قصة قصيرة: مقايضــــة

وقفت مضطربة تراقب شاشة العرض الصغيرة، وتحسب الرقم الأخير المطلوب ثمنا لتموينات الأسرة خلال شهر كامل.. أحست بالذنب!! إنه رقم فلكي إذا ماقورن بالراتب الشهري لزوجها.. نظر إليها معاتبا.. سحب محفظته بتثاقل.. دفع المبلغ المطلوب.. حاولت أن تساعده في دفع العربة المثقلة بحاجات أساسية لايمكن لعائلة تتألف من سبعة أفراد أن تستغني عنها.. نظرت إلى الفاتورة الطويلة، قرأت في أسفلها الملاحظة التالية: مبروك: فزت معنا بجائزة 10 بطاقات مجانية للعب في مراكز الترفيه.. قالت لزوجها: إنه مركز تجاري جيد.. ويحمل نفس اسم هذا المركز، بالتأكيد هو لنفس المالك!! تمتمت في سرها: سبحان الكريم الوهاب.. مازال زوجها صامتا.. أرادت أن تلطف الأجواء فقالت له: جائزة حلوة.. ومن نوع جيد.. ياللذكاء التجاري!! من العب إلى الجيب كما يقولون!! ابتسم زوجها مسايرا.. ألقت بالفاتورة في محفظتها، إنها فرصة طيبة لإسعاد الأولاد في وقت آخر يكون فيه زوجها أفضل حالا.. أمام باب البيت، استقبلهم الأولاد بفرح شديد.. أربعة فتيان يتقافزون كنمور صغيرة، تزينهم طفلة جميلة تمتلئ صحة وعافية، وتلمع عيناها فطنة وذكاء.. عانقت والدها وقالت: - شكرا لك ياأحسن أب في العالم!! غمرها بيديه.. نسي تعبه.. كأنه لم يدفع نصف راتبه قبل دقائق.. بدأ يطعمها بيديه، فالتف حوله النمور الأربعة، تخاطفوا مابيده، وقبلوا رأسه شاكرين.. ومع صباح جديد عاد إلى دوامة العمل المضني، والسعي الشاق وراء لقمة شريفة وإن كانت بالكاد تسد الرمق.. ذات مساء.. فتحت محفظتها، فتعثرت يدها بالفاتورة الطويلة ذات الجائزة الطريفة.. وبعد دقائق قليلة كانت مع زوجها وأولادها داخل هذا المجمع التجاري الضخم.. وقفوا في البهو الرئيسي وقد بهرتهم الأضواء المتراقصة، والسلالم الكهربائية. صالات عرض لم يروا لها مثيلا في حياتهم، عشرات المطاعم والصالات والمحلات، أعداد كبيرة من الناس تغدو وتروح بأكياس أنيقة منتفخة!! يالهذا العالم الغريب.. أهو سوق أم فندق من الدرجة الأولى؟.. قطع عليهم الأب تأملاتهم السحرية وسحبهم قائلا: هيا.. هيا إلى صالة الألعاب الترفيهية.. والمجانية!! لاتنسوا ذلك. أخيرا وصلوا إلى الدور الأخير.. وبعد طول بحث وجدوا صالة الألعاب.. كم بهرتهم أشكالها وأنواعها الفريدة.. وكم أحزنهم أن كل ماربحوه من بطاقات لاتكفي لاستمتاع واحد منهم فقط!! يالخيبة الأمل!! على الأب أن يدفع مبلغا مرموقا ليستمتع الجميع.. كيف السبيل إلى حل هذه المشكلة؟ قال الأب لنموره الأربعة: مارأيكم ياشباب لو أخذتكم لنأكل شيئا لذيذا؟ ولنترك أمكم مع هذه الصغيرة تلعب كيف تشاء.. هيا بنا.. نحن رجال وقد كبرنا على اللعب.. وافق الأولاد مكرهين.. بينما تسمرت عيونهم على أختهم التي بدأت تضيع في زحمة اللاعبين.. استعرضت الصغيرة جميع الألعاب، حارت في أمرها.. أيها تختار؟ وقفت طويلا أمام صالة الليزر المغلقة تفكر.. ماسمعته عنها من صديقاتها وعن الأفلام المرعبة التي تعرض فيها أغراها بالدخول، ولكن خالجها شيء من الرهبة.. بل من الرعب.. عليها أن تغامر.. وقفت في صف طويل تنتظر دورها، وحين همت بالدخول إلى الغرفة المظلمة، قابلها وجه طفولي غريب الملامح.. بدين أحمر.. نظر إليها ببلاهة وأشار بأن تدخل وتجلس إلى جانبه!! خافت وصرخت مبتعدة: لا.. لاأريد الركوب.. أسرعت ترتمي بين ذراعي أمها فقالت لها الأم مهدئة من روعها: لاتخافي.. إنه لطيف، ولن يؤذيك إطلاقا، إنه مريض يستحق الشفقة.. انظري كيف أحادثه وأداعبه.. مسحت الأم على رأسه برفق، قبلته وطلبت منه أن يتنحى قليلا لتجلس ابنتها إلى جانبه، ضحك مسرورا وأمسك الصغيرة من يدها وشدها إلى داخل الغرفة المظلمة.. صرخت من جديد وهربت.. قبلت الأم هذا المسكين وداعبته بحنان قائلة: آسفة ياصغيري.. إنها لاتفهم.. ضحك لها ببلاهة واضحة وسعادة متناهية.. ودارت به اللعبة من جديد.. وحين توقفت اللعبة قررت الصغيرة أن تدخل هنا العالم الغريب، ولكنها رأت ذلك الطفل المخيف جالسا من جديد.. إنه لايرغب بالخروج.. وماتزال أمها يائسة تحاول إقناعها بالدخول، ومازال هو لاصقا داخل الغرفة لايغادرها ويكرر اللعب مرات ومرات!! سألت الأم الرجل المسؤول عن تشغيل اللعبة: يالهذا الصغير!! متى سيخرج؟.. وهل يدفع لك في كل مرة يلعب فيها؟ ابتسم الرجل وقال بلغة مكسرة فهمت من خلالها أن هذا الطفل هو ابن صاحب المركز التجاري.. بل ابن صاحب المراكز كلها!!.. صعقتها المفاجأة.. ظنها الرجل لم تفهم فقال: هذا مافي يدفع فلوس.. بابا هذا في فلوس كثير.. كثير!! انهمرت دموعها بلا استئذان.. وعلى مرأى من الجميع.. لم تعد تبصر ماحولها.. صرخت: أين أنت ياصغيرتي؟ رأتها مسمرة ماتزال تنظر إلى ذلك الطفل الغريب، مازال هو مبتسما سعيدا.. أمسكت بيد ابنتها.. أسرعت خارجة.. نظرت إلى كل العالم المحيط بها.. إلى كل المحلات والبضائع والأضواء و.. نظرت إلى العالم بأسره بكل مافيه من كنوز، فما وجدت أعظم كنزا من صغيرتها المعافاة.. قبضت على يدها بشدة.. وهربت بعيدا لتخرج من هذا العالم الغريب.. فجأة شعرت بيد قوية تمسك بثوبها وتشدها بإصرار.. إنه ذلك الطفل المريض.. التف حول ساقيها، أمسك بها بشدة.. بدأ يتكلم.. فهمت منه أنه يريد الذهاب معها، أبعدته برفق وأشارت إليه بالعودة، ولكنه ازداد قربا منها.. كأنه يقايضها.. كأنه يقول لها خذيني معك وخذي كل مراكز أبي التجارية التي بهرتك وخلبت لبك..!! يالها من مقايضة!! يالها من معادلة غير متساوية الطرفين!! أمسكت بيد ابنتها، قبضت عليها بشدة، وكأنها تقبض على كنوز الدنيا. إنها مع عافية أولادها هي الرابحة.. هي الثرية.. ومن بين دموعها المتراقصة، لمحت مجموعة من الخادمات يمسكن بالصبي المريض ويعدن به من حيث أتين.. وهو مايزال يناديها مستغيثا.. ضمت صغيرتها.. هربت من هذا العالم الساحر وهي تتمتم بحمد الله وتشكره على ثروتها الطائلة، وربحها الوفير..