة 342هـ 0953م) وأسر قسطنطين ابن الإمبراطور: فلما كان العام التالي 342هـ أصر العدو على أن يثأر لنفسه فكمن بجيش كثيف عند موزار وبحيلة بارعة من سيف الدولة سحب جيش البيزنطيين إلى مكان يصلح أرضا للمعركة والتحم الفريقان في حرب ضروس انتصر فيها العرب انتصارا باهرا وظل الجيش العربي يضرب في الروم باسطا سلطانه على سمنين وحصن الران وغيرها من المواقع فانتهز العدو هذه الفرصة وأغار على بعض الأطراف الإسلامية فبلغ الخبر سيف الدولة الذي انطلق إليه وأدركه عند نهر جيحان وكانت معركة رهيبة جرح فيها القائد البيزنطي الخطير برداس فوكاس وأسر فيها ابنه قسطنطين الذي ظل مكرما عند سيف الدولة حتى أرسل أبوه إلى عطار نصراني بحلب تحايل حتى دس له السم في الطعام وكانت هذه الهزيمة شديدة الوقع على القائد البيزنطي فلم يتحمل إهانتها ولذلك دخل الدير مترهبا. سقوط حلب في أيدي الروم (351هـ- 962م): فزع الروم من الهزائم المتوالية المتلاحقة التي أوقعها بهم الأمير سيف الدولة الحمداني ولقد أثار حفيظتهم أن أميرا لإحدى المقاطعات الإسلامية ينزل تلك الهزائم الكثيرة بأكبر إمبراطور على وجه الأرض، وأخيرا اضطرت أن تستدعي أقوى قائد في جعبتها وأصلبهم عودا ونقلته من الجهة الغربية إلى الجهة الشرقية حتى يحرز للإمبراطور بعض النصر على العرب فيحفظ عليها بعض ماء وجهها أمام رعاياها، هذا القائد كان نقفور فوكاس ولم يكد يمضي على تعيينه في منصبه الجديد شهور قليلة حتى أعد نفسه للثأر من سيف الدولة. لقد حاول سيف الدولة أن يلتقي بالجيش البيزنطي بعيدا عن حلب فخرج في أربعة آلاف جندي من الفرسان والرجال إلى عزاز ولكنه تيقن ألا طاقة له بمحاربة هذا العدد الضخم من الجيوش الرومية المجهزة فعاد إلى عاصمته وخيم بظاهرها وجرت محاولات كثيرة لهدم السور والاستيلاء على حلب فباء أكثرها بالفشل لصمود الحلبيين، لقد كان الجيش الذي يحاصر المدينة وحده ثمانين ألفا، وبرغم ذلك كان يجزع من التقدم إلى داخل السور. وعندما دخلوا المدينة ألحق بهم العرب هزيمة فادحة، فقد كانت قلوب الروم تهتز فرقا وخوفا من أن يعاجلهم سيف الدولة بهجوم مفاجئ، ولشدة خوفهم أحسوا بطلائع مقبلة من جهة قنسرين، وكانت نجدة لهم فتوهم قائدهم أنها نجدة لسيف الدولة فرحل خائفا مذعورا، ولكنه مقابل هذا فقد خسر العرب خسائر فادحة في هذه المعركة سواء في الرجال أو في المال والعتاد، ولكن لم يكن هناك مفر من ذلك. سيف الدولة يعود إلى القتال: لم تذهب الهزيمة بثبات الأمير الحمداني بل إنه عاد من عاصمته في الشهر فسه ولاشك في أنه وقف على أطلالها حزينا وقد اسر في نفسه في أن ينتقم لرجاله الذين هلكوا وللأبرياء الذين قتلوا وللمدينة الجميلة التي ضربت، خرجت جيوش المسلمين من طرسوس واقتحمت بلاد الروم وأوقعوا بجيوشهم وعادوا بغنائم وفيرة ثم بلغ سيف الدولة خلاف الروم على من يلي العرش في الإمبراطورية فانتهز الفرصة ودخل بلادهم وأحرقها وسبى أكثر من ألفين وغنم من المواشي أكثر من مائة ألف رأس وظل يضرب في بلادهم حتى وصل إلى ملطية وسبى وغنم ما لا يسهل حصره.