البتاني .. عبقري الفلك والجبر

هو ابن عبد الله محمد بن سنان بن جابر الحراني المعروف باسم البتاني، ولد في بتان نواحي حران حوالي 850م وتوفي في العراق سنة 929. يعد البتاني من عباقرة علم الفلك في العالم، وكذلك من عباقرة علمي الجبر وحساب المثلثات، وهو من الذين أسدوا خدمات جليلة لتطور العلوم الرياضية عبر التاريخ البشري. اشتهر برصده للكواكب والأجرام السماوية، وبالرغم من بدائية الآلات التي استعملها فقد توصل لنتائج مذهلة ما زالت محط إعجاب العلماء ودهشتهم، وبقيت جداوله الرياضية وبراهينه الهندسية من أهم المراجع حتى بداية القرن الثامن عشر، فاعتبره كل من كاجوري وهاليه من أعظم علماء الرصد، وسماه بعض الباحثين بطليموس العرب، وفيه قال سارطون: إن البتاني من أعظم علماء عصره وأنبغ علماء العرب في الفلك والرياضيات، وقال العالم الفرنسي الشهير لالاند: إن البتاني من العشرين فلكيا المشهورين في العالم كله. منهجه العلمي: تتضح منهجية البتاني من خلال أقواله وما ذكره في مؤلفاته عن طريقة عمله وتفكيره، فيقول: طالما أطلت النظر في هذا العلم وأدمنت الفكر فيه، ووقفت على اختلاف الكتب الموضوعة لحركات النجوم، وما تهيأ لبعض واضعيها من خلل وما اجتمع في حركات النجوم على طول الزمان..، إن علم الفلك من العلوم الأساسية المفيدة، إذ يمكن بواسطته أن يعرف الإنسان أشياء مهمة يحتاج إلى معرفتها واستغلالها بما يعود عليه بالنفع والفائدة..، إن أهم مقومات التقدم في علم الفلك هو التبحر في نظرياته ونقدها، وجمع الأرصاد الوفيرة، والعمل على إتقان تلك الأرصاد..، ..ذلك لأن الحركات السماوية لا تحاط بها معرفة مستقصاة حقيقية إلا بتمادي العصور والتدقيق في الرصد..، .. وإن الذي يكون فيها من تقصير الإنسان في طبيعته عن بلوغ حقائق الأشياء في الأفعال كما يبلغها في القوة، يكون يسيرا غير محسوس عند الاجتهاد والتحرز، لا سيما في المدد الطوال، وقد يعين الطبع وتسعد الهمة وصدق النظر وإعمال الفكر والصبر على الأشياء وإن عسر إدراكها، وقد يعوق من ذلك قلة الصبر ومحبة الفخر والحظوة عند ملوك الناس بإدراك ما لا يمكن إدراكه عن الحقيقة في سرعة، أو إدراك ما ليس من طبيعته أن يدركه الناس..، وكثيرا ما استشهد البتاني بآيات القرآن الكريم. أهم منجزاته: ترك البتاني عدة مؤلفات في علوم الفلك والجغرافيا، وأهمها على الإطلاق كتاب الزيج الصابي الذي يعتبر من أصلح الزيج التي وصلتنا من العصور الوسطى. البتاني هو أول من أدخل مصطلح الجيب (Sinus)، والعارفون بعلم المثلثات (Trigonometrie) يدركون جيدا أهمية هذا الإنجاز، ويرون فيه ابتكارا ساهم كثيرا في فهم علم المثلثات، وتقول العالمة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب: إن مصطلح الجيب قد دخل إلى رياضيات كل شعوب العالم بعد ترجمة كتاب البتاني. هو من أوجد مصطلح جيب التمام (Cosinus)، وهو من استخدم الخطوط المماسة للأقواس (Tangentes)، وظلال التمام (Cotangentes)، والقواطع (Secantes)، وقواطع التمام(Cosecante)، وأدخلها في حساب الأرباع الشمسية وفي قياس الزوايا والمثلثات، كما أوجد العلاقات فيما بينها ونظم جداول هامة بهذه العلاقات. البتاني هو من استنبط القانون الأساسي لاستخراج مساحة المثلثات الكروية. واستطاعت عبقرية هذا العالم أن تحل بعض العمليات الحسابية وبعض النظريات بطرق جبرية وليس بطرق هندسية، كما كان يحلها من سبقه من العلماء العرب واليونانيين، مثل تعيين قيم الزوايا بطرق جبرية، وكان هذا ابتكارا أضيف إلى الكثير من الإضافات التي أدخلها العرب في علم المثلثات، وإليهم يعود تأسيس هذا العلم الهام. وعلى صعيد الإنجازات الفلكية فقد أصلح قيمة الاعتدالين الصيفي والشتوي، وكذلك حدد قيمة ميلان فلك البروج على فلك معدل النهار، (أي: ميل محور دوران الأرض حول نفسها على مستوى سباحتها حول الشمس)، ووجد أنه يساوي 23 درجة و35 دقيقة، وتبين حديثا أنه أصاب في رصده إلى حد دقيقة واحدة، وكذلك حدد طول السنة الشمسية رغم بدائية الآلات التي استخدمها فكانت نتائجه 365 يوما و5 ساعات و46 دقيقة و24 ثانية، وأخطأ بالنسبة للحسابات الحديثة بدقيقتين و22 ثانية فقط. حقق البتاني مواقع كثير من النجوم وصحح بعض حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس بثبات الأوج الشمسي، وأقام الدليل على تبعيته لحركة المبادرة الاعتدالية، واستنتج من ذلك أن معادلة الزمن تتغير ببطء شديد على مر الأجيال، وأثبت على عكس ما ذهب إليه بطليموس بتغير القطر الزاوي الظاهري للشمس واحتمال حدوث الكسوف الحلقي، وعن أحوال خسوف القمر، ويعترف نللينو بأن البتاني استنبط نظرية جديدة تشف عن كثير من الحذق وسعة الحيلة لبيان الأحوال التي يرى فيها القمر عند ولادته..، ونجد أن العالم كوبرنيكوس يستشهد كثيرا بأعمال البتاني في كتابه الشهير سنة 1530 وكذلك بأعمال العالم العربي الزرقالي. اعتمد دنثورن سنة 1794 بتحديد تسارع القمر في حركته خلال قرن من الزمن، على نتائج أرصاد البتاني في الكسوف والخسوف ( التي أجراها في الرقة وأنطاكية). سجل البتاني بكتابه الشهير الزيج الصابي (يوجد نسخة منه في مكتبة الأسكوريال في إسبانيا ونسخة في مكتبة الفاتيكان) جداول تتعلق بحركة الأجرام التي اكتشفها بنفسه، كما يذكر الكواكب الثابتة حتى سنة 249 هجرية، ويقول نللينو رأيه في هذا الكتاب:..في هذا الزيج توجد أرصاد البتاني التي كان لها أثر كبير في علم الفلك وفي علم المثلثات الكروي، وبقي هذا الكتاب مرجعا للفلكيين في أوروبا خلال القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة. ويصف العالم بال أعمال البتاني بقوله: إن الزيج الصابي من أنفس الكتب، فقد وفق البتاني في بحثه عن حركة الشمس توفيقا عجيبا. ترجم الكتاب إلى اللاتينية تيفوك في القرن الثاني عشر باسم علم النجوم، ثم ترجم وطبع عدة مرات وبعدة لغات. خاتمة: من خلال هذه العجالة السريعة نستطيع القول بأن البتاني علم من أعلام الحضارة العربية الإسلامية الذين قدموا للبشرية نتاج عبقريتهم التي لا تقدر بثمن، والعالمة الألمانية هونكه من العلماء الذين قدروا مساهمات العلماء العرب في مسيرة الحضارة الإنسانية، وتقول بهذا الخصوص: إن الغرب بالتأكيد أخذ عن العرب أسس علم الفلك، وما يؤكد هذا الكلام الاستمرار باستعمال أسماء النجوم كما سماها العرب وكذلك وجود أكثر من 160 مصطلحا فلكيا باللغة العربية يستعملها الغربيون في علم الهيئة اليوم، نذكر منها: الثور (Altaur)، الجدي (Algedi)، الذنب ( Denab )، آخر النهر (Acarnar)، الفرقدان (Farcadin)، قلب الأسد (Kalbehsit )، قلب العقرب (Kalbolacrab)، الكوكب (Kochab)، رأس الجوزاء (Rasalgeuse)، المركب (Markab)، التنين (Etanin )، الخابور (Alchabor)، الدبة (Dubhe)، الطائر (Altair)، الفرس (Alpherath)، الغراب (Algorab)، الكور (Alkor)، فم الحوت (Famlhaut)، الواقع (Wega)، بطن الحوت (Baten-Kaitos)، رأس الغول (Algol). والتاريخ يؤكد بأن البتاني من الذين ساهموا في وضع أسس علم المثلثات الحديثة وعملوا على توسيع فهمها، ولا شك أن إيجاده لقيم الزوايا بطرق جبرية يبرهن على خصوبة قريحته، وعلى فهمه الواسع لبحوث الهندسة والجبر والمثلثات فهما أنتج تلك الإبداعات العظيمة، والبتاني من أهم علماء العرب الذين طوروا علم الفلك ونقلوه من علم ممزوج بالخرافة والأوهام إلى علم يستخدم المنهج العلمي في سبيل تحقيق غرضه.