في الطريق إلى الحج .. ذكريات وأشواق!!

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن ا لحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. بهذه الكلمات العطرة بدأ ت وفود الحجيج ، تتوافد لبيت الله الحرام مهبط الوحي ومبعث رسوله صلى الله عليه وسلم. ما أجمل تلك اللحظات وأسعدها حين ينطلق المسلم من داره تاركا أهله ووطنه، باذلا من ماله تالده وطريفه، معرضا نفسه للمصاعب والمخاطر، وكله شوق وحنين إلى الوصول لبيت الله الحرام لأداء تلك الفريضة العظيمة. ألا ما أعظم هذا البيت وما أجله، ترنو إليه النفوس الزكية، وتتطلع لرؤيته القلوب العامرة بالإيمان، المستجيبة لأمر الواحد الديان. وما أروع تلك اللحظات التي يقضيها المسلم في جنبات حرم الله، وأمام الكعبة المشرفة، وخلف مقام إبراهيم، وفي المشاعر المقدسة، يستروح منها الذكريات العطرة والأطياف الجميلة. أطياف وأطياف أي شعور يغشى المسلم وهو أمام ذلك البناء الشامخ المرتفع في عنان السماء، ليقابل البيت المعمور الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في السماء وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه يتذكر طيف إبراهيم وابنه إسماعيل وهما يستجيبان لأمر ربهما في بناء هذا البيت بواد غير ذي زرع، دون تردد أو تلجلج، داعيين ربهما أن يتقبل منهما ، وإذا بالبناء يرتفع شيئا فشيئا لينادي إبراهيم عليه السلام من فوق قمة الجبل أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا . ويطوف حول الكعبة فيرى المسلمين يطوفون بأجناسهم ا لمختلفة ولغاتهم المتعددة، قد تلاحمت الأجساد وتلاصقت الأكتاف واختلطت الأنفاس، فيتذكر أنهم جميعا أمة واحدة كالجسد الواحد. ويصلي خلف المقام وطيف إبراهيم يجول بخاطره وهو يعتلي هذا الحجر ليكمل البناء، فيبقيه الله جل وعلا تخليدا وتذكيرا للناس بتضحيته وفدائه ومسارعته للاستجابة لربه. ثم يشرب من زمزم فيروي ظمأه منها، وهو يتذكر فضل الله على أم إسماعيل ورضيعها، وحفظه لهما بإخراج هذا الماء من صحراء جرداء وصخور صماء. وفي نفس المكان تتجلى له ذكرى عبد المطلب وهو ينذر لله جل وعلا بذبح ولده إن رزقه عشرة من الولد، فيكون أعز أولاده عليه عبد الله هو المكمل للعشرة، ويحرص عبد المطلب على الوفاء بنذره، تنازعه في ذلك عاطفة الأبوة في الإبقاء على ولده، وإذا بفكرة الفداء تتجلى أمامه، فيدير ا لقدح ويقدم عشرة من الإبل ولكن القداح تخرج على عبد الله، فيقدم ثانية وثالثة حتى يبلغ الفداء مائة من الإبل، فتخرج القداح بقبوله، ويفدى عبد الله ليودع آمنة نطفة أفضل خلق ا لله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. ذكريات جميلة وأطياف كثيرة تجمعها تلك العبادة العظيمة وتلك البقعة الطاهرة أحب بلاد الله إلى الله . الحج منافع وفوائد: هذه وفود الحجيج قد انتهت إلى البيت مستبشرة، تتبعها وفود في الطريق سائرة، وأخرى تودع أحبابها وأصحابها بدموع الفراق للأحباب والشوق لبيت رب الأرباب، يجمعها كلها الاستجابة لنداء ربها ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قد تجردوا لله رب العالمين، يرجون ما وعدهم به من ا لأجر والثواب الجزيل، على لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه يتمنون الظفر بالوعد الجليل في قوله عليه أفضل صلاة وتسليم الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة يسيرون في الطريق فيتذكرون السير إلى ربهم، ويقطعون المسافات كما يقطعون الدنيا بمضي أعمارهم. ويتوجهون إلى الميقات ليتجردوا من ملابسهم كما تجردوا للواحد الديان، فيتذكرون تجردهم من الدنيا ، وخروجهم منها بلا شيء. يتساوى الجميع في لباس واحد الغني والفقير، ا لأمير والصعلوك، والشريف والوضيع، ولكنهم يتباينون عند الله في الفضل والمنزلة، إذ العبرة ليست بالمظهر وإنما بالمخبر. ويبتعدون عن الطيب والزينة ويحجمون عن الترف والشهوات، فتسمو نفوسهم ويحصل لها الصفاء والنقاء. ثم يرفعوا أصواتهم بالتلبية إعلانا منهم لقبول دعوة الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم بالحج لهذا البيت العتيق. لحظات الإقبال على الله ثم هم بعد قليل سيقفون جميعا بعرفة، ذلك الموقف الذي يباهي الله به ملائكته، يجتمعون كلهم في صعيد واحد ووقت واحد، فيتذكرون يوم الحشر والموقف العظيم بين يدي الله الواحد الأحد. وفي عرفة لحظات الإقبال على الله، والدعاء والتضرع، والذلة والمسكنة ، إنه الموقف الذي تسكب فيه ا لعبرات، وتصعد فيه الزفرات ، وتغفر فيه السيئات، وتمحى فيه الخطيئات، وتؤوب فيه النفوس إلى ربها، وتعود وتثوب إلى رشدها. إنها لحظات الإنابة والتوبة، والخوف والخشية ، لحظات الصفاء والنقاء، والأمل والرجاء. يقف الجميع وهم يتذكرون رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وقف على ناقته من بعد الخطبة إلى غروب الشمس، وقد رفع يديه إلى السماء وطأطأ رأسه إلى الأرض تواضعا لله رب العالمين، يسأله الرحمة والمغفرة والعفو والرضوان، قد تجرد عن الدنيا وزينتها، وفرغ قلبه عن مشاغلها وفتنها، وأقبل على ربه بصدق ويقين يرجوه ويأمله . حتى إذا غربت شمس ذلك اليوم الذي هو ركن الحج، ومن فاته فقد فاته الحج، إذا به يسير بسكينة وخشوع تأدبا مع مولاه، فيكمل بقية النسك كما أمره الله جل وعلا، مستشعرا فيها كلها عظمة ربه وقدرته وبطشه، ورحمته ومغفرته. النداء الأخير :- فيا من من الله عليه بالمال الوافر والصحة التامة، ومتعه بالشباب والقوة، وملك زادا وراحلة، ثم لم يلب نداء مولاه وأعرض عن زيارة بيته، ألم تسمع لقوله الله جل وعلا بعد أن أوجب الحج على من استطاع إليه سبيلا قال ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فسمى الإعراض عن الحج مع الاستطاعة كفرا. ألم يبلغك قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي إنه لمحروم. ألم تسمع لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين . وصح عنه أيضا قوله من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا فالبدار البدار ، واغتنم الفرصة قبل فوات الأوان فقد وضحت لك الجادة وتبين الطريق. هذا هو الحج: هذا هو الحج يتطلب من الحاج أن يعلن توبة صادقة، يصفي بها قلبه من الشحناء والبغضاء ويتحلل من مظالم العباد ويرجع إلى رب الأرباب. هذا هو الحج يجسد الأمة الواحدة في لباسها، ويجسدها في توحد مناسكها، ويجسدها في توحد وجهتها. هذا هو الحج مكان لاجتماع الكلمة، وتجديد الوحدة والشعور بالجسد الواحد. هذا هو ا لحج إخلاص لله وتجرد لمولاه، وإقبال يتبعه إنابة وتوبة. هذا هو الحج عبادة جامعة، ففيه إنفاق المال، والغربة عن الأوطان، وترك الأهل والأحباب، والذكر والعبادة والذبح والإنابة والطواف والسعي، عمل جسدي وآخر روحي فهو عبادة تميزت عن سائر العبادات.