خالد بن الوليد

نسبه ونشأته: ينتمي إلى قبيلة مخزوم، وهي من أشرف قبائل قريش، وكانت لمخزوم وظيفة من أخطر الوظائف التي أنيطت بالقبائل، إذ كان لهم القبة التي يجمعون منها عدة الحرب، ولهم قيادة الفرسان، فهم وزارة الحرب في قريش في الجاهلية. والده الوليد بن المغيرة، وكان ذا جاه ومقام رفيع بين قومه. ولد خالد بن الوليد قبل الهجرة بخمس وعشرين سنة فعاش وسط أسرته حياة منعمة مترفة، وكان قوي الجسم مفتول العضلات، فتفوق على الفتيان من أقرانه قوة ونشاطا، وقد هيأت له أسرته كل أسباب العيش الهنيء، فلم يكن يصرف وقته كبقية أقرانه في العمل لكسب عيشه، فأموال والده تكفيه وتكفي قبيلته، ولذا كان يصرف وقته في ركوب الخيل، والتدرب على المبارزة، فشب على حب هذه الأمور،فبرز كفارس عظيم منذ صباه، فلم يصمد أمامه فتى من فتيان القبيلة في مبارزة، وهذا ما جعل قبيلته تعتمد عليه في غزواتها، ومما زادهم ثقة، أنه لم يحدث لأحد منهم أن التقى بخالد سكرانا كبقية الفتيان من أقرانه، فكان إذا ما ضمه مجلس شراب ولهو ترك رفاقه في لهوهم وصخبهم وانتحى بنفسه جانبا، أو ترك المجلس، وكثيرا ما كانت تحدثه نفسه حين يرى تلك المجالس قائلة: ألمثل هذا خلق الشباب؟. قيادة خالد في الجاهلية: ما إن بلغ خالد مبلغ الرجولة حتى نال زعامة قومه في القتال، نالها بشجاعته وبطولته، التي شهد له بها قومه، ولم تنقض سنتان على موت والده حتى كان قائد الميمنة في معركة أحد المشهورة، تلك المعركة التي ما كان للكفار أن يكسبوها، لولا فطنة خالد وحسن تدبيره. لقد أرادت قريش أن تنتقم لقتلاها يوم بدرن ولهذا فقد أعدت العدة، وخرجت جموعها لملاقاة الرسول وصحبه عند جبل أحد. خطط خالد فأحسن التخطيط ثم نفذ بدقة، وتابع العمل حتى جنت قريش بثمار عمله، وانتصرت على المسلمين في تلك المعركة.. حيث كان خالد بن الوليد ينتظر الفرصة المواتية التي يتمكن فيها من الصعود إلى قمة جبل أحد، لأنه المقتل لمن يسيطر عليه، ولهذا فما إن رأى رماة المسلمين، يخلون مواقعهم حتى قاد ميمنته، ومن تمكن من رجال قريش، وصعد بهم أعلى الجبل، وأخذوا يمطرون المسلمين بسهامهم، وبدأت كفة المعركة تتغير، بعد أن اضطربت صفوف المسلمين، واختلط بعضهم ببعض، حتى أنهم ما عادوا يميزون بين المسلم وغير المسلم، فكانوا كمن يضرب في الظلام، ومما زاد الأمر سوءا تلك الإشاعة التي سرت بين المسلمين، بأن الرسول قد قتل، وبالفعل كاد الرسول أن يقتل في تلك المعركة، لولا أن أحاطت به ثلة من الصحابة، وراحوا يصدون عنه هجمات الكفار. موقعة الخندق: وشارك خالد قومه في موقعة الخندق، وكان يقود كتيبة كبيرة من فرسان قريش والأحلاف، وقد قاتل سحابة النهار وقسما من الليل، ولم يتوقف عن القتال إلا بعد أن تحاجز الفريقان، وكان عنيدا في قتاله، لم ييأس من وجود الحاجز بينهم وبين المسلمين، فكان دائم التحفز، يحاول مداهمة الخندق، وكاد أن يحقق ذلك لولا أن تصدى له المسلمون الأبطال، وكان خالد آخر من ترك حومة القتال بعد أن يئس المشركون من عبور الخندق. الحديبية وفي عام الحديبية، تصدى خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء سيره لمكة، وكان معه مائتا فارس، قادهم ليحول بين النبي وبين دخول مكة، ولما حان موعد صلاة الظهر صلى الرسول بأصحابه صلاة الخائف، هم بمهاجمتهم لكنه امتنع عن ذلك وقد بين السبب في تراجعه هذا بعد إسلامه فقال : ولقد هممت بمهاجمتهم وهم في صلاتهم وما منعني إلا ما استشعرت به من حقارة وخسة، إن أنا غدرت، فلا يزال المرء يحتقر نفسه، إن تخلى عن شهامته ورجولته، وهو إن أصاب خصمه، فلا فضل له في ذلك. إسلامه: كان خالد يجلس في بيته وحيدا، حين هاجمته أفكار كثيرة، قد يكون مبعثها ما رآه من تصميم المسلمين على نشر الدعوة، كما قد يكون مبعثها في عدم إيمانه العميق بما يعبد قومه. وبينما هو كذلك إذ صاح في أعماقه صوت قوي يدفعه إلى إتباع محمد فقد أدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد، والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين فقال: والله لقد استقام المنسم .. وإن الرجل لرسول.. فحتى متى العناد والمكابرة؟ لابد أن اذهب لمحمد أعلن إسلامي.. .. وهو يحدثنا عن رحلته من مكة إلى المدينة، ليأخذ مكانه بين قافلة المؤمنين فيقول: .. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد، فأسرع بالإجابة، وخرجنا جميعا، فأدلجنا سحرا.. فلما كنا في السهل إذا عمرو بن العاص، فقال: مرحبا بالقوم، قلنا: ولك.. قال: أين مسيرتكم؟ فأخبراه.. وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي .. فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان للهجرة، فلما اطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوة، فرد علي السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق. فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا، رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير.. وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صد عن سبيل الله.. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الإسلام يجب ما كان قبله. فقال خالد: يا رسول الله على ذلك. فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله. وتقدم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. جهاد خالد: أحب الرسول صلى الله عليه وسلم خالدا لشهامته وصدقه، وحقق خالد حسن ظن الرسول به، فأخلص للدين الجديد، ووهبه نفسه. ولقد فاز خالد بثقة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ إسلامه، فأصبح دعامة متينة من دعائم الدين، ومما عزز هذه الثقة ذلك الموقف الشجاع الذي وقفه في معركة مؤتة بعد شهرين من إسلامه.. ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد الراية لزيد بن حارثة وأخبر الصحابة بأنه إذا قتل زيد فجعفر بن أبي طالب ثم إذا قتل جعفر فعبد الله بن رواحة. دارت المعركة وكانت غير متكافئة فاستشهد زيد ثم جعفر بن أبي طالب ثم لحقهم عبد الله بن رواحة فارتبك المسلمون فقد أصبحوا بلا قائد، وسقطت الراية، وكان ثابت بن أقرم قريبا منها، فسارع إلى رفعها قبل أن تطأ الأرض، وتوجه مسرعا بها إلى خالد بن الوليد، وقال له: خذ اللواء يا أبا سلمان.. لم يكن خالد يطمح في هذا الشرف، فهو حديث عهد بالإسلام، وفي القوم من المهاجرين والأنصار من سبقوه إلى الإسلام.. فما كان منه إلا أن قال لثابت: لا.. لا آخذ اللواء فأنت أحق به مني، فقد شهدت بدرا فلك القدر والمنزلة الرفيعة.. فأجابه ثابت: خذه يا خالد، فأنت أدرى مني بفنون القتال، فوالله ما رفعته إلا لأحمله إليك. ثم صاح ثابت بالمسلمين: أترضون إمرة خالد؟ فأجابوا جميعا: نعم. اعتلى خالد صهوة جواده، ورفع الراية بيمناه إلى الأمام.. ولم يكن بوسعه أن يستمر في القتال بمن تبقى من جيش المسلمين، ولذا صاح بالمسلمين: اتبعوا الراية يا رجال.. هلموا جميعا.. اتبعوني.. وبعد أن ابتعد خالد بالجند عن أرض المعركة جلس الجميع ليستريحوا فقال لهم: والله ما قصر أحدنا ولا انثنى، ولكن إصرارنا على القتال يعني الانتحار فالحرب كر وفر.. ثم راح خالد يناوش الروم والجنود ينسحبون، حتى أوغلوا في الصحراء بعيدا عن الروم ولم يتعقب خالد الروم حتى لا يكتشفوا خطته، في حين خشي الروم أن يتعقبوا جيش المسلمين، مخافة أن يكونوا قد نصبوا لهم كمينا في الصحراء. أصيب بعض المسلمين بخيبة أمل بعد أن عرفوا نتيجة الغزوة فأفضى بعضهم بعبارات أزعجت الرسول صلى الله عليه وسلم فقد سمع بعضهم يخاطب بعض جنود المسلمين: يا فرار، فررتم عن سبيل الله. فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا .. ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار .. ما خالد إلا سيف من سيوف الله. ومنذ ذلك الحين سمي خالد: سيف الله المسلول. القيادة يوم فتح مكة: جمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجاله ذات يوم، وأمرهم أن يجهزوا أنفسهم، ويحملوا أسلحتهم وهم لا يدرون ما يقصده الرسول من ذلك وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاول تعمية الأخبار حتى لاتصل إلى قريش بقصد مفاجأتهم وهم على غير استعداد. وما إن وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة حتى جعل خالد بن الوليد على جناح الجيش الأيمن، وكان رجال من قريش قد رصدوا الباب الذي دخل منه خالد وجنوده، فجمعوا له جمعهم وحاولوا منعه من التقدم، فشهروا السلاح، ورشقوه بالنبال، فاضطر إلى مقابلتهم بالمثل، فقتل منهم قرابة الثلاثين، ولما انتهى خبر ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غضب وقال: ألم أنه عن القتال؟ فقالوا: إن خالد قوتل فقاتل. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قضاء الله خير.. لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة. خالد بن الوليد وهدم العزى: ندب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ببضعة أيام خالد بن الوليد مع ثلاثين فارسا لهدم العزى وهي أحد الأصنام التي كان يعبدها العرب، وكان أبوه نفسه الوليد بن المغيرة يتمسح بها، وينحر لها الإبل والأغنام، فلم تكن مهمة هدم معبود من المهمات اليسيرة، التي يستطيع أن يقوم بها أي شخص، لكن خالدا ليس إنسانا عاديا، وليس أي شخصن ولذا فقد خرج حتى انتهى إلى العزى فهدمها وخرجت له من تحتها امرأة سوداء عارية ناشرة شعرها، فضربها خالد بسيفه، وشقها نصفين وبذلك قضى على معلم من معالم الوثينة في الجزيرة العربية . خالد وحرب المرتدين: بعد أن التحق الرسول الكريم بالرفيق الأعلى، وآلت الخلافة إلى أبي بكر الصديق، هبت أعاصير الردة قوية ماحقة، فوجدت شرخا كبيرا في البناء الإسلامي الذي شاده الرسول صلى الله عليه وسلم طوال السنوات السابقة.. فقد كان قسم من المسلمين لا يستهان به، قد دخلوا الإسلام دون أن تكون لديهم قناعات بذلك، إذ رأوا الناس يسلمون فأسلموا، وخاصة بعد فتح مكة.. ولهذا كان من السهل ارتدادهم إلى الكفر بعد الإسلام، واتخذوا من رفضهم الزكاة ذريعة لرفض الإسلام، وادعوا أن الزكاة ليست إلا كالجزية التي يدفعها المستضعفون المغلوبون في حروبهم مع المسلمين.. ولكنهم حقيقة كانوا يرون أن قبائلهم فقدت زعامتها، وهم يريدون العودة إلى العصبية القبلية، وغلى كل مخلفات العهد الجاهلي التي حاربها الإسلام. لم يسكت أبو بكر عن المرتدين وأرسل خالد على رأس أحد الجيوش التي أعدها لمحاربة المرتدين فسار خالد بجيشه إلى بني أسد، وكان منهم شخص قد ادعى النبوة، واسمه: طلحة الأسدي، وعرف باسم المتنبي الكذاب. ودارت المعركة بين خالد وطلحة، وكانت حربا قاسية، قاتلت فيها بنو أسد وفزارة ببسالة، ولكن إيمان خالد وجنوده، وشجاعتهم التي مازالت أحاديث الأجيال، حطمت تلك البسالة، وقهرتها، فانتصر خالد ومن معه من المسلمين وقضى على تلك النبو الكاذبة وردهم إلى الحق والدين. سار خالد بعد ذلك لمحاربة مالك بن نويرة، سيد بني يربوع لأنه منع الزكاة وارتد عن الإسلام، ولما وصل خالد منطقة البطاح، بث جنوده، فجاءوا بمالك وجماعة من قومه وحبسوهم، ثم قضى عليهم جنود المسلمين. قتال خالد مسيلمة الكذاب : توجه خالد بعد ذلك لحرب مسيلمة الكذاب، وكان قد ادعى النبوة وهو من بني حنيفة، ويسكن اليمامة، وقد كان أشد المرتدين عنفا، وأصلبهم عزيمة، وقد استعد لملاقاة خالد، فاستنفر قومه، فلبوا الدعوة، حتى بلغ عدد جيشه أربعين ألفا. التقى الجيشان فكانت معارك رهيبة انتصر فيها خالد في النهاية.. وصالحت بنو حنيفة خالدا بعد ذلك، وغنم ما عندهم من الخيل والإبل ، وكان بنو حنيفة من أعظم قبائل ربيعة وأكثرهم عددا وجرأة، وكانوا يسكنون قرى عامرة بالمزارع الخصبة. وقد بعث خالدا وفدا من بني حنيفة إلى المدينة ليتفاوضوا مع أبي بكر، وليقدموا له الولاء والطاعة فعقد لهم صلحا. فتح العراق: كان أبو بكر يدرك خطر قوى الشر الجاثمة وراء حدود الدولة الإسلامية، لذا فقد أعد العدة لنشر الدعوة في أنحاء المعمورة والتي كان يحكمها في ذلك الوقت أكبر دولتين الفرس والروم. وأرسل الخليفة أبو بكر، يأمر خالد بن الوليد بالتوجه إلى العراق.. وكان هرمز نائبا لكسرى على العراق.. واستهل خالد عمله في العراق بأن وجه كتابا إلى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه يدعوهم فيها إلى الإسلام أو الجزية أو القتال. وحين وصل الكتاب إلى هرمز، عزم على القتال وجمع جنوده وتوجه لقتال المسلمين، حيث ربط جنوده بالسلاسل كي لا يفروا.. وتلاحم الفريقان وقتل من الفرس خلق كثير، ولم يتمكن من النجاة إلا قلة قليلة، لأن السلاسل كانت تشدهم وتحد من تحركاتهم ولذا فقد سميت هذه المعركة بذات السلاسل وقد استولى فيها خالد على قلنسوة هرمز المزينة بالذهب والجواهر، ومثل هذه القلنسوة لم يكن يلبسها في فارس إلا الأشراف، وقد منح أبو بكر هذه القلنسوة لخالد، مكافأة له على بطولته، وقد ترتب على هذه المعركة، أن استولى المسلمون على ميناء الأيلة الهام. ثم تابع خالد فتوحاته في العراق، وكان صيته يسبقه، فيفعل في أعدائه فعل السحر فلقد كان لانتصاراته الباهرة أثر كبير في تحطيم معنويات أعدائه. فتح بصرى: جند أبو بكر أربعة جيوش لمحاربة الروم وأمر خالد بالتوجه إلى بلاد الشام لنصرة الجيوش الإسلامية هناك، وليكون أميرا لكل الجيوش الإسلامية، فترك العراق ومعه من اختاره من جنوده لمرافقته في هذه المهمة.. .. سار خالد وجنوده يصلون النهار بالليل، والليل بالنهار، وقد تمكن من فتح سوى في طريقه وتابع سيره فبلغ القريتين وكانت مدينة قريبة من تدمر محصنة تحصينا جيدا، فحارب أهلها وهزمهم، واستمر في سيره يفتح المدن والحصون، حتى أدرك مضارب العسانيين .. فحاصر مدينة بصرى وكانت قلعة حصينة للروم، وتعتبر مفتاح بلاد الشام آنذاك، وكان قد حاصرها قبله، ثلاثة قادة من قادة المسلمين هم: أبو عبيدة وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان فاستعصت عليهم، ولكن خالدا لم يغادرها إلا بعد أن اخضع أهلها ووافقوا على دفع الجزية، وكان لهذا أثر كبير في تحطيم معنويات الروم. معركة اليرموك: قرر قادة جيش الروم، حشد كل جنودهم في معركة واحدة، فيجهزون خلالها على العرب، فلا يبقى لهم وجود، وأدرك خالد ما ينويه الروم، ولذا فقد عبأ جيشه وقسمه إلى فيالق، ووضع خطة هجوم وخطة دفاع بحيث تناسب هذه الحرب مستفيدين مما عرفه من أساليب قتال الفرس في العراق، والروم أثناء قدومه من العراق إلى الشام. دارت المعركة كما توقع خالد، ولذا فقد جاءت خططه مناسبة تماما فتم تنفيذها خطوة، خطوة ولقد كان يتمثل عبقرية النصر بالثبات، فهروب واحد أو اثنين من الجيش قد تسبب كارثة، ولذا فقد كان صارما جدا في تحذيره لمن يلقي سلاحه، أو يفر من المعركة، فقد دعا نساء المسلمين وسلمهن السيوف، وجعلهن خلف جيش المسلمين، وأمرهن بقتل من تسول له نفسه الفرار من المعركة. دار قتال ليس لضراوته نظير، أقبل الروم فيه فيالق تتلو فيالق، كانت كأنها جبال تتحرك، وكان جيش المسلمين يندفع كالقذيفة، فبدأ للروم من المسلمين، ما لم يكونوا يحسبون، فقد رسم المسلمون لوحات رائعة لفدائية لم يشهد لها التاريخ مثيلا. كان خالد يقود جيوش المسلمين، حين جاء بريد المدينة، وكان فيه كتاب من عمر بن الخطاب، خليفة المسلمين الجديد، إلى أبي عبيدة، يبلغه نعي أبي بكر الصديق وتوليه أمر المسلمين من بعده، ثم يحيى صمود المسلمين في حربهم مع الروم، ويأمر بعد ذلك بتنحية خالد عن قيادة جيوش المسلمين، وتعيين أبي عبيدة مكانه.. وقد أخفى أبو عبيدة الكتاب إلى أن انتهت المعركة، فقد كان حريصا على استمرار قوة معنويات جنود المسلمين، وقد بات النصر وشيكا، وسواء أكان كتاب عمر، جاء لخالد حسب بعض الروايات أم لأبي عبيدة فلم يكن خالد من ذلك الطراز الذي يهمه شيء من هذا القبيل، ولذا فقد قال بعد أن انتهت المعركة: أنا لا أقاتل من أجل عمر، وإنما أقاتل في سبيل الله إنه يرى أن لا فرق بين أمير الجيش وأي جندي منه، كل منهما يؤدي واجبا وفرضا عليه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي ارتضاه عن قناعة وسار تحت لوائه. فتح دمشق وبلاد الشام: امتثل خالد بن الوليد لأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وأصبح تحت إمرة أبي عبيدة وسار معه باتجاه دمشق، وكانت حصن الشام، ومقر قائد الروم، وعلى أبواب دمشق، عسكرت جيوش المسلمين، وقد أنيطت مهمة الباب الشرقي بخالد بن الوليد وكان هذا الباب من أمنع أبواب دمشق. وفي يوم من أيام القتال ولد للبطريق فسطاس ولد وأحب أن يحتفل بهذا الحدث، فكان احتفالا كبيرا، انهمك الروم خلاله بالولائم، وغفل الجند عن مواقعهم، وكان خالد بن الوليد يرصد كل ذلك، وهو القائد الفذ، صاحب البصيرة النيرة، والشجاع الذي لا يشق له غبار، فلما جثم الليل، نهض خالد وجنده، وبعض قادته ومنهم القعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي، فقال لهم خالد: إذا سمعتم تكبير على السور، فصعدوا، واقصدوا الباب ولا تتوانوا.. تقدم خالد وصحبه إلى السور، حيث صعد القعقاع ومذعور، وعلقا عليه حبالا، استخدمها الجند في الصعود، واعتلى خالد سور دمشق، وأمر المؤذن بالتكبير، فدوى صوته مجلجلا بذكر الله، وما إن سمع بقية الجنود التكبير حتى هرعوا إلى الباب، وقضوا على حراسه وفتحوا الباب الشرقي، مما أذهل الروم، وملأ قلوبهم رعبا، فقد كان الروم يخافون خالد بن الوليد، ولذا فقد أسرعوا إلى باب الجابية وطلبوا الأمان، فقابلهم أبو عبيدة عند باب الجابية وكان معه خمسة وثلاثون صحابيا فكتب لهم الأمان. استكمال فتح الشام بعد سقوط دمشق في أيدي المسلمين سار خالد لاستكمال فتح بلاد الشام ووصل الحاضر حيث التقى جيش الروم بقيادة ميناس فنشب قتال مرير قضى خالد فيه على ميناس ومن معه، وقد أمن خالد أهل المدينة، وتابع سيره حتى نزل قنسرين، فدافع الروم عنها ببسالة، وضرب المسلمون حول المدينة حصارا محكما، ولما يئس الروم من القتال، طلبوا الصلح من خالد، فصالحهم خالد بعد أن خرب المدينة، عقابا لهم على مقاومتهم، ذلك أنهم لم يطلبوا الصلح إلا بعد أن بذلوا كل ما لديهم من جهد. انطلق خالد بعد ذلك يجوب سهول سورية فيقضي على كل من تبقى من الروم، وكان ظله يتقدمه فيرعب اسمه الأعداء، حتى أن هرقل اضطر أن يغادر الرها هاربا إلى القسطنطينية، وقبل أن يغادر بلاد الشام قال: السلام عليك يا سوريا، سلاما لا لقاء بعده. .. وهكذا سقطت بلاد الشام كلها في يد المسلمين. نهاية البطل: اختار خالد بن الوليد حمص لتكون سكنا له، حيث بقي فيها إلى أن وافته المنية، ولشد ما حز في نفس خالد أن يموت على فراشه، فقد تمنى أن تكون منيته وسط المعارك، فيقع شهيدا في سبيل نشر راية الإسلام، ولهذا قال حين أعياه المرض: ما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم.. ثم ها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء... وقبل أن تفارق روحه جسده الطاهر، أملى وصيته لعمر بن الخطاب ولم يكن لديه مالا يوصي به، كل ما كان لديه، سلاحه وفرسه، وقد أوصى الفاروق أن يقدمها هدية للجهاد المقدس، ولما بلغت وصيته عمر، حزن كثيرا وقال: رحم الله خالدا، كان على غير ما ظنناه به.