فتح عمورية سنة هـ

أسباب الفتح: كان ملك الروم توفيل بن ميخائيل قد نقض العهد الذي بينه وبين المسلمين وخرج بجيش قوامه مائة ألف جندي إلى ثغور المسلمين فأوقع فيهم خسائر فادحة وتوجه إلى مدينة زبطرة فقتل الرجال وسبى النساء والأطفال، ثم أغار على ملطية وفعل بها ما فعله بزبطرة وزاد في غيه فسمل أعين الرجال وقطع آذانهم وجدع أنوفهم، وعاد ظافرا قبل أن تصل نجدات المسلمين، وكان من بين السبي امرأة هاشمية فصاحت وامعتصماه فبلغ حالها المعتصم وكان هو خليفة المسلمين في ذلك الوقت فقال: لبيك، لبيك ونهض من ساعته وأعلن النفير العام، وجهز جيشا كأحسن ما يكون عدة وسلاحا واصطحب معه خيرة قادته، مثل الأفشين وأشناس وإينتاح وجعفر بن دينار وعجيف بن عنبسة. وسأل عن أعظم مدن الروم مما يلي المسلمين فأخبر بأنها عمورية وأنها مدينة ملكهم.، فأمر بالتوجه إليها. محاصرة المدينة: اجتمعت كل العساكر بقيادة المعتصم عند عمورية، فركب المعتصم ودار حولها دورة كاملة وقسمها بين القواد، جاعلا لكل واحدا منهم أبراجا من سورها يحاصرها ويتابعها، وذلك على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا. أما أهل عمورية فقد تحصنوا داخل أسوار مدينتهم متخذين ما استطاعوا من الحيطة والاحتراز. وعلم المعتصم من عربي متنصر، تزوج في عمورية وأقام بها، أن موضعا من المدينة جاءه سيل شديد، فانهار السور في ذلك الموضع وبني بناء ضعيفا ولما علم المعتصم بذلك أمر بضرب خيمته تجاه هذا الموضع. نصب المجانيق وبدأ المعركة: نصب المعتصم أمام الموضع المنهار من السور المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى، وأمر برمي السور بكل قوة فانفرج السور من ذلك الوضع، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور، دعموه بالأخشاب الضخمة، كل واحدة إلى جانب الأخرى وسدوا الفرجة، إلا أنها لم تنفع شيئا فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فيهرع المحاصرون لتدعيم السور بأخشاب ضخمة، ليحموا السور من الانهيار، وعندما توالت قذائف المجانيق على هذا الموضع الواهن، انصدع السور، فكتب ياطس إلى تيوفيل كتابا يعلمه فيه بأمر السور، وحرج الموقف، وقوة الحصار ووجه الكتاب مع رجل يتقن العربية، ومعه غلام رومي، فلما خرجا من عمورية أنكرهما الجند فسألوهما: من أين أنتما؟ فأجابا: نحن من أصحابكم، نحن جنديان منكم في جيش أمير المؤمنين المعتصم، فقالوا لهما: من أصحابكم ومن قادتكم ؟ فلم يعرفا أحدا من قواد العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى المعتصم، فاستجوبهما، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى تيوفيل، يعلمه فيه أن جند المسلمين أحاطوا بعمورية في جمع كبير، وقد ضاق به الموضع وأنه قد اعتزم على أن يركب ويحمل خاصة من أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا على حين غرة ويخرج ومن معه، فيحمل على المسلمين كائنا ما كان بعدها، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، مهما كانت النتائج. وفي صباح اليوم التالي أمر المعتصم بالرجلين الأسيرين، فأداروهما حول عمورية ليحددا مقر ياطس ومكان وجوده فقالا: ياطس يكون في هذا البرج. فأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلا ونهارا، وشددها، وأمر أن تكون بين الجند تناوبا، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بكامل أسلحتهم، تحسبا من أن يفتح باب من أبواب عمورية ليلا، أو أن يتسلل من خلالها إنسان، فلم يزل جند المعتصم يبيتون كذلك بالتناوب على ظهور الدواب في السلاح، ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين، من الموضع الذي وصف المعتصم أنه لم يحكم عمله. وبعد انهدام السور تنبه المعتصم إلى سعة الخندق المحيط بعمورية وطول سورها فأمر ببناء مجانيق ضخمة، يعمل على كل منجنيق منها أربعة رجال وللوصول إلى السور كان لابد من ردم أجزاء من الخندق، فدفع لكل جندي شاة لينتفع من لحمها، وليحشو جلدها ترابا، ثم أمرهم بحمل الجلود المملوءة ترابا، وطرحها في الخندق. كما أمر المعتصم بأن تردم جوانب من الخندق المحيط بسور عمورية، مستفيدة من جلود الغنم المملوءة ترابا، كي يمكن لأبراج الخشب المغلف باللبود والجلود المنقوعة في الخل والمثبت على قاعدة خشبية لها عجلات، من الوصول إلى السور. وفي صباح يوم جديد من الحصار بدأ القتال على الثلمة التي فتحت في السور ولكن الموضع كان ضيقا، لم يمكنهم من اختراق الثلمة، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض، وجعلها تجاه الثلمة وأمر أن يرمى ذلك الموضع لتتسع الثلمة، ويسهل العبور، وبقي الرمي ثلاثة أيام فاتسع لهم الموضع المنثلم. حال الروم داخل عمورية: تقاسم القواد عندما نزل بهم عسكر المعتصم الأبراج، لكل قائد وأصحابه عدة أبراج، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم اسمه وندوا فقاتل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار، والحرب عليه وعلى أصحابه ولم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان الليل مضى وندوا إلى قومه، وقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة. فأبوا أن يمدوه بأحد، وقالوا: سلم السور من ناحيتنا وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم وندوا وأصحابه على أن يخرجوا إلى المعتصم، ويسألوه الأمان على أهليهم، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من المتاع والسلاح. فلما أصبح وندوا جعل رجاله على جانبي الثلمة، وأمرهم ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، وخرج فقال إني أريد أمير المؤمنين فأوصله بعض لجند العرب المسلمين إليه. بداية الفتح وسقوط عمورية: وأعطى المعتصم وندوا ما أراد من أمان له ومن بجبهته من الرجال ثم ركب المعتصم حتى جاء فوقف حذاء البرج الذي يقاتل فيه ياطس، فصاح بعض الجند العرب: ياطس هذا أمير المؤمنين فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، فغضب المعتصم لكذبهم، وتوعدهم، فصاحوا: هذا ياطس، هذا ياطس، فصعد جندي على أحد السلالم التي هيئت أثناء الحصار، وقال لياطس: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج، والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، ودفعه إلى الجندي العربي الذي صعد إليه، ثم نزل ياطس ليقف بين يدي المعتصم، معلنا سقوط عمورية، بيد المعتصم وجنده. فدخله المعتصم منتصرا وسلمت إليه المدينة بكل ما فيها من سلاح وعتاد وانتصر المسلمون في هذه المعركة انتصارا عظيما .