صلاح الدين الأيوبي

أصله وولادته : ينتمي صلاح الدين إلى عائلة كردية، كريمة الأصل، عظيمة الشرف، هذه العائلة ملكت مصر والشام، وعرفت بالدولة الأيوبية، وتنتسب هذه العائلة إلى قبيلة كردية تعد من أشراف الأكراد نسبا وعشيرة، هذه القبيلة تعرف بالروادية من بطون الهذيانية وهي من أكبر القبائل الكردية. وينتسب صلاح الدين إلى نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان الكردي. من هذه الأسرة العريقة في حسبها وشرفها ولد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 532هـ الموافق 1137م. أما المكان الذي ولد فيه فهو قلعة تكريت وتكريت كانت بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى الموصل، وقد قامت في طرفها الأعلى قلعة حصينة على دجلة، بناها ملوك الفرس منذ القدم على حجر عظيم، وجعلوها مخازن للذخيرة، ومرصدا لمراقبة العدو، ثم افتتحها المسلمون في السنة السادسة عشرة من الهجرة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه. نشأة صلاح الدين وتعليمه: هاجر الأخوان نجم الدين أيوب وشيركوه من بغداد إلى الموصل حيث نزلا عند عماد الدين زنكي الذي رحب بالأخوين ترحيبا عظيما وأجرى عليهما المنح والعطايا.. فأقطعهما أرضا ليعيشا عنده معززين مكرمين. عاش نجم الدين أيوب وأخوه شيركوه ومعهما المولود صلاح الدين في رعاية عماد الدين بأحسن مظاهر العز والإكرام، وأسند إليهما أعمال الجيش، ولما سقطت بعلبك في يد عماد الدين زنكي سنة 534هـ عهد بها إلى نجم الدين أيوب وعينه واليا عليها. فقضى صلاح الدين في بعلبك بعض سني طفولته، وتعتبر هذه السنوات الأولى التي قضاها في بعلبك من أسعد السنين وأهنئها ولاشك أنه درج على العز، ونشأ على الفروسية، وتدرب على الحرب والجهاد، ومارس السياسة وتدبير الأمور. انتقاله إلى دمشق وترقيه في المناصب لما استولى نور الدين بن عماد الدين زنكي على دمشق انتقل إليها صلاح الدين الأيوبي وكان ذلك في ريعان شبابه وتعتبر إقامته في دمشق هي الفترة التي أظهرت شخصية صلاح الدين الفذة، فكان محل احترام وتقدير. ومن المناصب التي أسندت إليه في دمشق، في عهد نور الدين زنكي، منصب رئاسة الشرطة. إذن فصلاح الدين نشأ في السنين الأولى من طفولته وفي العقد الثاني والثالث من شبابه على الفضائل الكريمة، والخصال الحميدة، واكتسب من مجالسته للأمراء، ومن مصاحبته للقواد العادات الأصيلة والمهارة الحربية، والغيرة الإسلامية، والشجاعة المادية والأدبية وهذا ما هله باستحقاق وجدارة لأن يكون الشخصية الفذة النادرة التي هزت الدنيا وحولت مجرى التاريخ. قضى صلاح الدين في بعلبك سني طفولته الأولى وأخذ يختلف إلى مكاتب التعليم ليتعلم منها القراءة والكتابة، ويحفظ القرآن الكريم، وبالإضافة إلى هذا تعلم من العلماء قواعد اللغة ومبادئ النحو كما يتعلم أولاد أمراء المسلمين. أما تعليمه الفروسية والرمي والولوع بالصيد وتدربه على الأعمال الحربية حيث كان من البديهي أن ينشأ صلاح الدين على هذا المنشأ لأن العصر الذي درج فيه هو عصر فروسية وصيد وقلاع.. فاجتمعت لديه الموهبة والذكاء والوراثة وملائمة البيئة مع التعليم والتدريب. أعماله وجهاده: توليه مصره : خرج صلاج الدين مع عمه أسد الدين شيركوه مناصرة لوزيرها فلما استقر بها الأمن عاد شيركوه وترك ابن أخيه على حامتها ثم بعد ذلك تفرد صلاح الدين بحكم مصر وأزال حكم الخلافة العبيدية منها وأعلن الدعاء والولاء للخلايفة في بغداد ،وتعتبر المدة التي قضاها صلاح الدين في مصر فتعد من أعظم الأيام التي أظهرت بطولته الفائقة وحنكته الحربية النادرة، فبتدبيره وذكائه وحسن تصرفه استطاع مع عمه أسد الدين أن يضم المملكة المصرية إلى نور الدين محمود، وكان ذلك سنة 564هـ. معركة حطين: لقد عمل صلاح الدين منذ توليه الحكم على مصر والشام على محاربة الفرنجة والصلبيين وطردهم من الساحل والمدن التي استولوا عليها من المسلمين وقد افتتح حصونا كثيرة ومدن عديدة حتى وصل بفتوحتها إلى قريبا من بيت المقدس فلما كان في اليوم الخامس والعشرين من حزيران سنة 1187م، وارتفعت الشمس في كبد السماء، حتى وقف صلاح الدين وسط جنوده، ينظم ويشجع، ويذكرهم بتاريخ الأجداد، وما يجب أن تكون همم الرجال. كان عدد الفرسان اثنا عشر ألفا، في حين بلغ عدد المشاة ثلاثة عشر ألفا، ويضاف إلى هؤلاء من انضموا من المتطوعين وهم كثر. وكان الفرنجة قد حشدوا اثنين وعشرين ألف مقاتل بين راجل وفارس في سهل صقورية. التحم الجيشان على بعد ميلين من حطين وأرهق المسلمون الفرنجة بشجاعتهم وبلغ الإعياء والتعب والعطش في صفوف الفرنجة فاتجهوا نحو بحيرة طبرية فوقف صلاح الدين مع ثلة من فرسانه كالسد المنيع فسقط منهم أعداد كبيرة ولم يبق مع ملكهم سوى جماعة من الأمراء وبضع مئات من الجنود فحملت عليهم ثلة من فرسان المسلمين، وإذا بخيمة الملك الحمراء تهوي، وإذا بالملك لوستنيان وبقية الأمراء يستسلمون وكان من بينهم أمير الكرك وأخو الملك. تحرير بيت المقدس: لم يكن صلاح الدين ينام منذ معركة حطين إلا القليل، وكان كل همه أن يتابع انتصاراته، فاستطاع في هذه المدة القصيرة أن يستولي على جميع المدن التي يحتلها الفرنجة في فلسطين ولبنان فلم يبق في أيديهم إلا صور وعسقلان وبيت المقدس. بدا صلاح الدين في المسير واتجه إلى عسقلان وكان معه أخوه العادل وولده العزيز عثمان، وشدوا الهجوم عليها، حتى استسلمت بعد عدة أيام، ثم استولى على حصون غزوة والقطرون وبنت جبريل وقد أكمل هذه الأعمال في شهرين كان خلالها ينتقل من ظفر إلى ظفر فغدت طريق القدس أمامه مفتوحة فسار إليها في العشرين من أيلول سنة 1187م ورغب أن يفاوض حاميتها على التسليم ولكنهم رفضوا فكان لابد من المواجهة، فأخذ يتفحص مداخلها حتى وجد المدينة من قبل جبل الزيتون أضعف من غيرها فاتخذ جبل الزيتون مركزا لجنده حتى إذا كان اليوم السابع والعشرين من رجب سنة 583هـ الموافق الثاني من تشرين أول سنة 1187م حمل المسلمون على المدينة، حملة رجل واحد، فتراجع الفرنجة عن مواقعهم ودخل المسلمون المدينة خلفهم وارتفعت أعلام المسلمين فوق أسوار المدينة. ولم يتخل السلطان صلاح الدين عن إنسانيته، فعامل الأسرى معاملة كريمة، وسمح لمن شاء بالبقاء في المدينة ولكنه أمر برحيل كل من اشترك في القتال خلال أربعين يوما. أقام صلاح الدين في بيت المقدس شهرا، بعد أن حقق حلم الأمة، وأعاد المدينة المقدسة. وفاته: ألقى صلاح الدين أعباء الحرب عن كاهله، وانتقل إلى دمشق التي كان يحبها، ويؤثر الإقامة فيها.. فبلغها يوم الأربعاء 26 شوال، 4 تشرين الثاني من تلك السنة. واستقبله الشعب استقبالا حارا، فاستغرقت مهرجانات السرور والابتهاج أربعة أشهر. وقد بدا السلطان خلال تلك الشهور، في منتهى الأنس واللطف، يداعب أولاده، ويباسط المقربين إليه، كأنه يودع هذه الدنيا، ويريد أن يترك فيها أثرا طيبا جديدا. وذات يوم، ليلة السبت 16 صفر عاد من استقبال الحجيج فشعر بتعب شديد، وغشيته الحمى، ثم فارق هذه الدنيا الفانية، وكان قد وقع في غيبوبة مدة ثلاثة أيام، فبكاه الناس في كل مدينة وقرية. وقد استغرق حكم صلاح الدين أربعا وعشرين سنة، أمضى فيها ست عشرة سنة في الجهاد، قانعا من الدنيا بخيمة تعصف بها الرياح، فجدد سيرة الأبطال الخالدين الذين طبعوا التاريخ بطابع لا يزول. أحبه الناس ووثقوا به، وآمنوا بصدقه ومروءتهن ورأوا فيه حاكما من طراز جديد.. أحسن إلى أعدائه، وحطم قيود أسراه، وعالج المسيئين إليه بالحلم والغفران، لشعوره العميق بمسئوليته الكبيرة ودوره التاريخي. سيرته العطرة وما قيل فيه: لعل أعظم ما في هذا الرجل زهده بحطام العالم فلما فتحت خزائنه لم يكن فيها سوى دينار واحد وسبعة وثلاثين درهما. وقد تحدث ابن جبير عن الأثر العميق الذي تركه صلاح الدين في نفوس الناس فقال: كان المؤذن في قبة زمزم إذا انتهى إلى ذكره في الدعاء، ارتفعت أصوات الطائفين بالتأمين بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنيات الصادقة.. لما وهبه الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل، وألقى عليه من محبة الناس، وعباد الله شهداء الله في أرضه.